معركة الموصل بدأت… فما المسار والتداعيات؟

العميد د. أمين محمد حطيط

عندما فرغت القوات العراقية الوطنية من جيش وحشد شعبي وقوات عشائرية وطنية من احتواء الهجوم الأميركي على العراق الذي نفّذته داعش في العام 2014 ضمن خطة أميركية كبرى استهدفت كلاً من العراق وسورية، واعتمدت بعد فشل خطة الاخوان المسلمين في السيطرة على سورية بعد الفراغ من ذلك وانحسار داعش في محافظة نينوى العراقية واستمرار سيطرتها على الموصل أكبر مدن العراق بعد بغداد، كان منطقياً ان تتجه الدولة العراقية إلى الموصل لتحريرها والإجهاز على خطة داعش في العراق بشكل نهائي.

اما اميركا التي اتخذت من تمدّد داعش في العراق ذريعة لعودتها العسكرية إليه تحت عنوان التحالف الدولي الذي قادته فإنها ارادت ان تستمرّ في استنزاف العراق وتعهّد البيئة الانقسامية فيه ومنع تشكل عناصر توحيده بشكل يساهم في بناء العراق القوي المنيع. ولأنها لم تستطع رغم كل مناوراتها الاحتيالية أن توقف الزحف الوطني العراقي في سعيه لتحرير الأرض العراقية من الإرهاب التكفيري الصهيوأميركي المتمثل بداعش، فإنها ركبت موجة التحرير ووضعت خطة خاصة بها أسمتها خطة «إخراج داعش من الموصل». ليس تحرير وليس تدمير داعش .

لقد كانت الخطة الأميركية للموصل ولا زالت تقوم على اركان أساسية ثلاثة أولها عدم المس بالقدرات القتالية الفعلية لداعش، ثانيها نقل داعش من الموصل إلى شرق سورية من أجل تنفيذ خطة أميركا فيها بإطالة أمد الصراع، ثالثها منع عودة الموصل إلى حضن الدولة العراقية المركزية الوطنية والإمعان في إنشاء بيئة تقسيمية على أساس مذهبي طائفي فيها، وجعل الموصل عاصمة لإقليم سني في شمال غرب العراق يحاكي الإقليم الكردي شمال شرق العراق.

اما الحكومة الوطنية المركزية في العراق والتي أدركت أهمية معركة الموصل ليس في وحدة العراق فحسب، بل في أمن المنطقة برمّتها ومصير ال رهاب فيها ومصير الامن الإقليمي العام، فقد وضعت خطة «تحرير الموصل وتدمير الإرهاب فيها» بشكل بنتها فيه على أساس وطني وبمشاركة جميع القوى الوطنية العراقية، وفي طليعتها الحشد الشعبي، ورفضت وبشكل قاطع مشاركة تركيا بعملية التحرير لقطع الطريق على من يتصرف بذهنية طائفية مذهبية ويعمل لغايات استعمارية احتلالية تنتهك سيادة العراق. ولم تصل الخطة الوطنية العراقية إلى الحد الذي يرفض مساهمة التحالف الأميركي في معركة التحرير لأسباب ثلاثة: الأول تجنب المواجهة مع اميركا وهي في كل الأحوال لا تقدر اليوم على منعها من التدخل إن قررت. والثاني حاجتها للدعم الأميركي العملاني الجوي في الميدان والسياسي في الأروقة الدولية. أما الثالث فوجود معاهدة الإطار الاستراتيجي التي تجيز للعراق الاستعانة بالقوة الأميركية للدفاع عن أمنها الوطني. لذلك كان منطقياً وموضوعياً وواقعياً أن تراعي الحكومة العراقية في خطتها الواقع الأميركي في وجوه لا تتعارض مع الأهداف الاستراتيجية العراقية الكبرى.

نقول بذلك، لأنه وبكل وضوح كان التباين شاسعاً بين الخطة الأميركية لإخراج داعش من الموصل ونقلها إلى شرق سورية، والخطة العراقية لتحرير الموصل وتدمير قواها على الأرض العراقية دون تمكينها من التوجه إلى سورية لمتابعة اعمالها الإجرامية والإرهابية فيها، والتسبّب في المزيد من تعقيدات الحالة السورية.

أما في التنفيذ وسير العمليات فإن اعتماد الخطة الأميركية كان يفرض إجراءات محددة، ويقود إلى مسرحية سمجة تسمّى تحرير الموصل. فأميركا كانت تُعدّ للموصل عملية تبديل قوى ونقل السيطرة على الموصل من يد داعش التي تسيرها وتستثمرها إلى يد جماعات مسلحة أخرى فيها قوات تركية وعشائر سنية تعمل بعيداً عن القرار العراقي الوطني في عملية تسلّم وتسليم تذكّر في ما جرى في جرابلس السورية بين داعش والقوات التركية، حيث تمّت عملية التسلم والتسليم في اقل من 6 ساعات الوقت نفسه الذي تستلزمه عملية تبديل القوى. من دون أي مواجهة أو قتال يذكر. ولو نجحت أميركا في فرض خطتها لكانت قطعت الطريق على الحكومة العراقية في تحرير حقيقي للموصل ونجحت في تحشيد 12000 مسلح إضافي في المنطقة الشرقية في سورية، ولكانت بالفعل نجحت في استراتيجيتها المبنية على «إطالة أمد الصراع في سورية» ومنها في المنطقة.

أما الخطة العراقية الوطنية فكانت تقوم على منطق التحرير الجدي الذي يستلزم قتالاً فعلياً ومواجهة فعلية في الميدان، فعملية التحرير التي تريدها الحكومة الوطنية العراقية ستكون مختلفة كلياً عن مسرحية الاحتلال الداعشي للموصل ومسرحية الإخراج الأميركي لداعش من الموصل. ومن المفيد هنا ان نذكّر بأن داعش انتقلت من الرقة السورية إلى الموصل العراقية في رتل من 250 سيارة في أرض مكشوفة تحت مراقبة وحماية الطيران الأميركي الذي كان يفرض سيطرة جوية كاملة على الأجواء العراقية. ودخل الرتل إلى الموصل التي كان فيها أكثر من 25 الف عسكري عراقي تابع للحكومة العراقية، وبساعات تسلمت داعش زمام المدينة من دون طلقة نار واحدة وأعلنتها قاعدة انطلاق لبسط سيطرتها على كامل الأرض العراقية.

لقد اعتمدت الحكومة العراقية خطة معدّلة تأخذ بأساسيات خطتها الوطنية، وترضي اميركا في بعض التفصيلات التي لا تؤثر على الجوهر. وبالفعل نجح العراق الوطني في بلورة هذه الخطة المعدلة ووضعها موضع التنفيذ اعتباراً من منتصف الشهر الحالي تشرين الأول، وهو التاريخ الذي كنا توقعناه في آب الماضي لانطلاق المعركة، توقيت استفادت منه الحكومة العراقية لإجراء المزيد من تحشيد الطاقات والقدرات وتنظيم القوى وتهيئة البيئة العملانية، وخدم أميركا بشكل أو بآخر لقربه من الانتخابات الأميركية، حيث يمكّن الديمقراطيين من اتخاذ معركة الموصل والقرار بتحريرها وكسر داعش فيها رافعة لهم في الانتخابات.

واليوم، وبعد أن بدأت معركة الموصل بقرار عراقي واضح ونجاح عراقي في تجاوز كل الشروط والتحذيرات الأميركية والتركية والسعودية، والذهاب إلى الميدان بكلمة ويد عراقية واحدة أسقط أصحابها كل التباينات الداخلية في ما بينهم وبلوروا موقفاً عراقياً وطنياً واحداً عبر عنه بتلك الصورة التي جمعت مقتدى الصدر إلى العامري إلى الخزعلي. جمع لاقاه التأييد الوطني العالي النبرة الذي أطلقه كبير علماء أهل السنة العراقيين بعد انطلاق هذه المعركة الوطنية الكبرى. واليوم بعد البدء بالمعركة تطرح الأسئلة حول مصير المعركة ومدّتها ونتائجها وتداعياتها.

وإذا كان المقام يضيق الآن على الإجابة عن كل ذلك، فكل موضوع منها يلزمه جواب عريض يستوفي البحث، فإننا نكتفي الآن بعناوين أساسية، ونرى:

1 ـ نجحت الحكومة العراقية في فرض معاييرها وشروطها في معركة تحرير الموصل وأشركت الحشد الشعبي العراقي بشكل واسع النطاق ولم تعط أهمية للاعتراضات الإقليمية والدولية حول الأمر.

2 ـ نجحت الحكومة العراقية في منع الجيش التركي في المشاركة برياً في عملية التحرير وقطعت الطريق عليه في توسيع احتلاله لأرض عراقية جديدة خارج بعشيقة. وكان للعملية العسكرية والانتشار العراقي بين بعشيقة والموصل قبل بدء معركة التحرير دور فاعل في هذا النجاح.

3 ـ لن تكون معركة تحرير الموصل قصيرة أو سهلة، فهي ستكون معركة جدية بكل ما في الكلمة من معنى، ولن تكون مسرحية أميركية تركية تقوم على أساس تبديل القوى في عملية تسلم وتسليم.

4 ـ سيشكل خروج من يستطيع من داعش من الموصل، اختباراً جديداً لجدية أميركا وتحالفها في محاربة داعش، وإن كنا على يقين منذ الآن بأن اميركا هي صاحبة القرار بنقل داعش إلى دير الزور والرقة، ولأجل ذلك قصفت الجيش العربي السوري في محيط دير الزور لإخراجه منها لتهيئة البيئة فيها لاستقبال المزيد من جماعات داعش الإرهابية، ومع ذلك نقول إن حصول الإخراج والانتقال سيفضح أميركا مجدداً.

5 ـ إنّ نجاح داعش في الانتقال من الموصل إلى سورية سيلقي بأعباء قتالية إضافية على عاتق معسكر الدفاع عن سورية، ولهذا سيكون وبشكل خاص أمام الطيران السوري والروسي تحديات كبيرة لمعالجة الأمر على الحدود العراقية السورية لتدمير قوافل داعش المنتقلة من الموصل، حتى لا تتكرّر مسرحية الانتقال إلى الموصل في العام 2014.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى