لبنان والأردن والدور الوظيفي النازف…

د. رائد المصري

خريطة سياسية جديدة بدأت بالتبلور في لبنان على مستوى التحالفات الاستراتيجية يعمل بعض السياسيين على نسجها بما ينسجم مع الواقع والمتغيّرات الإقليمية والدولية. هي خريطة تتبدّل أولوياتها. فتارة تعلو وطوراً تخبو، لكن الجامع الوحيد لهذا الحراك التحالفي هو حرص كلّ طرف في الحفاظ على نصيبه من الكعكة الاقتصادية المستقبلية المتمثِّلة بالنفط والغاز، وبما يؤمّن لهم الديمومة والاستمرار في الحكم القهري لعشرات السنوات المقبلة.

لكن ثمّة تساؤلات مهمة وخطيرة لا بدّ من طرحها وهي تتعلّق بواقع المقاومة وسلاحها والموقف من سورية ومن الحرب عليها، والذي بات لازمة على لسان الرئيس سعد الحريري وفريقه السياسي رغم كلِّ معاناتهم وإفلاساتهم المالية والسياسية.

الحالة الاقتصادية الجديدة على المسرح اللبناني تتطلّب هدوءاً كبيراً في حجم المقاومة وقوتها، وبالتالي أريحية عسكرية يمرّ لبنان من خلالها الى حالة الاستقرار الأمني الطويل من أجل الاستثمار المالي النفطي وبناء تراكماتها الاقتصادية والمالية من دون أن نعرف مدى هذا التراكم ووجهته ومكان توظيفه والهدف من هذا التوظيف. فهل هذا الواقع المقرّر فرضه يتكرّس في الحالة العونية للرئاسة وبالحريرية السياسية بحلّتها الجديدة في السلطة التنفيذية؟

المستقبل السياسي القريب يشير الى معطيات في التسوية الإقليمية المزمع فرضها بالإرادات الإقليمية والدولية، عبر اصطفافات عسكرية تندرج في متنها المقاومة ضمن سياق منظومة وحلّ استراتيجي لتبقى قوة حيوية في الجيش اللبناني وقوة أساسية في الجيش السوري المرابض في الجولان. وعليه يحق لنا طرح علامات الاستفهام عمّن سيتولّى وزارة الدفاع في لبنان وأيّ جهة سياسية يُمكن أن نأمن لها في وزارة الدفاع الوطني وكذلك في وزارة الداخلية؟…

في مجمل القول هناك هيكلة اقتصادية في لبنان يُعاد تدويرها ومن خلالها الإمساك بخيوط اللعبة، لا بدّ أن تجد أدواتها الوظيفية في إعادة التموضع السياسي سواء بالنسبة لانتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية أو بالنسبة لحزب الله وللمقاومة والحرب في سورية، أو حتى بالنظر للدور السوري المرتقب في لبنان. وفي كلّ الأحوال تبقى الحالة الاستزلامية والتعليق على الخط السوري والمقاومة عند هؤلاء هي الأساس، ويُطلق العنان لهؤلاء المتزلِّفين وتدفن من جديد أفكار التغيير العلماني الديمقراطي والحكم المدني مع منظّريها لعشرات السنوات المقبلة.

هيكلة سياسية لنظام تعفّن وتداعى في لبنان جهد أبناؤه في طرح خيارات ديمقراطية صحيحة، وجلس السياسيون مئات المرات برعاية الرئيس نبيه بري على طاولة الحوار منذ ما يقارب العشر سنوات، لكن عبثاً كلّ المحاولات، وآخرها كان منذ انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان، فكان التحفُّظ على التشريع وعلى انتخاب الرئيس وعلى إعطاء المواطن حقوقه المسلوبة والمغتصبة… من دون الولوج الى أيّ حلّ بحدِّه الأدنى، بل على العكس تماماً بقيت لغة الاتهام للمقاومة ولسورية ولدورها من قبل سياسيين امتهنوا الأدوار الوظيفية باستمرار النزف في الخاصرة السورية والعربية. إنها حلقة التآمر بصيغة جديدة من داخل النظام، حيث وجدوا أنّ التسلّل والتخفّي أنجع وسيلة للطعن بالظهر وكشف المقاومة…

إنّها حالة البؤس العربية تُعيد إنتاج نفسها كلّ مرة، في بنية النظام اللبناني الرّيعي ذي الدور الوظيفي لحالة طوائفية تتآكل وتصرّ على الاستمرار والعيش على النمط الطفيلي وعلى حساب الآخرين. وبهذا يكون لبنان والأردن كأسوأ مثالين لأنماط من الحكم، تآمرية على الحالة العربية وعلى الحالة المشرقية. وهذا هو دأب ووظيفة الدولة الريعية لأنه في ظلّها تغيب مسؤولية المحاسبة في إعادة إنتاج سلطة جديدة، لا بل على العكس يتكرّس الدور التآمري كعامل إنتاجي في خدمة المشروع الاستعماري. ورأينا الحالة اللبنانية تاريخياً، والحالة الأردنية كذلك، بما مثّلت من أخطار كبيرة على القضية الفلسطينية ودورها، واليوم على سورية ودورها… فهو نظام ريعيّ قائم على فتات الأعطية الخليجية والأميركية وحتى الصهيونية لإبقاء هيكل النظام وشكله من دون فاعلية، بل على العكس تطويعه كي يلعب الدور المخرّب والاستنزافي في الجسم العربي والمشرقي. وهو ما كان منذ تاريخ تأسيسه بعد الحرب الأولى، كما هو الحال اليوم إذ يُعاد تفعيل خطوط السكك الحديدية لربط ميناء حيفا بجسر الشيخ حسين في الأغوار ويواصل مسيره إلى الأردن ومدينة إربد وصولاً إلى العاصمة عمان، وعلى هذه الشاكلة تسرِّع «إسرائيل» عجلة التطبيع من دون انقطاع.

وبالتوازي سعت المملكة السعودية جاهدة بما تمثِّله من رافعة لـ «فرسان» العرب التطبيعيين تمهيداً للمُقبل من تحالفات، بدأت خجولة وصارت وقحة صريحة عبر فتح المجال الإعلامي أمام إعلام الدعاية الصهيوني والمواقع الالكترونية لصحيفة «جيروزاليم بوست»، في مقابل خنق وحجب القنوات السوريّة والإيرانية الناطقة باللغة العربية ومئات المواقع الالكترونية السوريّة والعراقيّة وقناة «المنار» ومواقعها الإلكترونية. كلّ ذلك معناه أنّ عمليّة مدّ خطوط سكّة الربط بالكيان الصهيوني قد بدأت بخطوات سريعة وجريئة بانتظار اللحظة المناسبة التي تلتقي خلالها خطوط أسلاك الطرفين في أرض وسطيّة متمثِّلة بالأردن.

حجم التضحيات في مواجهة العدو التكفيري والعدو الصهيوني كبير جداً، ومن المعيب فعلاً أن تُقاس هذه التضحيات وتُسقط على موقع سياسي هنا أو تسوية هناك. فهو إنجاز يستحيل معه أن نناقش حتى عمليات التكاذب في العيش المشترك المحكوم به البلد… وعمليات التضليل والتخريب التي يمارسها البعض في الإعلام ويساوي من خلالها بين المقاوم والعميل، أو بين المحرِّر والتابع والمهزوم والمتآمر، بحجّة الواقع والعيش والعُرف وما إلى ذلك…! إنها مهزلة التاريخ في لبنان وفي الأردن والمنطقة… فكيف تُعاد صياغتها ببساطة بعد كلّ هذا الكمّ الهائل من حجم الدماء والشهداء؟

ينبغي أن يتشارك ويشارك في الحكم وفي صياغته كلّ من ضحّى ودافع عن القضية الوجودية لدولنا من الأخطار التكفيرية والصهيونية والتي يبدو أنّ البعض بنى عليها وراهن لنجده اليوم يتصدّر الموقف السياسي ويصيغ حكماً وطبقاً اقتصادياً على هواه لسنين طويلة…

لكن الأهمّ في لبنان أنه لا يمكن لرئيس أو لمتبوّئ السلطة التنفيذية من خلال منصبه وعمله وهو يمارس دوراً وظيفياً أن يطعن ظهر المقاومة وقلب سورية…

إنها التضحية التي علّمتنا ألا نأمن حملة الجنسيات…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى