قانون الانتخاب تحت رحمة المقاسات العريضة لزعماء الطوائف!

د. وفيق ابراهيم

لا يستفيد اللبنانيون أبداً من المِحَن السياسية التي تضربهم منذ تأسيس دولتهم قبل 66 عاماً، ولا يعملون شيئاً لوقفها مكتفين بتسليم أعناقهم لطبقة من زعماء الطوائف لا ترى نفسها إلا في سكاكين «داعش».

ما يحدث على جبهة إعداد قانون جديد للانتخابات في «اللجنة النيابية المكلفة» لهذا الغرض يضحك الغريب ويبكي القريب… المشاهد والتطورات والألاعيب لا تتغيّر. يختلف أعضاء اللجنة حيناً، ويتناقشون حيناً آخر وهمّهم مركّزٌ على «مصلحة لبنان»، لكن نائب «القوات اللبنانية» جورج عدوان خرج على الملأ معلناً انسحابه من اللجنة لأنها «بطيئة» ولا تفكر «بتأمين تمثيل هادئ ورصين» لكلّ المكوّنات الاجتماعية اللبنانية بما يحفظ استمرارها من جهة والعلاقات في ما بينها من جهة ثانية.

واللافت أنّ تصريحه يبدو سلمياً وحريصاً على الأمن الاجتماعي، لكن المتعمّق يستنتج فوراً أنّ السيد عدوان يريد انقساماً دائماً بين اللبنانيين لأنهم «مكونات مختلفة» على حدّ قوله. ويسعى إلى التمايز بينهم بوسائل مختلفة، وهو الموقف التاريخي نفسه لما يمثله السيد عدوان فكرياً. المطلوب إذاً التعامل مع اللبنانيين على أساس أنهم مجموعات متناقضة كاملة النشوء تاريخياً. وما يجب فعله هو تأمين روابط بالحدّ الأدنى لا توحِّد بينهم، ولا تدعم يتحاربون.

وفي القراءة نستنتج أنّ خلافات اندلعت في اللجنة النيابية لإعداد قانون الانتخابات حول أشكال الدوائر المزمع تبنّيها في الانتخابات المرتقبة. المسلمون يريدون الدوائر الموسعة لكي ينقلوا من يريدون معهم في قطار كبير، فيما يفضل المسيحيون الدوائر الصغرى كوسيلة للهرب من كثافة عدد الناخبين المسلمين.

والحقيقة أنّ الطرفين المسيحي والإسلامي ليسا طرفين: هم أفرقاء عدة وبمصالح متباينة. ويمارسون ألعاب الجذب والنتر منذ 1943. الفريق المنتصر يضع الشكل الذي يعتقد أنه يعطيه أكبر عدد من النواب في إطار تحالفات مسيحية إسلامية.

هذا ما حدث في 1948 وبعد 1958 وقانون الستين والمحافظات والدوائر الموسعة الخ… وكان الفريق المنتصر يحظى بعديد أكبر من النواب، فتقسيم الدوائر جزء من لعبة السيطرة على عدد النواب و«الناس غفّل»، لا علاقة لهم بما يجري.

الحبكة الأساسية لتقسيم الدوائر تاريخياً كانت تتلبّس مقاييس زعماء الطوائف، وتعطي الأكثر قوة فيهم حصة الأسد. ولا تنسى التلاعب بأحجام الدوائر وعديد ناخبيها ونقل الأصوات وشراء الذمم، و«تنخيب» الأموات والعجائز، وتدخل الأجهزة ورجال الدين والقوى الاقتصادية.

وهكذا تتسمُ الانتخابات النيابية في لبنان أنها:

أولاً: تتعاطى مع «ناخب مذهبي» وليس مع «مواطن لبناني».

ثانياً: تجري على قياس زعماء الطوائف ولمصلحة الأكثر قوة من بينهم.

ثالثاً: ترعاها قوى إقليمية بالتمويل و«الدعاء».

رابعاً: انتخابات غير عادلة، بلعبة تقسيم الدوائر، فالنائب عن منطقة بشري يحتاج إلى ستة آلاف صوت فقط، في مقابل خمسين ألفاً للنائب عن بعلبك أو صور أو كسروان.

وبالاستنتاج، يتبيّن أنّ الانتخابات البرلمانية في لبنان هي «ديمقراطية شكلاً» لكنها منسوفة في المضمون، وعلى طريقة صناعة قالب «دمية» تُصنّع له ملابس، ولا تخلو الممارسة الانتخابية من شوائب قانونية غير مرئية تحت باب تدخلات رسمية واقتصادية ودينية.

إنّ نظرة سريعة على الانتخابات النيابية في معظم بلدان الأرض تميط اللثام عن كونها تعكس الحاجات الاجتماعية للناخبين. فإذا كانوا مكوّناً اجتماعياً واحداً تجري انتخابات بنظام الدوائر الصغيرة… وإذا كانوا مكوّنات متعددة، يكون الهدف الأول من الانتخابات إعادة تجميعهم وجعلهم يشعرون بالحاجة إلى بعضهم بعضاً، فتسقط على الفور النزعات الانفصالية واللامركزية «المشبوهة».

وبداية، فإنّ علينا أن نسأل: من نحن؟ وما هي حاجاتنا لنصبح نظاماً ديمقراطياً لا يشرّع إلاّ على «ضوء حاجات الناس» وليس استناداً إلى «مقاييس الرقص الشرقي» عند زعامات الطوائف، ومبدأ «الحاجة المتبادلة» هو الذي وحّد بين أمم كانت أكثر تباعداً من اللبنانيين الذين هم في خاتمة المطاف من نسيج هذه الأرض وتفاعلاتها التاريخية.

لماذا لا ننطلق من قاعدة أنّ «المناصفة قدرية ودائمة»، لكنها لا تنتج وطناً بل كيانات طائفية مدعومة بمذهبيات تثير قرف الباحثين وضعف النظام السياسي وبالتالي الكيان السياسي، ولا تؤمّن إلا حاجات «الزعماء الفقراء» ونوابهم المدلّلين.

الحلّ إذاً في نظام انتخابي يرعى «المناصفة ومسيحية الرئاسة» في مقابل توسيع الدوائر إلى الحدّ الأقصى. فيصبح اللبنانيون في حاجة إلى أصوات بعضهم بعضاً، ما يؤدّي إلى استيلاد الأطر الحزبية الوطنية المواكبة والعلاقات المناطقية الواسعة، وتتدنّى السمات المذهبية والطائفية. فلنتصوّر منطقة انتخابية واحدة بين جبل لبنان ومقلبه في سهل البقاع وشمال البلاد… لنتخيّل دائرة واحدة عن بيروت إلى حدودنا مع فلسطين المحتلة. وهذا هو الحلّ الوحيد لإزالة فكرة أنّ قوة لبنان في ضعفه. لا أنّ قوة لبنان هي في اتحاد أبنائه. هذا لا يكون بخطب الجميّل وجعجع وسليمان وباقي الرؤساء، بل في إنتاج نظام انتخابيّ ينتج لبنانياً مواطناً متساوياً مع اللبناني الآخر، دافناً إلى الأبد اللبناني المذهبي المنجذب إلى «تماثلاته» المذهبية في آسيا الوسطى وأفريقيا وآسيا، وأوروبا والأميركتين، ومتناسياً مثله في الشطر الآخر من بيروت.

هل هذا ممكن؟ نعم، بعد إجراء ريجيم قاسٍ على مقاسات زعماء الطوائف وفك ارتباط القوى الدينية والاقتصادية والسياسية بالإقليم، وتحويل وجه جورج عدوان إلى محيا اسماعيل ياسين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى