عون رئيساً.. المسيحية المشرقية من الإحباط إلى الانتعاش

هتاف دهام

«من الخطأ مقاربة الواقع المشرقي الحالي من منطلق أقليات وأكثريات. هذه البلاد منذ فجر التاريخ هي ثمرة تراكم حضاري إنساني معرفي ثقافي لمكونات كثيرة وديانات شتى منذ ما قبل التوحيد. تراكمٌ جمعته الأقليات والأكثريات معاً في مزيج عزّ نظيره، وتقلّبات غيّرت التوجهات السياسية وأبقت على التنوّع المجتمعي والثقافي داخل الجغرافيا، ولطالما كانت هناك أكثرية باتت أقلية وبالعكس. هذا نموذج فريد للغنى الروحي والثقافي والمعرفي، يقتضي منا جميعاً المحافظة عليه وحمايته مع التشبّث بهذا المشرق». هذا الكلام لرئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون خلال أعمال اليوم الثاني للمؤتمر المسيحي المشرقي تشرين الثاني 2013 .

يؤكد مصدر مقرَّب من المقاومة لـ «البناء» أنّ رئيس تكتل التغيير والإصلاح صاحب رؤية لها علاقة بالنظرة إلى الوجود المسيحي ما بعد اللبناني. ينظر الجنرال إلى المسيحيين في لبنان من خلال موقعهم في تاريخ المنطقة وارتباطهم بمسيحييها.

لم ينظر العماد إلى المسيحيين من خلال المدرسة التي تربط بعض هؤلاء بالغرب، رغم أنه بقي في منفى باريسي ما يزيد عن 14 عاماً، ورغم أنه تفاعل مع الحضارة الغربية في تلك المرحلة.

وحسب المصدر نفسه، حافظ على إخلاصه لارتباط المسيحيين بأرض الشرق التي هي مهد الحضارات. لم ينتمِ في أية لحظة إلى نظرية الأمّ الحنون. سهّلت رؤيته الاستراتيجية الدينية عملية الربط بين مصير لبنان ومصير المحيط الوثيق بلبنان. يسّرت له أيضاً فهم العلاقة مع سورية خارج حسابات الربح والخسارة وإرث المواجهة المتراكم للخروج من تعقيدات الماضي في العلاقة مع الدولة السورية.

دمشق أيضاً تجاوزت مرحلة العداوة على قاعدة الخصم الشريف. كلّ ذلك أثبت حجم الجهوزية عند عون لفتح آفاق أوسع ضدّ مفهوم الانعزال الذي حنّط عقول البعض.

وشكلت زيارة منطقة براد التاريخية، كما يقول المصدر المقاوم، كمهد مسيحي ماروني، واحدة من مراحل الانفتاح السريع على سورية. فـ «براد» جزء من حاضرة انطاكيا التاريخية، انتشر فيها المسيحيون النساطرة. قدّم هؤلاء فهماً للمسيحية قريباً من الفهم الذي أنتجه الإسلام عن السيد المسيح.

الأهمّ في تبنّي رؤيته المشرقية أنّ المسيحيين هم أبناء الأرض الحقيقيون الذين ساهموا في بناء حضارة الشرق، وتاريخها المجيد وانتصاراتها وتصدّيها للغزوات والاحتلالات.

ترفّع الرئيس الفخري للتيار الوطني الحر عن محبّيه وجمهوره والمحيطين به. أبحر واسعاً نحو العمق المشرقي ليس فقط بعمقه المسيحي والديني، بل بعمقه العربي والإسلامي. ربط بين المفهومين العربي والإسلامي من جهة والمسيحي من جهة أخرى.

برزت قراءته المبكرة للخطر الإرهابي على الشرق في مقال في صحيفة «الحياة» 1994. كان له موقف متقدّم من الإرهاب التكفيري العابر للدول، ومن الخطر القادم من الشرق نحو لبنان. أيّد قتال حزب الله في سورية ضمن فهم أوسع وأعمق لهذا التفكير.

يتحدث المصدر عن موقف العماد في حرب تموز منذ اللحظات الأولى. يستذكر دعوة الجنرال إلى مؤتمر صحافي بعد خمسة أيام من العدوان دون تنسيق مع أحد من «رجال الله». تبنّى تشخيصه الرؤيوي لهذه المعركة بين لبنان وبين العدو «الإسرائيلي» ربطاً بالمشرقية، في الوقت الذي كان فيه البعض يفكر بإعادة رسم خط تماس من كفرشيما إلى الشويفات ومنع الشيعة من الدخول عبره كمهجَّرين. نقل الجنرال خلال حرب تموز «البيئة المسيحية» من حالة الخصومة لحزب الله إلى حالة احتضان المقاومة وحماية سلاحها، واحتضان جمهورها أثناء الحرب، فوصلت وثاقة العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله الى مستوى عالٍ من التفاهم الوجودي.

وفق المصدر المعنيّ توسّم الكثير من اللبنانيين في «ميشال عون» الزعيمَ المسيحيَّ المشرقيَّ. أهميتُه أنه لبناني يتزعّم تياراً وطنياً في مرحلة يتعرّض فيها المسيحيون للتهديد والتنكيل والتهجير والخوف من هجوم داعش وحصار السلفية التكفيرية. وُضع المسيحيون أمام إغراء تقديم تذاكر السفر الى الغرب في أكبر مؤامرة وجودية عليهم.

والسؤال كيف سيكون وقع وصول رئيس أكبر كتلة مسيحية الى القصر الجمهوري على مسيحيّي المنطقة؟ بدأ الحديث في لبنان أن بعد غد الاثنين ظهراً سوف تنتهي حالة الإحباط المسيحي. ما سيحصل سيكون أشبه ببقعة الزيت القابلة للتمدّد. يمكن اعتبارها مؤشراً في ما لو أُحسنت السياسات في التعاطي مع المسيحيين على مستوى المنطقة، ما يشكل نوعاً من الانتعاش في المناخ المسيحي العام والمشرقي العام.

إنّ هذا الخزين الثقافي والسياسي والقيمي، وفق المصدر، راكمه الجنرال. قدّم عبره نفسَه بخلفية مشرقية. مشرقية سمحت له أن يبني سريعاً منظومة انسجام ورؤية وقراءة حتى في المعركة إلى جانب شخصيات مثل الرئيس السوري بشار الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. فبات شريكاً في الموقع المتقدّم للمواجهة وإنْ كانت أدبياته تراعي معايير اللبننة وعدم الإشهار بهذه الوقائع يومياً. في خطابه من بيت الوسط الخميس الفائت، قال الجنرال: أنا مشرقي والمشرقية تراكمٌ للحضارة المسيحية والإسلامية، ولبنان هو جوهرة العالم».

يجلس رئيس التيار البرتقالي بعد غد على كرسي الرئاسة في قصر بعبدا. لن يكون رئيساً للبنانيين فحسب، بدليل أنّ المشرقيين في أكثر من مؤتمر عُقد في لبنان، رأوا في الجنرال «زعيماً» يمكن أن يلجأوا اليه في الملمات. لن يتلكأ هؤلاء لأنظمتهم ودولهم، لكنهم يقولون صراحة إنّ هذا الرئيس يمثل مآل وآمال المسيحية المشرقية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى