الغارة السعودية على صنعاء… للكذب والجريمة حدود

ناصر قنديل

– تقول تقارير الأمم المتحدة إنّ ثلاثمئة قتيل هي حصيلة الغارات السورية والروسية في شرق حلب خلال شهرين، وتقول المعلومات المنشورة على صفحات تنسيقيات الجماعات المسلحة إنها خسرت أكثر من مئتين من عناصرها في عمليات القصف التي استهدفت مواقعها في شرق حلب، ورغم ذلك بلغ عدد الزيارات الدبلوماسية الرفيعة المستوى والاجتماعات الثنائية والمتعدّدة الأطراف، وصولاً لعقد مجلس الأمن الدولي لثلاث مرات، وتعليق العمل بالتفاهم الروسي الأميركي المبني على معادلة السعي لحلّ سياسي والتعاون في الحرب على الإرهاب، وصدور اتهامات عن رؤساء دول مثل أميركا وفرنسا لروسيا بارتكاب جرائم حرب، وتصدّر الأمين العام للأمم المتحدة الواجهة في حملة بذيئة ضدّ روسيا، ومشاركة مبعوثه التفاوضي في الهجمة نفسها، قبل أن تفوّض إليه جبهة النصرة البحث بإخراج عناصرها من شرق حلب، والهدف المرفوع حظر الغارات الجوية، بل وحتى الطلعات الجوية الروسية، وقبلها طلعات سلاح الجو السوري في السماء السورية، والذريعة الحرص على المدنيين، وفي يوم واحد وبضربة واحدة تقول التقارير من صنعاء إنّ اربعمئة وسبعة وعشرين سقطوا ومعهم مئات الجرحى في مجمع ومناسبة مدنيتين في قلب العاصمة اليمنية صنعاء. وسقف ما يُقال على كلّ مستويات الحكومات الغربية، والمنظمات الأممية، لا يتعدّى الأسف على الضحايا، والأمر ليس عائداً لأكذوبة الحاجة للتحقيق «لمعرفة ملابسات التفجير». كما كان التحقيق ذريعة التغطية وتمرير الوقت في التعامل مع مجزرة قانا قبل ربع قرن في العدوان «الإسرائيلي» على جنوب لبنان، فقد تصدّرت الصفحات الأولى لـ «نيويورك تايمز» والـ «واشنطن بوست» و»الغارديان» و»الأندبندنت» عناوين واحدة تقول، مقتل المئات في غارة سعودية على صنعاء، والصحف الأربع ليست موالية للحوثيين ولا هي مَن اعتاد تبنّي روايتهم، بل لأنّ الغارات كسبب للمجزرة ثابتة فوق النقاش تستطيع السياسة التلاعب بها، لكن حدود الصحافة وهوامشها لا تحتمل هذا الحدّ من العبث.

– الغارة عيّنة مكثفة لحدث جامع، بقوة الدماء التي سالت، والمأساة التي حلّت، تتيح كما الخزعات الجينية استكشاف الحمض النووي والخريطة الجينية، عن الجسم البشري كله، رغم صغرها، ففيها يختزن كلّ ما يجب معرفته، بما في ذلك العناصر الوراثية وهوية المورث. ففي الغارة بوقع الألم الذي تسبّبت به، وحجم العصف الذي حملته للمبنى المدمّر، إثارة لعفوية المشاعر الإنسانية وآلية انفعالات الماكينات السياسية والدبلوماسية الغربية، وعصفاً فكرياً موازياً للتساؤل حول كيف يشتغل أيضاً عقل القرار السعودي وماكيناته السياسية والإعلامية، بمجرد معاينة كيفية التوظيف الغربي المواظب والمثابر بلا توانٍ وبتناوب على الملاحقة بين فرنسا وأميركا وبريطانيا وألمانيا والأمم المتحدة، لملاحقة روسيا، أملاً بالفوز بقوة الضغط المعنوي والسياسي، والإعلامي والأخلاقي المفتعل قياساً بالموقف من غارة صنعاء، وما سبقها من عدوان همجي وحصار متوحش وجوع زاحف وفقر لا يحتمل ونزوح إلى نزوح بلا بر ولا بحر ولا جو، حتى يصير نزوح وجوع وفقر المحاصرين في شرق حلب خمسة نجوم بالقياس لما يعانيه اليمنيون، فينكشف خداع اللعبة البصرية التي يتمّ التلاعب بفتحة العدسة والإضاءة، والكادر، واستخدام المؤثرات الصوتية التي يوفرها هنا توظيف الرؤساء والوزراء وكبار الموظفين ونجوم هوليوود أكثر من مباح، بل ضرورة تبرّر مراكز هؤلاء وما يبذل لبقائهم في أماكنهم وألقابهم ونجوميتهم، لتظهير إحدى الصورتين ورمي الظلال بالتساؤلات فوق الأخرى. فهذه ليست مجرد لعبة مسموحة في خدمة السياسة، بل هذه هي السياسة، ويصبح في المقابل القبول بدخول التفاوض تحت الشعار الإنساني في شرق حلب، خضوعاً لقواعد لعبة مبرمجة على البارد لا علاقة لها بحرارة الدماء الحقيقية والمعاناة الحقيقية، في حلب وغير حلب. وتصير المسؤولية عن الدماء لها ترجمة واحدة هي الإدراك أنّ الأمر في السياسة كله والتفاوض لا يكون إلا في السياسة، مَن وماذا تريدون أن تنقذوا في شرق حلب؟

– بعد الغارة التي قتلت بدم بارد مئات اليمنيين، دون فرصة ادّعاء الاشتباه بمركز عسكري، أو إصابة خاطئة، لا يبقى ثمة مبرّر للنقاش حول علاقة ما يقوله السعوديون من ملكهم إلى أدنى مستويات الخدم الدبلوماسي والسياسي والإعلامي في بلاطه وديوانه، بأسباب إنسانية تتصل بموقفهم مما يجري في سورية، ولا بأسباب تتصل بحساب سياسي يتعامل مع اليمن كبلد شقيق، وشعب شقيق تعتري العلاقة ببعض منه أزمة وتضارب مصالح ومواقف، فنحن هنا، لا نحتاج لمفردات الحصار والتجويع والدمار، وأكاذيب العسيري عن عاصفة الحزم، ولا لبلاغات مؤسسة سلمان عن المساعدات، الغارة تكفي لرسم الخريطة الجينية للعلاقة السعودية بالشأن الإنساني، فتفضح الكذبة السعودية في سورية، وترسم الحمض النووي للعقل السعودي في النظر لليمن، فمَن قرّر ومَن حضّر ومَن نفّذ، ومَن برّر ومَن حلّل ومَن كذب ومَن نافق ومَن سوّق ومَن روّج، كلهم منافقون في كلّ حديث عن الإنسانية، وكلهم يعاملون اليمنيين كما يعامل الصهاينة العرب في فلسطين، كتلاً فائضة من اللحم لا حاجة لوجودها إلا لإيصال الرسائل وخدمة الأغراض الخبيثة، وتحقيق الأحلام والأوهام المريضة.

– إنّ الفهم البارد لهذا الحدث الحار، يفرض بقوة إدراك الفارق بين صدق الإيمان بالإنسانية في محور المقاومة وحلفائه، من سورية إلى العراق واليمن، في كلّ حرب يخوضها أطرافه، وفي المقابل الضعف في امتلاك أدوات وآليات مماثلة لما تمتلكه جبهة أعدائهم دبلوماسياً وإعلامياً، في التعميم والتوظيف والتسويق، دون الحاجة للعبة التضخيم والافتعال. فالدم وحده يتكلّم، ويكفي المثال الحي الحاضر في شمال سورية بالمقارنة بين شرق حلب وبلدتي كفريا والفوعة المحاصرتين وشبه المنسيتين في كلّ حديث عن الحلول والتسويات، كما هو نص دي ميستورا، وهذا يستدعي مع اعتراف بالضعف الموضوعي، تعويضه بخطط عمل تستند لتوظيف مصادر القوة التي يمتلكها أطراف هذا المحور. وعناصر القوة هنا، هي التماسك بين الحلفاء، مقابل تضعضع الحلف المقابل، وامتلاك قدرة التحكم بصناعة الحلول والتسويات، وربطها بدفاتر شروط إنسانية تفضح الكذب والجريمة. وهنا تحضر معادلتان راهنتان، الأولى تشاور رفيع المستوى بين موسكو وطهران ودمشق وصنعاء، ينتج مشروع قرار تتقدّم به موسكو بحظر الطيران في سماء اليمن بعد الغارة، وليسقطوه بالفيتو، والثانية ربط أيّ بحث بتسويات لشرق حلب بمثلها للفوعة وكفريا، وليرفضوا التسوية بسببه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى