حال العرب والمسلمين: تعددية المجتمع وصنّاع القرار

عصام نعمان

ثمة ظاهرة لافتة تعمّ عالم العرب والمسلمين. إنها تعددية المجتمع وصنّاع القرار. في الماضي غير التليد، كان القرار السياسي وقفاً على الحاكم الملك أو رئيس الدولة وعدد محدود من ذوي السلطة المقربين منه. في الحاضر المأزوم، ازداد عدد صنّاع القرار في الدولة وفي كياناتٍ داخلها توازيـها وتتعايش معها. لماذا؟

لأن الاوضاع تغيّرت كثيراً في بلاد العرب والمسلمين ومن حولها. التغيير شمل ميادين الحياة جميعاً، ولا سيما الميدانين السياسي والاجتماعي. قامت انقلابات عسكرية في بعضها، فآلت السلطة إلى حاكم فرد له السلطة والقرار، أو إلى زمرة عسكرية تشاطره السلطة والنفوذ. كما نشأت في بعضها الآخر أوضاع تتسم باستشراء التعددية الفئوية والحزبية ما أدى إلى توزّع السلطة بين قادة ومتزعمين متعددين يتقاسمون صنع القرار أو يحولون دون اتخاذه.

في النُظُم السياسية الأوتوقراطية، كان ثمة ملك أو رئيس واحد ومرؤوسون متعددون. الملك أو الرئيس يقرر والمرؤوسون ينفذون. في نُظُم الحكم العسكرية، يحتكر قائد الانقلاب القرار لمدة تطول أو تقصر، أو قد تتقاسم زمرةٌ السلطة ويتشارك أعضاؤها بنسِبٍ متفاوتة في صناعة القرار، أو يختلفون فيعطلون عملية اتخاذه. وقد يتطور الوضع الداخلي نحو نظام أكثر تعددية وديمقراطية فيتوزع رئيس الوزراء ووزراء وزعماء تكتلات برلمانية سلطة التقرير ما يؤدي إلى حال من الفوضى وتراخي القدرة على صنع القرار.

لنأخذ العراق مثلاً. في العهد الملكي، كان القرار الأول والأخير للملك، يعاونه في اتخاذه رئيس الوزراء وبعض الوزراء النافذين. بعد انقلاب 14 تموز/يوليو 1958 آلت السلطة إلى ضباط نافذين، ما لبث أن تفرّد بها اللواء عبد الكريم قاسم. ثم قام انقلاب على قاسم وزمرته عام 1963 فتسلّم السلطة مجلس عسكري ما لبث أن تفرّد بها ضابط نافذ هو عبد السلام عارف، وبعد مقتله أخوه عبد الرحمن عارف ومجموعة من الضباط والمساعدين النافذين.

عام 1968 قام ضباط حزب البعث ومحازبوه بانقلاب، فتسلّم السلطة وصناعة القرار مجلس قيادة الثورة المؤلف من ضباط وقادة نافذين في الحزب المذكور. بعد نحو عشر سنوات تفرّد بالسلطة وصنع القرار رئيس الحزب صدام حسين الذي أضحى رئيساً للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة. عقب احتلال العراق عام 2003، آلت السلطة إلى حاكم أميركي بول بريمر، ومن ثم إلى مجلس لإدارة شؤون الدولة عيّنه بريمر. بين بريمر وهيئات أخرى كان عيّنها بنفسه، جرى «إقرار» مشروع دستور جديد على أساس الفدرالية كانت قد أعدّته وزارة الخارجية الأميركية. في العهد الفدرالي تعدّد أصحاب السلطة وصنّاع القرار، بل توزّعت السلطة وصناعة القرار بين رئيس الجمهورية ونوابه ورئيس الوزراء والوزراء والمحافظين حكام المحافظات ناهيك عن رئيس إقليم كردستان العراق ذي الحكم الذاتي.

سبقت ظاهرة تعددية السلطة وصنّاع القرار في العراق الفدرالي ظاهرة نشوء كيانات على أسس اثنية أو قبلية أو مذهبية أو لدواعٍ تنظيمية بغية تعزيز المقاومة في بلدان عربية وإسلامية عدّة. كلٌ من هذه الكيانات له بعض مواصفات الدولة وسلطاتها ومهماتها إلى جانب تمتعه باعترافٍ سياسي وأحياناً دبلوماسي من دول وحكومات وبعقد اتفاقات وإقامة ترتيبات سياسية واقتصادية وأمنية معها. أبرز الكيانات التي تحاكي الدول في مواصفاتها ومهماتها كيان طالبان في أفغانستان، والكيان الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكيان حزب الله في لبنان، ناهيك عن الكيان الكردي في شمال العراق.

لنأخذ الكيان الفلسطيني مثلاً. إنه كيان متعدد السلطات وصنّاع القرار. ثمة سلطة وحكومة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، ورئيس حكومة ووزراء في كلٍ منهما. وثمة حركات وجبهات مقاومة في كل منهما لها سلطة ونفوذ وقادة يشاركون الحكومتين في صنع القرار وتنفيذه أو الحؤول دون ذلك، ناهيك عن قيادة منظمة التحرير التي يُفترض أيضاً أن يكون لها دور في صناعة القرار.

إضافة إلى أصحاب السلطة وصنّاع القرار السالفي الذكر، مارس أفراد من داخل السلطات والهيئات الناشطة في الضفة والقطاع أو من خارجها دوراً أيضاً في صنع القرار أو في الحؤول دون اتخاذه. إنهم المقاومون والاستشهاديون الذين بادروا ويبادرون، من تلقاء أنفسهم، إلى مقاتلة سلطة الاحتلال الصهيوني بشكل أو بآخر وباستقلال عن «السلطة الرسمية» الفلسطينية والكيانات النافذة الموازية والمنافسة لها ما أدى ويؤدي إلى نتائج سياسية ومادية محسوسة، ناهيك عن إحراجات وإرباكات لها ولسلطة الاحتلال.

هذه الحال من التعددية المرهقة التي يرتع فيها كلٌ من فلسطين والعراق وسورية ولبنان وليبيا واليمن، تجعل صناعة القرار في تلك الدول والكيانات القائمة فيها أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً.

صحيح أن للتركيبة المجتمعية التعددية في الدول والكيانات المار ذكرها دوراً في وصولها إلى حال من الفوضى وتراخي القدرة على صنع القرار، لكن ثمة دور لعاملين آخرين في هذا المجال. الأول، تدخلاتُ دول كبرى وأخرى إقليمية نافذة في تحريك أو تمويل أو تسليح واحدٍ أو أكثر من المكوّنات التي تزخر بها مجتمعات الدول والكيانات المشار إليها آنفاً. الثاني، تطوراتٌ تكنولوجية في شتى مناحي الحياة أتاحت للفرد أن يصبح أكثر قدرة على التعلّم والتكلّم والتدرّب والتواصل والتسلّح والتصارع والتملك والتسيّد. باختصار، بفضل التكنولوجيا الحديثة وإنجازاتها أصبح الفرد أكثر قدرةً واستقلالاً وفعالية.

يتحصّل من رصد ظاهرة تعددية المجتمع وصنّاع القرار التي تسود بلاد العرب والمسلمين أن الخروج منها عملية طويلة ومعقدة، وأن التدبير الفعال المطلوب لتجاوزها يتحقق بخلق وتعميم ثقافةٍ مقاوِمة وبتوحيد سلطات صنّاع القرار المتصارعين والمتنافسين أو، في الاقل، باختزالهم على نحوٍ محسوس لضمان فعالية الإنجاز والتنفيذ.

المسار طويل ويتطلّب ثقافة مقاوِمة وموازين قوى مغايرة ونَفَساً طويلاً.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى