مختصر مفيد بوتين يرسم العالم بعد تشرشل

منذ أكثر من ربع قرن، وقف المقدّم فلاديمير بوتين، قائد وحدة حماية السفارة الروسية في برلين الشرقية، بسلاحه الفرديّ، يتصدّى لقطعان هائجة وجّهتها الاستخبارات الأميركية لاقتحام السفارة الروسية بعد سقوط جدار برلين، لإذلال روسيا والنيل من مكانتها وهيبتها. وتكفل يومها بوتين بوطنيته العالية وفروسيته الشجاعة، بصد الجحافل وحده، من خلال إطلاق عدة طلقات فوق رؤوس المهاجمين.

بوتين هو الذي قال قبل أشهر قليلة إنّ كل مواطن روسيّ، بمعزل عن موقفه من العقيدة الشيوعية، شعر بالمهانة والذلّ، ولم ينم ليله يوم تفكّك الاتحاد السوفياتي. وتكرّر الشأن نفسه يوم سقوط براغ بعد تدميرها بطائرات حلف الأطلسي، مع أحداث يوغوسلافيا السابقة، أن كل روسي شعر أن الرسالة كانت يومذاك إذلالاً لمكانة روسيا وهيبتها.

بوتين هو الذي قال في الاجتماع الذي ضمّ السلك الدبلوماسي الروسي مطلع الصيف الفائت، إنّ كل روسيّ يجب أن يقتنع بأن بلاده تملك بقياس الدول الأخرى من مساحة أرض وعدد سكان وثروات باطنية واقتصاد وطنيّ وقدرات عسكرية، ما يعطيها الحق الكامل لأن تحتل مقعداً مقرِّراً حاسماً في مصير العالم. وإنّ الذين يتشاركون معها في هذه الصفات، يساوونها. وهم بين دول الغرب أميركا وحدها، لأن سواها ليس لديه ما لدى روسيا، ولذلك تقبل روسيا من أميركا وحدها بين دول الغرب أن تعاملها بندّية، فكيف يمكن أن تقبل هي بمعاملة أميركا لها معاملة لا تقوم على هذه الندّية. وكلّ روسيّ يدرك هذه الحقائق، يجب أن يعرف أنه يرتضي الذلّ والهوان عندما يقبل التخلّي عن هذا الحق لروسيا.

بوتين قال في الاجتماع نفسه، إن انتزاع هذه المكانة دونه تضحيات، على الروس أن يرضوا بها إذا إرادوا أن يعيشوا العنفوان ذاته الذي عاشه أجدادهم أيام القيصرية وأيام الاتحاد السوفياتي. ولو لم يقبل الأجداد بدفع ثمن هذه المكانة وهذا العنفوان بتضحيات جسام، لما تسنَّ لهم أن يعرفوا هذه العزّة وتلك الكرامة.

الحرب وفقاً لرؤية بوتين، هي مع أميركا التي تعلن الحرب على روسيا. لأنها تريد من روسيا التخلّي عن هذا الحق، ولذلك كلّما تقدّمت روسيا نحو حقها بثبات، زادت الضغوط والإغراءات معاً. لكن الإغراءات عامل موقّت لحين تتخلّى روسيا عن حقها فتزول الإغراءات. ولذلك يجب ألا تخدعنا العروض التي تقول: خذوا هذه المكاسب وانسحبوا من دوركم، فهي مجرّد رشوة ستنتهي بعد أن يستتب الأمر للأميركيين، فيستديرون نحو روسيا لإضعافها، لأنهم يعرفون أنها تدافع عن حقّ، وإذا تخلى عنه حاكم فلأنه حق أمة حيّة سيأتي من بعده من يتحرّك لاسترداد هذا الحق. ومنعاً لذلك، لن تتوانى أميركا عن إضعاف روسيا حتى لو خنعت للمشيئة الأميركية لأن روسيا القوية لا تطمئن.

في هذه الحرب، يتوجّه بوتين إلى النخب الروسية ويسأل: لو أردنا هذا الحق وقرّرنا انتزاعه، فذلك يعني أننا سنواجه منفردين وندفع كامل كلفة إضعاف أميركا، حتى تسلّم بأن هزيمتنا مستحيلة، وأننا لا نيأس من السعي لنيل حقوقنا. فماذا لو كان في العالم من يكافح هذه العنجهية الأميركية دفاعاً عن حقوقه؟ ألا يشكل دفاع فرصة لنا لتقاسم أعباء المواجهة وكلفتها؟ أليس التضامن مع الذين صمدوا مثلنا في وجه الضغوط والتهديدات الأميركية، هو استثمار فرصة مزدوجة توزّع أعباء مواجهة واحدة وأكلافها من جهة، وتمنحنا فرصة التصرّف كدولة عظمى في قضية هذه الدول التي تخوض معارك استقلالها، وتدافع عن حقوقها الوطنية وكرامتها وعنفوانها مثلنا؟

في مثال سورية وإيران يشرح بوتين لسفراء روسيا في الشرق الأوسط أن موسكو العازمة على تثبيت مكانتها كدولة عظمى، وجدت في حماية حقوق سورية وإيران بالتعامل كدول مستقلة ذات سيادة، فرصة مزدوجة للتصرّف كدولة عظمى. كما وجدت من يتقاسم معها كلفة الصمود والمواجهة، فما تدفعه سورية من تضحيات يحمي قرارها المستقلّ وكرامتها الوطنية، لكنه يمنح روسيا شراكة في نتائج هذه المواجهة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إيران، بينما تخلّي روسيا يعني تضييع مناسبة كانت تتيح التصرّف كدولة عظمى، وسيرتب في حال نجاح أميركا بكسرهما، العودة إلى الاستفراد بروسيا. ويرسم بوتين معادلة أمن روسيا من أمن سورية وإيران، ليقول: سنقول لأصدقائنا السوريين والإيرانيين أراءنا بحرّية، لكننا لن نتردّد في تقديم كلّ ما يحتاجونه لتعزيز صمودهم في حرب واحدة في أهدافها وقواها.

كما يضع بوتين الكرامة الوطنية، أحد محركات رسم الأهداف للسياسة الخارجية للدولة العظمى روسيا، يضع المصداقية والأخلاق استثماراً في سياسة بلاده الخارجية، فيقول إن البعض يظنّون أن السياسة مجرّد مصالح، والصحيح أنها صون المصالح. ومصلحة روسيا بنيل حقها في مكانة الدولة العظمى كاملة الشراكة، وهذا يستدعي أن تقرّر معياراً لحلفائها الذين تقرّر التشارك معهم في تقاسم الأكلاف والأعباء لمسيرة التضحيات حتى بلوغ الحقوق. وأن تقرّر المعيار الذي ستعتمده لسلوكها كدولة عظمى لتكون لديها مكانة عظمى. والمعيار يجب أن يُحترَم حتى تتعزّز المكانة وينمو الدور وتترسّخ المرجعية. فالدولة العظمى التي لا تتحوّل بين دول العالم إلى مرجعية لا تعني مكانتها شيئاً. والمعيار الذي يحقّق مصلحة روسيا ويصونها في تحديد شركائها، يتمثل باستقلال الدول وسيادتها. لأن الهيمنة الأميركية التي تريد إذلال روسيا تقوم على تحقيق مصالحها بإذلال الدول وإخضاعها، من باب انتهاك سيادتها واخضاع قرارها المستقلّ. وكلّ الدول التي تشاطر روسيا الإحساس بقيمة الكرامة الوطنية وتدافع عن قرارها المستقلّ، تشكل من جهة حليفاً يمكن الوثوق به، وتمنح روسيا سنداً يمكن الاعتماد عليه. لكن يجب أن تجد هذه الدول في روسيا الشيء نفسه، وإلّا خسرت روسيا بمساومات منتصف الطريق حلفاءها، ووجدت نفسها وحيدة يصعب عليها مواصلة الصمود. أما معيار المداخلة الروسية في الملفات الدولية، فيجب وفقاً لبوتين أن يقوم على احترام مكانة القانون الدولي وتعزيزها، هذا القانون الذي يحمي قرار الدول المستقلّ من جهة، ويعطي روسيا صفة المرجعية التي يدعوها الآخرون للتدخل من جهة أخرى.

بوتين يضع للمواجهة ساحات تتعدّى الجغرافيا إلى ساحات العمل السياسي والاقتصادي والعسكري. ويرى التحدّيين الاقتصادي والعسكري حاضرين من خلال حرب العقوبات والأسعار اللتي تخوضها أميركا لإفلاس الاقتصاد الروسيّ، وتحدّي الدرع الصاروخية في أوروبا التي تستعد لها أميركا لوضع روسيا تحت التهديد الدائم. ويعلن جهوزية روسيا لهاتين الحربين، عبر الاستعداد للسير وبقوّة في خطوات تغيّر قواعد المواجهة. ففي الاقتصاد يضع بوتين في وجه حرب الأسعار التي أدّت إلى خفض عائدات روسيا النفطية قرابة المئة مليار دولار سنوياً من جرّاء التخفيض المصطنع في سعر النفط، ترتيبات الحماية للسلع الروسية في وجه السلع المستورَدة، خصوصا من بلاد الغرب، عبر فرض ضريبة حماية البيئة وتشجيع البحث العلميّ على كل ما هو مستورد، بما يوفّر من العملات الصعبة في سوق الاستيراد ذاتها، مبلغ المئة مليار دولار التي خسرتها روسيا من تدني سعر النفط. لكن الإجراءات الروسية التي تخفض فاتورة الاستيراد، ستتسبّب بالكساد التجاري في اقتصادات الغرب. أما في شأن العقوبات، فوضع بوتين خطة استجلاب الرساميل الروسية المهاجرة التي تتشكل منها الكتلة النقدية الأهمّ في مصارف الغرب. عبر إصدار عفو ماليّ عن كل الجرائم المالية، لكلّ رأسمال عائد للاستثمار في روسيا، بما في ذلك الرساميل المتهمة بالتهرّب الضريبي أو الفساد أو تبييض الأموال. ومعلوم أن عودة تريليون دولار من أصل هذه الرساميل المهاجرة المقدّرة بثلاثة تريليون دولار، سيعني إخراج الاقتصاد الروسي من محنته نحو النمو والازدهار.

في نهاية الحرب العالمية الثانية نجح ونستون تشرشل في قيادة التفاهم السوفياتي ـ الأميركي نحو تسويات تقود العالم لأكثر من نصف قرن. متوسّطاً آيزنهاور وستالين. وشكّلت الرؤى البريطانية خريطة العالم الجديد من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. مستقوياً بقوّة الذاكرة التاريخية لبريطانيا ومكانتها الجغرافية. واليوم فلاديمير بوتين يفعل الأمر نفسه، لكن وحيداً، بقوّة الذاكرة التاريخية والجغرافيا، مضافاً إليهما معيار القانون الدولي والقرار المستقل، وسياسة خارجية قائمة على المصداقية، ما سيولّد عالماً جديداً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى