ثقافة اليوم

رولان رياض مشوح

مصطلح «قرية صغيرة» المتداول بين الناس وتحقّق من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي قرّبت المسافة حقاً بين الأشخاص المتباعدين جغرافياً، وجعلت العالم يبدو أسهل تواصلاً وتبادلاً للمعلومات والخبرات في ما بينهم.

وعلى ما هو معروف، تنوّعت أشكال الاتصال وطرائقه قديماً، إذ استخدم الإنسان في بداياته وسائل التواصل المتعددة كالرسم على الجدران في الكهوف وسواها، وبعد ذلك طوّر وسائل نقل المعلومات عن طريق كتابة الرسائل على الأوراق والرقع الجلدية، ثم نقلها عبر المرسال من شخص إلى آخر في البلدان المختلفة، والمرسال هو الشخص الذي ينقل الرسائل بين الأشخاص بناء على طلبهم. واستطاع أيضاً استخدام الحمام الزاجل الذي درّبه وطوّعه لخدمته، وتحديداً في خاصية نقل الرسائل، وجميع هذه الوسائل كانت طويلة تستنزف منه وقتاً وجهداً في عملية تبادل الرسائل بين الأشخاص عدا عن عدم فاعليتها في الظروف الطارئة. في ما بعد عندما جاء عصر النهضة وتطوّر العلوم، وفي القرون الأخيرة استطاع الإنسان تطوير وسائل الاتصال الحديثة التي تعتبر إعجازاً من إعجازات العصر الحديث لا نظير له، وتتميّز بانتقال المعلومة وقت حدوثها بين أبعد نقطتين على الكرة الأرضية، ولم يبق ثمة شيء بعيد. وأثمان هذه الوسائل متدنّية جداً وفاعلة إلى أبعد حد، فيستطيع شخصان موجودان في الوقت نفسه على أي بقعة على الكرة الأرضية التواصل، وكأنهما في المكان عينه، وذلك بفضل التكنولوجيا الهائلة التي ابتكرها العقل البشري في العصر الحديث.

بدأت هذه الوسائل باختراع وسائل الاتصال كالهاتف والبث الإذاعي ثم تطوّرت عبر البث التلفزيوني، ولم تقف وسائل الاتصال عند هذا الحد إذ تطور مفهوم البريد من البريد التقليدي البطيء إلى البريد الإلكتروني السريع الذي يعتمد على شبكة الإنترنت والكمبيوتر، ويوفّر رسائل إلكترونية سريعة ومجانية، كما تطوّر مفهوم الهاتف والمكالمات إلى مكالمات الفيديو التي زادت فاعليتها بعد الجيلين الثالث والرابع اللذين وفرا خدمات هائلة من مزوّدي هذه الخدمات وشركات الاتصالات. وأخيراً تم تطوير ما يعرف بالهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي ليبداً عصر جديد مختلف تماماً، من أبرز سماته إلغاء آخر الحدود بين البشر على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم وأديانهم وأعراقهم، و لم يعد اقتناء بعض وسائل التكنولوجيا من الكماليات أو مظهراً من مظاهر التحضر والحداثة لدى البعض، بل بلغ هذا التملك درجة الهوس، إذ أضحى بمعدل هاتف محمول لكلّ فرد لصيق به لا يفارقه في حله وترحاله، مكالمات ورنات لا تنتهي، رسائل قصيرة لا يتوقف عن كتابتها، وأرقام يقوم بتركيبها اعتباطياً لنسج علاقات جديدة خارج المحيط الذي يعيش فيه.

هذه التكنولوجيا لا تهدّد التواصل في الأسرة فحسب، إنما تهدّد العلاقات الاجتماعية أيضاً، إذ تُستخدم الأجهزة للإساءة، من جانب بعض الأفراد الذين تنعدم لديهم الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية، بهدف التهديد أو الابتزاز أو الانتقام أو الاستهانة بأعراض الناس، ما يعرّض أصحابها لمساءلة قانونية.

بيّنت الدراسات النفسية التي أجريت حول وسائل الاتصال الحديث أنّ الأفراد الأكثر تعرّضاً للإدمان على الإنترنت هم الذين يعانون العزلة الاجتماعية والفشل في إقامة علاقات اجتماعية طبيعية مع الآخرين، والذين يقاسون من مخاوف غامضة، أو قلة احترام للذات، والذين يخافون أن يكونوا عرضة للاستهزاء أو السخرية من الآخرين، وهم أكثر الناس تعرّضاً للإصابة بهذا المرض، فالعالم الإلكتروني أتاح لهم مجالاً واسعاً لتفريغ مخاوفهم وقلقهم وإقامة علاقات غامضة مع الآخرين تخلق لديهم نوعاً من الإلفة الزائفة، فيمسي هذا العالم الجديد الملاذ الآمن لهم من خشونة عالم الحقيقة وقسوته، بحسب اعتقادهم، حتى يتحوّل عالمهم هذا في ما بعد إلى كابوس يهدّد حياتهم الاجتماعية والشخصية للخطر.

في معرض مقالتنا اليوم، لا بدّ من الإشارة إلى مكامن وظائف التكنولوجيا بالنسبة إلى الأفراد، والتي تتبلور في الآتي:

– مراقبة البيئة أو التماس المعلومات.

– تطوير مفاهيمنا عن الذات من خلال استكشاف الواقع وعقد مقارنات بين أنفسنا والآخرين، والمساعدة في تحسين سير أعمالنا وأعمالنا المختلفة.

– تسهيل التفاعل الاجتماعي.

– التحرّر العاطفي والاسترخاء والترويح عن النفس والمتعة والاستثارة والتخلص من الملل والعزلة من خلال ابتكار طقوس يومية تمنحنا الشعور بالنظام والأمن.

– الهرب من التوتر والاغتراب.

لا بد هنا من طرح سؤال مهم: ماذا يفعل الناس بوسائل الإعلام التي تعدّ مصدراً معلوماتياً ثرياً إذا أحسن استخدامه؟

ذاك ما يشير إليه «كاتز» Katz في نظريته «الاستخدامات والإشباعات إلى عملية التأثير» مطلقاً مقولته: «ينبغي أن نتوقف عن سؤال أنفسنا ماذا تفعل وسائل الإعلام بالناس، فلنسأل ماذا يفعل الناس بوسائل الإعلام؟».

لعله سؤال يستحق التوقف عنده والتأمل فيه، لنعرف من الذي يؤثر في الآخر، وسائل الاتصال أم البشر؟ وللحديث بقية.

محامية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى