«لوزان» بطاقة أردوغان نحو «وهم السلطنة»…

داليدا المولى

تاريخ بلادنا الحديث الذي خطته اتفاقية سايكس بيكو قبل مئة عام، دون أن يشارك فيها مفوّض عن هذه البلاد ليعقل الحقوق، وضع بموجب حكم المحتلّ المسيطر، والمنتدب ان ذهبنا نحو التخفيف من هزالة الواقع الذي فرض على سورية الطبيعية. هذه الإتفاقية كانت بمثابة تهيئة الأرضية لوعد بلفور 1917 ومعاهدات سيفر 1920 ، وأنقرة 1921 ولوزان 1923 ووضع ترسيم نهائي للحدود بين الكيانات في سورية الطبيعية، وكان بموجبها لتأثير البشر على الطبيعة الشيء الكثير، إنما لم يستطع العقل الميكيافيلي الذي تحكّم بهذه المعاهدات القضاء نهائياً على الهوية السورية كما كان مطلوباً.

لعلّ أبرز المعاهدات الناتجة عن سايكس بيكو، والتي يجب دراستها بعد وعد بلفور، تلك المتعلقة برسم الحدود السورية الشمالية والتي أسّست بموجبها تركيا الحديثة كما وضعت جزءاً جغرافياً كبيراً من بلادنا تحت الاحتلال التركي المباشر وأعطته عصبة الأمم الإذن بتتريكها كما حدث في لواء الاسكندرون منذ 1928، تاريخ صدور صكّ التتريك، وحتى 1939 لحظة الاستيلاء المباشر على اللواء. والخطير بالنسبة لهذه المعاهدات عدم دراية السواد الأعظم من السوريين بما تضمّنته وما الظروف التي أنتجتها، وعندها يمكن أن يتضح السبب الذي دفع برئيس تركيا رجب طيب أردوغان إلى طرح تعديل معاهدة لوزان التي من المفترض أنها كانت مجحفة بحق السوريين وليس الأتراك.

يبدو أنّ تغيير الوجه التركي قادم بخطى سريعة، وسط صراع يتمظهر أوضح فأوضح حول تحديد هويتها تجاه المنطقة. تركيا تقرأ جيداً أنّ حربها الآن تكمن في ترسيم حدود المصالح والسيادة تجاه الكيانات السورية في ظلّ خساراتها الداخلية المتلاحقة لجهة تراجع شعار العلمنة وسقوط شعار أتاتورك بالسلام الداخلي والخارجي، بالتوازي مع خسارة إقليمية في المجال التركي الحيوي المباشر.

أردوغان الذي ذهب بتركيا إلى خطوط التماس المحرّمة على تركيا طيلة عقود من الزمن، وجد ضالته لتبرير تدخله العسكري المباشر في استحضار المعاهدات القديمة التي حدّدت حدود تركيا الأتاتوركية، بدءاً من سان ريمو وسيفر وأنقرة وصولاً إلى لوزان.

نقد معاهدة لوزان تحديداً في خطابات أردوغان يطال في الصميم عاملين أساسيين في المجتمع التركي يرتبطان بهوية الجغرافية والعلمنة الأتاتوركية:

1 ـ أعطت معاهدة لوزان تركيا فرصة الحفاظ على بعض أراضيها لتأسيس الدولة الحديثة وقد أتت لتنقد معاهدة سيفر 1920 التي اعتبرها مصطفى كمال اتاتورك مجحفة وغير محقة ووصل الى حدّ تجريد من وقعها من الجنسية التركية. وبموجب معاهدة لوزان أعطى الحلفاء الأتراك المدن السورية التالية: مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة واورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر بالإضافة الى لواء الاسكندرون السليب الذي جاء استكمالاً للتفاهمات التركية الفرنسية. والحديث عن التوسع الجغرافي التركي باتجاه حلب والموصل يستهدف العودة الى ما قبل «سيفر» واعادة ربط الجغرافيا السورية بفكرة السلطنة العثمانية.

2 ـ انتقادات أردوغان تدغدغ مشاعر منظري العودة الى ما قبل لوزان أمثال قدير مصر أوغلي، وتتبنّى، بطريقة لا مباشرة، الانتقادات اللاذعة لشخص مصطفى كمال أتاتورك والعلمانية والسياسة التركية بعد تأسيس الجمهورية عام 1923، للحدّ من تأثير العلمنة في المجتمع التركي لصالح العثمنة الجديدة.

إقليمياً، لا شك أنّ لحديث أردوغان عن إعادة ترسيم الحدود نكهته الكردية، وسيفتح فصلاً من المناوشات مع دولة العراق حول اتفاقية أنقرة 1926 ، في ظلّ تنامي القلق مما قد يذهب إليه هذا الرجل «صاحب الطبقات من العقد النفسية» في بحر إيجه، دون تناسي السعي التركي للبحث عن دور في المنطقة لا يفقدها المكاسب التي حصلت عليها ولا يعيدها الى مربع معاهدة «سيفر» التي ضمنت حقوق الأكراد والأقليات. ويبقى المقصود بالطرح الأردوغاني في سياق نقده لمعاهدة «لوزان» هو إعادة فكرة العثمنة الى الدولة التركية والتأكيد على قيادته لـ«الإسلام المعتدل»، كما اعتاد على تقديم نفسه، في سعي للسيطرة على أكبر جزء من الأراضي المحيطة خاصة في حلب والموصل في ظلّ المعارك الكبرى التي تشهدها سورية الطبيعية والتي من وجهة النظر التركية قد تفتح المجال أمام إعادة رسم جغرافية المنطقة وتقسيم المكاسب على طريقة الخلافة.

ومع المعطيات التي خلقت جدالاً تركياً داخلياً وخارجياً، سقطت أحلام أردوغان بالوصول الى استحقاق عام 2023، أيّ التحرّر من مفاعيل معاهدة لوزان اقتصادياً، وتركيا دولة متماسكة وجمهورية باستطاعتها التحكم بمحيطها، فالمجتمع التركي يواجه اليوم أزمة هوية بين القومية والخلافة وأزمة نظام بين العلمنة والعثمنة وبالطبع أزمة إقليمية سيكون لنتائجها الأثر الأكبر على مصير أردوغان، وعلى مصير الأقاليم الشمالية التي باتت تطرح سؤال الهوية بشكل متزايد ما يفتح المجال أمام إمكانية أن يكون عام 2023 عام الاستفتاءات بالانفصال عن تركيا وليس تماسكها.

الأطماع التركية التاريخية في سورية الشمالية

لا جديد في الأطماع التركية بمناطق سورية الشمالية، فهي حاولت بشتى الطرق الحصول على حكم مباشر عليها إثر انهيار السلطنة العثمانية، وهذا ما تبيّنه بشكل جليّ معاهدة «لوزان». أما تاريخ المناطق الشمالية فيؤكد على سوريّتها، حيث حظيت باهتمام خاص في رسائل حسين – مكماهون التي احتوت على إشارات واضحة بتبعية المناطق الواقعة جنوب جبال طوروس إلى دولة الشريف حسين الموعودة. كما أشارت المراسلات التي أنتجت اتفاقية سايكس – بيكو إلى وضع السناجق السورية، وفي النص التالي تعليمات من الرئيس الفرنسي بريان إلى سفيره في لندن بول كامبون والمفاوض الفرنسي جورج بيكو، وتشير إليها الخارجية الفرنسية في 9 تشرين الأول 1915 على النحو التالي: «بعد تقديم هذا التحفظ، فإنه يبدو أنّ الحلّ الأبسط يمكن في تثبيت الحدود الإدارية الحالية لسورية. وهكذا، فستشتمل أرضها على ولايات أو متصرفيات القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب، وفي الشمال الغربي على الجزء الكامل من ولاية أضنة الواقع جنوب طوروس». حجار، جوزيف، 1999. سورية بلاد الشام: تجزئة وطن. دار طلاس. ص 78 .

ولعلّ أكبر دليل على وضع المناطق الشمالية هي معاهدة «سيفر» التي رسمت وصفاً محدّداً جداً للمناطق السورية حيث اعترفت السلطنة العثمانية في المادة 27 من المعاهدة «بعروبة منطقتي الاسكندرونة والقليلة أضنة ومرسين » وضمّت الموصل إلى الأراضي العراقية. وبالتالي ما أنتجته «لوزان» لاحقاً هو وضع السناجق السورية الشمالية ضمن الأراضي التركية وعزل مدينة حلب عن معظم المناطق الشمالية التي كانت تضمّها والسيطرة الكاملة على ولاية أضنة مع الإبقاء على الحدود العراقية التركية بشكلها المتفق عليه والذي كرّسته معاهدة 1926 بين بريطانيا وتركيا وعلى أساسها تطالب تركيا باستعادة الموصل التي أكدت الاتفاقية على عراقيّتها.

هذه الأطماع ظهرت أيضاً عند سلخ لواء الاسكندرون عن سورية والاتفاقيات التي عقدتها تركيا لضمان ضمّ اللواء والعمل على تتريكه، بدءاً بالمطالبة بحكم ذاتي له، ثم بدخول القوات التركية إليه واحتلاله عام 1937 وتتريكه لاحقاً بموجب المعاهدة مع فرنسا التي بصفتها دولة منتدبة لم يكن لديها الحق بالتنازل عن ايّ جزء من أراضي سورية كما نص صكّ الانتداب تجاه عصبة الأمم المؤرّخ في 24 حزيران 1922 المادة الرابعة: لا يُسمح لها بالتفريط بأراضي الدولة المُنتدَبة عليها. من هنا نلفت إلى أنّ معاهدة فرانكلين بويون مع حسين كمال عام 1921 غير شرعية لأنّ فرنسا في ذلك التاريخ لم تكن مؤهّلة ولا تحمل أيّ صفة لتفاوض باسم الدولة السورية وبالتالي لا يوجد أي شرعية تركية لقضم كيليكيا…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى