للتعذيب والوحشيّة تاريخ عربيّ

رفيق أبو غوش

ثمّة في سجلات التاريخ الإنساني عامة، والعربي خاصة، حقب يخجلُ التاريخُ نفسهُ منها، ليست لأنَّها نوافل بل لأنها تشكّلُ وصمةَ عار على جبين الإنسانية وانتحاراً للقيم والشرائع المتحضّرة. ولأن التعذيب» و«الدوعشة» قديمان قدمَ الإنسان وموجودان منذ وجوده، فهما يشكلان سيفَ إدانة لأفعاله الإجرامية، وسلوكه المتوحّش والمُدان، تارةً بإسم الشريعة، وطوراً بإسم العروبة، وأخرى بإسم المصلحة العليا للدولة. والتعذيب يتميَّزُ بإطاريته الناجمة عن علاقته بالدين، وعلى الأصح ببعض رجال الدين. فالبلطجة والاستقواء والإلغاء والتنكيل والسحلُ… مفردات حفظتها المخيّلةُ الإنسانية على مرّ الأزمنة، ومنذ ما قبل التاريخ، بدءاً بقابيل وليس انتهاءً بوكلاء الله الجدد الذين يزنون بالهواء ويصادرون الشمس ويقترفونَ أبشعَ الموبقات والجرائم في حين يحقُّ لنا أن نلومَ الله كيفَ يسمح لهؤلاء الحثالة بأن يشوهوا وجهَ الإنسانية ويسحلوا قيمها ويحرقوا إرثها الممتد حتى آخر الأزمنة.

في روايات البلاذري والطبري والعلوي، وكتب «فتوح البلدان» و«أشراف الأنساب» و«تاريخ التعذيب في الإسلام». وقائع وروايات تقشعرُّ لها الأرواح، إذ تخالُ نفسك في غابة لا يحكمها غيرُ شهوة الدم والقتل، على عكس الحيوانات التي لا تفترسُ بعضها إلاّ إذا عضَّها الجوعُ الشديد.

الشعوب القديمة تفننَّت في صنوف القتل، فالخوزقة والتقطيع أساليب استخدمها الأشوريون لتعذيب معارضيهم،ثم أخذها العثمانيون وسيلةً رسميةً لتنفيذ أحكام الإعدام. في القرن الثالث قبل الميلاد أبادَ الإمبراطور الصيني تشين تي هوانغ أكثرمن مليون صيني خلال فترة حكمه. الجاهليون لم يقربوا التعذيب، ولم يكن مألوفاً لديهم نظراً الى قيم البداوة المناهضة للتنكيل، باستثناء وأد البنات. أما عصر الإسلام فشهد أعتى أنواع التعذيب على يد الخلفاء والولاة.

أولُّ تطبيق لمبدأ التعذيب في الإسلام يعودُ الى خلافة معاوية الذي أفرطَ في تعذيب معارضيه. ويروي الطبري أن وكيل زياد في البصرة الصحابي سمرة بن جندب أعدمَ ثمانية آلاف رجل تطبيقاً لمبدأ زياد في القتل على الشبهة. وطبَّقَ هشام بن عبد الملك طريقة القتل بقطع الأيدي والأرجل، وذبح المخالفين أو القائلين بالقدر. الخليفة عمر بن عبد العزيز نهى عن التعذيب، لكنَّ رحيله العاجل بعدَ أقل من ثلاث سنوات أعادَ الأمور الى نصابها الأول. وعلى يد الحجاج أُعدم مئات الآلاف وقُطعت الرؤوس وسُملت العيون، وبات الإرهابُ معه حالةً شبهَ يومية، ولم يشبع من القتل حتى وفاته.

واصلَ العبَّاسيون تراثَ أسلافهم الأمويين. يُحكى أنَّ أبا مسلم الخراساني أعدم ما يزيد على ستمئة ألف رجل، وكتب الى عامله أن يقتلَ كلَّ غلام بلغَ خمسةَ أشبارإذا شكَّ في ولائه. المنصور قتلَ معارضيه بدفنهم أحياء وبتقطيعهم الى أكثر من عشرينَ قطعة، وبمدية غير حادة إمعاناً في التعذيب. ألا يحيلنا هذا على هؤلاء المجرمين الجدد؟ العباسيون كانوا يشوون ضحاياهم على نار هادئة، أو يقتلونهم بالطشت المحمَّى، أو ينفخونهم بالنمل، أو بالتعطيش، أو بتقطيع الأوصال وصلم الآذان، وجدع الأنوف، وقطع الأعضاء التناسلية،وسلخ الجلود. المهدي قتلَ الشاعر والزاهد صالح بن عبد القدوس بشطره نصفين بضربة واحدة، وأعدمَ بشَّار بن برد جلداً. والقرامطة استخدموا قرض اللحم، وسدّ منافذ الجسم، ونفخ الضحية، ثم فصد عروقها لتخرجَ الروحُ منها. والحاكم بأمر الله الفاطمي كان يتجوَّلُ في الشوارع على حماره ومعهُ غلام أسود ضخم فمن أرادَ تأديبهُ أفلتَ عليه الأسود.

في الأندلس تميَّزَ المعتمد بن عبَّاد بميله الى التلذُّذُّ بمشهد قطع الرؤوس، وكان يزرعها في حديقة داره مثل الشتول. والسلاطين العثمانيون أباحوا قتلَ الأخوة والأقارب والأبناء حفاظاً على مصلحة السلطنة. محمد الثالث أعدمَ 19 من أخوته،مراد الثالث قتل خمسة من أخوته. .. ولم يقتصر التعذيب على الولاة العرب بل كان معروفاً في الصين والتبت وأوروبا. فالصلم والجدعُ والسمل أساليب استخدمها الإقطاعيون الأوروبيون ضد فلاّحيهم. والإعدام حرقاً استخدمه الإنكليز في حقّ جان دارك. وأٌحرقَ فيلسوف وعالم إيطالي عام 1619 بعدما مزَّقوا لسانه لأنه قالَ بنظريّة الإرتقائية ذات الأصول الفارسية. وأُعدمَ غاليليو لأنَّهُ قالَ بكرويَة الأرض ودورانها، ثمَّ بَرَّأتهُ الكنيسة بعدَ ثلاثمئة عام.

الألمان استخدموا وسيلة شيّ الأجساد فوقَ النار في حربهم ضدَّ الفلاحين، واستخدمَ الرومان الضواري والأسود لتعذيب المساجين، ولا ننسى محاكم التفتيش الإسبانية المعروفة الفضائل… وكان معظم الملوك يذبحون عبيدهم لكي يُدفنوا معهم حتى يحينَ يوم البعث ويعود الملك الى الحياة، فيعود معهُ عبيدهُ وجواريه ليواصلوا خدمته من جديد.

أمَّا القرابين فمعروفةٌ منذ وجود الأديان السماوية، وتمسَّكت الأديان بالقربنة، ونشأت على هامشها عقيدة الفداء مع أسطورة اسحق بن ابراهيم بن الخليل. وقربنة الإنسان يتولاّها رجالُ الدين. ومن مظاهر ذلك في المسيحيَّة وجود المذبح كالبُدُن قرابين الحج لدى المسلمين. ومن القرابين عرائس الماء وهنَّ فتيات جميلات يُلقى بهنَّ في الأنهار الغاضبة لتسكنَ وتعودَ الى هدوئها، وبخاصة في مصر.

ولجهنَّم أوصافٌ أوردها الغزالي في «إحياء علوم الدين»أنَّ الله تعالى أمرَ بها فأوقد عليها ألفَ عام حتى احمرَّت، ثمَّ أوقدَ عليها ألف عام أخرى حتى اصفرَّت، ثمَّ أوقدَ عليها ألفاً أخرى حتى اسودَّت، للتدليل على ثقافة الاقتصاص والتنكيل والثأر.

هذا غيضٌ من فيض الأفعال المرتكبة عبر التاريخ الإنساني الموسوم بالظلم والجريمة. وليست سهلة الإحاطة بسير المجرمين في التاريخ، فلو أردنا تعدادهم تكاد لا تتّسع لهم صفحات الكتب، ولا يظنّنَّ أحدٌ بهذا السرد نبرّرُ للولاة الجدد و«الداعشيين» أفعالهم وجرائمهم في حق الله أولاً وتالياً في بحقّ الإنسانية، بل لنقول إن الشرَّ متأصّلٌ في غرائز بعض البشر، والغلبة وحب التسلُّط عادةٌ يمارسها بعضهم بقصد الإلغاء والأذيَّة وإثبات الذات.

وإن ننسى فلا ننسى طواغيت العرب وحكَّامهم وطواغيتنا الأليفين وقطعانهم المتربعين فوق رؤوسنا وأكتافنا وظهورنا، وسارقي أحلامنا وأرزاقنا وأمننا ومستقبلنا. أليست طريقة إدارة هذا البلد والتنكيل بالناس وسرقة أموالهم وحرمانهم من حقوقهم البديهية، ومصادرتهم التمثيل وممارسة سياسات التجويع والإفقار… أليست «داعشية» موصوفة لا تقلُّ إجراماً عن القتل والذبح ومختلف أنواع التعذيب؟ فليتعظ المواطن العربي واللبناني، وليتنكَّر لهم ويقصيهم قبل أن يصبح لبنان إمارةً بغدادية. ولتزهر حقول «الربيع العربي» حيث يجب. وليتحوَّل هؤلاء الى مجرد ذكريات مشؤومة وماض ثقيل فتشرق شمس الحرية على عذارى الأحلام والكلام. ولتسُد الدولة المدنية وأحكامها وشرائعها ورجالاتها، إذ لا حلَّ في الأفق إلاَّ بها. عندئذ فحسب يحصل المواطنُ على حقوقه ويكون صورةً مشعَّةً عن إلهه وخالقه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى