بين «داعش» و«القاعدة»: عندما يصبح التوحش استراتيجيا

محمد محمود مرتضى

منذ مدة انتشر الحديث عن كتابين وهما عبارة عن دراستين ذات طابع استراتيجي تحدّدان لما يُسمّى «بالحركات الجهادية» أهدافاً وخطط عمل ينبغي اتّباعها للوصول الى إقامة «الدولة الاسلامية» او الخلافة، وذلك قبل ان يعلنها زعيم «داعش» ابو بكر البغدادي بسنوات.

الأول هو إدارة التوحش وهو عبارة عن كتاب دوّنه المدعو ابو بكر ناجي. وانْ لم تتضح السنة التي دُوّن فيها لكن الأرجح انه بين عامي 2004 و 2005، اما المؤلف فيبدو انه اسم مستعار ويحتمل جدا ان يكون الاسم الحقيقي هو سيف العدل ـ العقل الأمني لتنظيم «القاعدة».

اما الثاني فهو المذكرة الاستراتيجية التي كتبها عبد الله بن محمد عام 2011.

الامر المشترك الذي يجمع بين الكتابين انهما ذات طابع استراتيجي، ينظران الى المستقبل، ويسعيان لقراءته وكتابة الخطط التي ترتبط به وبكيفية المواجهة، وصولاً إلى إقامة «الدولة الاسلامية». ومهما يكن من أمر فإننا يمكن ان نسجل الملاحظات التالية حول هذين الكتابين:

المشهد العربي والأنظمة المتهالكة

منذ أن تشكلت الدول العربية وطوال السنوات التي عملت بها خلال أكثر من نصف قرن منذ استقلالها، لم تعمل على تطوير الثروات ولا على تأمين الاستقرار. فضلاً عن أنّ غياب مظاهر الازدهار والرخاء على الأوساط العامة باستثناء فئة ضيقة، أضعف أسس تحقيق الاستقرار الداخلي.

وفي ظلّ هذه الحالة من الشعور بالاستلاب وعدم الاستقرار فقدت شرائح واسعة من المجتمع مرتكزاتها الأساسية، إضافة الي فقدان الحكومات قدرتها في المحافظة على ولاء الشعب. ما جعل الايديولوجيات الدينية في أرجاء العالم العربي مرجعية أساسية ومحورية في استقطاب الجماهير بعد ان تراجعت الخطابات الاخرى.

قرأ منظرو المجموعات التكفيرية هذا المشهد، وسعوا إلى توظيفه من أجل الانطلاق نحو الفوضى التي رأوا انها تتقاطع مع مشروعهم لأّ تهالك الانظمة العربية، ومن ثم استغلالها من قبل هذه الجماعات لنشر الفوضى، هي بالتحديد ما تحتاجونه هذه الجماعات في عملية «الاستقطاب» التي تمثل العنصر الأهمّ في خطط «داعش». راجع حول الاستقطاب «ادارة التوحش»، ص 46 .

الفوضى والتقسيم نقطة الالتقاء الكبرى

ورغم ما كان يعتري الانظمة العربية من عوار، ورغم ارتباط الكثير منها بمحاور غربية ودول كبرى الى حدّ التبعية، فقد كان المشروع الغربي يتطلع الى تمزيق المنطقة منذ اكثر من ربع قرن، وهذا ما حملته خلاصات ما كتبه الصهيوني برنارد لويس في عام ١٩٨٣. وقبله «الاسرائيلي» اوديد ينون عام ١٩٨٢ من دون ان ننسى دراسة «حدود الدم: نحو نظرة افضل للشرق الأوسط» التي دوّنها رالف بيترز.

وهنا تحدبداً ظهرت نقطة الالتقاء الكبرى بين الغرب والتكفير، لا سيما في صورته الاخيرة الداعشية . فالغرب رأى في «داعش» كفكر وسلوك، فرصة مؤاتية لتنفيذ مشاريع الشرذمة أولاً، ووحشنة الإسلام اي إظهاره متوحشاً ثانياً. كما رأى في «داعش» وغيرها من حركات التكفير فرصة لتحويل العدو المنهزم إلى شبه منتصر. ليتوسل العرب بأميركا كمنقذ، ولتظهر «اسرائيل» على انها وانْ كانت كياناً غاصباً عنصرياً لكنه ليس كياناً متوحشاً.

وفي المقابل رأى التيار التكفيري في مشاريع التقسيم عنصراً يمكن الاستفادة منه في مشروعه البعيد المدى للوصول الى مرحلة إقامة «الدولة الاسلامية» وفق اصطلاح المذكرة الاستراتيجية او مرحلة التمكين الممهّد لإقامة هذه الدولة وفق اصطلاح «ادارة التوحش» .

اما كيف يكون التقسيم يصب في مصلحة التكفير؟ فلأنه سوف يحطم حدود سايكس ـ بيكو اولاً، ويؤجّج مشاعر الانقسام المذهبي والطائفي ثانياً، ولأنّ الكيانات الجديدة لن تكون مالكة لهوية وطنية ثالثاً، فضلاً عن انها سوف تكون أوهن من الانظمة القائمة.

البغدادي يقطف الثمار

من الأمور اللافتة ان كلا الكتابين قد ظهرا قبل نشوء «داعش» فكتاب «إدارة التوحش» مثلاً قد صدر قبل تأسيس ما سُمّي «الدولة الاسلامية في العراق». وللتذكير فإنّ الزرقاوي بدأ عمله في العراق تحت اسم «جماعة التوحيد والجهاد»، وذلك خلال فترة خلافه مع تنظيم «القاعدة» حتى تاريخ 17- 10 ـ 2004 تاريخ مبايعته لأسامة بن لادن حيث اعلن عن تأسيس ما سُمّي «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين». اما «الدولة الاسلامية في العراق» فإنها لم تؤسّس الا في 15 10 – 2006 حيث انتخب ابو عمر البغدادي اميراً عليها، وذلك بعد اغتيال الزرقاوي في 7-6-2006 .

وبعد اغتيال ابو عمر البغدادي وابو حمزة المهاجر في 19/4/2010 ابو حمزة المهاجر خلف الزرقاوي بعد مقتله على رأس قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين . تسلّم ابو بكر البغدادي زعامة «الدولة الاسلامية في العراق» بعد عشرة أيام من مقتلهما.

اما «المذكرة الاستراتيجية» التي نشرت عام 2011، وبحسب مضمونها فقد صدرت بعد انطلاق «الربيع العربي» وبعد «عسكرة» الأزمة السورية، ما يرجح صدورها بعد شهر حزيران من عام 2011. وذلك يعني انّ ما يُعرف بتنظيم «الدولة الاسلامية في العرق والشام ـ داعش» لم يكن قد تأسّس أيضاً على اعتبار أنّ هذا التنظيم أُسّس في 9-4-2013.

فيظهر مما تقدم انّ البغدادي يقوم بقطف ثمار ما كتبه ودوّنه مخططو تنظيم «القاعدة»، هذا التنظيم الذي انقلب البغدادي عليه وطرح نفسه بديلاً لزعيمه أيمن الظواهري .

ورغم انّ عمل «داعش» قد شهد تطوراً كبيراً منذ تسلّم البغدادي لقيادته، لكن من المقطوع به انّ البغدادي لا يعمل وحده، وان وصول «داعش» الى ما وصل اليه انما كان بسبب تضافر عوامل عدة ومنها:

استقدام عناصر متمرّسة واستقطابها وإعطائها دوراً كبيراً في حركة التنظيم، وهو ما يبرّر كون «داعش» هو الأكثر استقطاباً للمجموعات التكفيرية غير العربية باكستان، الشيشان، دول غربية وغيرها .

اعتماد البغدادي على كثير من ضباط جيش صدام حسين وخبراتهم.

الاستفادة من ضعف شخصية الظواهري وعدم مبايعة العديد من قادة تنظيم «القاعدة» له بسبب ظهور ثغرات كثيرة منذ تسلّمه لقيادة التنظيم بعد اغتيال بن لادن عام 2011. وظهرت هذه التململات من خلال رسائل عدة أرسلها بعض قادة التنظيم للظواهري نفسه. على سبيل المثال: رسالة مفتوحة من الشيخ أبي يوسف الغريب الى أيمن الظواهري تحت عنوان «أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا»، ورسالة ابو بكر الزيلعي الصومالي قبل مقتله تحت عنوان: «اني انا النذير العريان».

الاستفادة من الضعف الأمني للأجهزة العراقية من جهة ومن جهة أخرى انسحاب الجيش السوري من بعض المناطق السورية القريبة من الحدود العراقية في إطار إعادة انتشار وتجميع القوى، ما سمح لـ«داعش» بتحقيق إنجازات ميدانية في تلك المناطق ساعد في توسع «داعش» على حساب التنظيم الأم.

الإمكانيات المالية الكبيرة لـ«داعش»، لا سيما بعد ان وضع يده على مناطق نفطية في سورية.

اختراقات استخبارية عبر بعض من وصل الى مواقع المسؤولية. وتقوم هذه الاستخبارات بواسطة عملائها بتزويد التنظيم بالخطط والاستراتيجيات التي تناسبها.

قراءة التاريخ

لا ينحصر تركيز الكتابين على استشراف المستقبل والتخطيط له بل من الملاحظ فيهما الاستفادة الكبيرة من قراءة التاريخ. ولذلك نجد أنهما حافلان بالاستشهاد بوقائع تاريخية يمكن البناء عليها في فهم مسار الاحداث واستنباط آليات عمل، وأخذ العبر. فلم يعتمدا على اسلوب التنظير الفكري بعيداً عن الوقائع العملية، ما أضفى عليها نوعاً من «الواقعية»، وانْ كانت بعض النصوص والمشاريع قد تبدو مستبعدة التحقق، الا ان الإتيان بوقائع تاريخية قد يحفز هؤلاء على ضرورة المثابرة.

هذا… ولا بدّ من الاعتراف انّ هاتين الدراستين تتمتعان بنظرة شمولية وقراءة عميقة لما يجري في المنطقة. وهي من هذه الناحية أشبه بالدراسات التي كانت تعدّها الماركسية للصراعات العالمية، او تكتبها القومية العربية في نظرتها إلى المنطقة بشكل عام.

المصادر الفكرية

لا يمكن لأحد أن ينكر انّ الفكر التكفيري خرج من رحم الوهابية، وانّ كلّ واحد منهما يمثل وجهاً للآخر. وفي الوقت الذي يمثل فيه ابن تيمية وابن عبد الوهاب العمق الفقهي والعقدي لكلا الطرفين، فإنّ التكفيريين قد استفادوا في السياسات الشرعية في التخطيط والتنظير من كتابات ابن قيم الجوزية الطرق الحكمية في السياسة الشرعية وابي الأعلى المودودي، والماوردي الاحكام السلطانية والولايات الدينية اضافة الى ابي قتادة الفلسطيني، من دون ان ننسى كتابات سيد قطب. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال المصادر التي اعتمدها الكاتبان.

التجربة الصهيونية في فلسطين

ولعل من اللافت ايضاً في هذين الكتابين هو قيام الكاتبين بالإكثار من الإتيان بأمثلة عن التجربة الصهيونية في فلسطين، لا سيما في «المذكرة الاستراتيجية» ومن أهمّ النقاط التي استشهد بها يمكن الحديث عن:

تهجير الاقليات ضمن إطار نظرية «التأمين الاستراتيجي» فقد استشهد الكاتب لتبرير صحة نظريته بما فعله الصهاينة في فلسطين من تهجير. وتبدو خطورة هذا الاستشهاد بانه يبرّر «نظرية التهجير» للصهاينة لأنه يؤمّن لهم استراتيجياً ديمومة كيانهم.

أسلوب عمل العصابات الصهيونية خلال المراحل الأولى لنشوء الكيان. وأتى هذا الاستدلال عند الحديث عن مرحلة «المصاولة».

وضع العصابات الصهيونية اليد على المناطق الزراعية في إطار تأمين المقوّمات الأولية «للدولة» المزمع إنشاؤها.

التبرير الديني كعامل استنهاض لقبول «الدولة» فعند حديثه عن أهمّ المواصفات التي ينبغي توافرها في المنطقة التي يجب اختيارها لتكون نواة «الدولة» تحدث عن ضرورة وجود عمق وخلفية دينية لهذه المناطق مستشهداً بالتجربة الصهيونية.

بلاد الشام

كما يمكن ملاحظة انّ كلا من «ادارة التوحش» و«المذكرة الاستراتيجية» قد حدّدتا بلاد الشام كمنطقة مقترحة لنواة «الدولة». وتتمحور تبريرات هذا الاختيار في النقاط التالية:

التبرير الديني: ويرتكز على ما سردوه من «احاديث نبوية» عن بلاد الشام وأهلها وأهميتها.

انها كانت مركزاً لخلافة إسلامية سابقة الخلافة الاموية .

انها قريبة من مركز خلافة إسلامية سابقة أيضاً حدودها مع العراق مركز الخلافة العباسية .

انها قريبة من الاماكن الاسلامية الاساسية حدودها مع السعودية مع الأخذ بعين الاعتبار انّ بلاد الشام تشمل الاردن .

لكن مركز «الخلافة الاسلامية» وانْ كان متفقاً عليه في هذين الكتابين وهو الشام، فقد برز رأي ذكره فؤاد حسين في كتاب الزرقاوي الجيل الثاني للقاعدة انّ العراق سيكون هو مركز الخلافة. راجع: الزرقاوي الجيل… ص81، ادارة التوحش، ص15، المذكرة الاستراتيجية، ص23 .

ويبدو انّ البغدادي قد جمع بين الرأيين واعلن خلافته في العراق والشام معاً.

السعودية مستبعدة

نجد انّ المؤلفين قدّما التبريرات لاستبعاد المملكة كمركز «للخلافة» المنشودة. مع تركيز اكبر على الشام والعراق ادارة التوحش وعلى الشام واليمن المذكرة الاستراتيجية .

من الواضح انّ هذا «التوحش» تجري إدارته بعناية ووفق أبحاث ودراسات، من الغرب الذي كان متوحشاً وما زال، ومن جماعات تكفيرية لا تستحضر من التاريخ الا المتوحش منه وتتماهى معه كتاريخ ينبغي الاقتداء به.

اننا امام استراتيجيا «التوحش» ومن يريد المواجهة لن يتسنى له ذلك من خلال حلول موضعية ومواجهات متفرّقة، وأعمال انفعالية، بل لا بدّ من تخطيط استراتيجي يقابله، ومن خطط تقارب اكثر طبيعة المجتمعات وهواجسها وتطلعاتها.

انّ ايّ ذهاب إلى المواجهة مع هذه الجماعات لا ينطلق من خطة شاملة لن يكون مصيره سوى الفشل، ولن يزيد المنطقة الا إيغالاً في عصر التوحش.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى