من مآثر سعاده: «لا أبيع تضحيات القوميّين وآلامهم بكنوز الأرض كلّها»

ل.ن.

هذا العنوان هو للأمين الياس جرجي قنيزح، وقد تضمن كتابه المطبوع مرة ثانية في آذار 2013 الكثير من المآثر التي سجلها عن سعاده، بحكم مسؤوليته كعميد للداخلية، فمديرٍ لمكتب الزعيم، ومرافقته سعاده في الكثير من جولاته الحزبية بعد عودته من مغتربه القسري عام 1947. وهو كتاب يحمل الكثير من الشواهد حول معالجة سعاده المواضيع الحزبية وتوجيهه القوميين الاجتماعيين الى اعتماد الأصول والقواعد والمثل التي يجب أن تُعتمد في الحياة الحزبية.

أما هذه المآثر، فنقلاً عن الأمين نواف حردان.

يشرح الأمين نواف في الصفحة 183 من كتابه «على دروب النهضة» كيف التقى رفيقاً هو لطفي طرابلسي كان يرغب في أن يرشح نفسه للمقعد الكاثوليكي في الجنوب. وكان علم من الأمين عبد الله محسن أن لطفي عضو قديم في الحزب يملك ثروة طائلة لكنه لم ينشط حزبياً، لا ماضياً ولا حاضراً.

يتابع:

« لقيته في مركز الحزب، فأسرع نحوي بلهفة عندما عرفني، وراح يلاطفني ويتحبب إلي، ثم أخبرني بأنه سيرشح نفسه للمقعد الكاثوليكي في الجنوب، وأنه يعتمد في ذلك على أصوات القوميين.

أجبته بأنه لا يقدر أن يعتمد على ذلك، لأن الحزب لم يتبنّ ترشيحه بعد، وأن عليه ان يذهب أولاً ويقابل الزعيم ويعرض الأمر عليه. فأجابني:

أنا مستعد أن أقدم للحزب أية قيمة من المال يطلبها.

أنصحك يا رفيقي بأن لا تعيد كلاماً من هذا النوع أمام الزعيم لأني أعرف سلفاً ما سيكون جوابه لك. واذا كنت تصرّ على أن تشتري المقعد النيابي بالمال. فاقصد أحمد الأسعد او كاظم خليل، وادفع لأحدهما أكثر مما يدفع سواك من المرشحين فتصبح نائباً.

سأرى ذلك فيما بعد. أما الآن فأريد أن تأخذ لي موعداً من الزعيم لأقابله.

سأسافر الى مرجعيون غداً لأقوم بتوزيع بيان انتخابي أصدرناه، وأعود بعد ثلاثة أيام. فإذا انتظرتني الى حين عودتي، أرافقك الى مقر الزعيم.

عرّجت في طريقي الى مرجعيون على النبطية، فسلّمت كمية من نُسَخ البيان إلى الرفيق محمد أمين الصباح مدير مديرية النبطية المستقلة، لكي يوزعها. وتابعت طريقي الى مرجعيون، حيث سلّمت كمية الى ناموس المنفذية الرفيق أسعد رحال الأمين لاحقاً كي يوزعها في المنطقة الغربية من المنفذية: مرجعيون، دبين، بلاط، إبل السقي، دير ميماس، الخربة، القليعة، الخيام. وتابعت الى راشيا الفخار حيث أرسلت بعض الرفقاء، يوزعون البيان في المنطقة الشرقية.

أخبرني الرفقاء عند عودتهم أن البيان أحدث تنبهاً بين القوميين واهتماماً كبيراً بين المواطنين.

« عدت الى بيروت بعد ثلاثة أيام فوجدت الرفيق طرابلسي ينتظرني في المركز على أحرّ من الجمر. وقد استغربت كثيراً إقدام ذلك الرفيق على ترشيح نفسه للنيابة واستماتته في سبيل ذلك. وبلغ استغرابي حد الاستهجان لتهافته على المركز، طالباً أصوات القوميين، هو الذي لم يكن له في صفوفهم مكان، ولم يشاركهم جهادهم وآلامهم وتضحياتهم بل كان بعيداً عنها في « نعيم الراحة «.

توجهت وإياه في سيارته إلى ضهور الشوير، وقصدنا البيت الذي كان الزعيم يستقبل فيه زائريه. وما أن وضع الرفيق المكلف اسمينا في لائحة طالبي مقابلته، وكانوا يزيدون على العشرة أشخاص، بينهم الرفيق يوسف الخال، حتى دخل فقدمها له ثم عاد وقال لي: سيستقبلك الزعيم منفرداً يا رفيق نواف، ثم أنت ورفيقك.

جلسنا ننتظر دورنا، الى أن استدعاني الرفيق المكلف فدخلت وحييت الزعيم الذي بادرني:

ما وراءك يا رفيق نواف؟ ـ وتابع بلهجة شويرية ـ أيش عملتلنا من جديد؟

لقد وزعنا البيان الانتخابي التمهيدي في الجنوب. وكان له وقع حسن في أوساط القوميين. كما قوبل باهتمام من قبل المواطنين. ومعي الآن الرفيق الطرابلسي، آت يطلب موافقة الزعيم على ترشيح نفسه للنيابة عن المقعد الكاثوليكي في الجنوب. وهو يستميت في سبيل ذلك.

ما هو وضعه الحزبي؟

لقد انتمى للحزب سابقاً ومرّ به مرور الكرام، دون أن يترك أثراً على الإطلاق.

وما هي أوضاعه الخاصة؟

يظهر أنه يملك ثروة طائلة، يعتقد أنه بواسطتها يستطيع الحصول على النيابة، ولقد قال لي بأنه يقدم للحزب أية كمية يطلبها إذا تبنى ترشيحه.

فهز الزعيم رأسه ممتعضاً وقطب جبينه وعاد يسألني:

وكيف برأيك يجب أن يكون موقف الحزب منه؟

إني أكاد لا أصدق ما أراه منه، كما أستغرب وأستنكر تهافته وتراميه على الحزب، في هذه الأيام فقط قبل الانتخابات، بينما لم يذكر أبداً أنه قومي من قبل، عندما كان رفقاؤه يناضلون ويجابهون سلطات الاستعمار ويدخلون السجون، كما أن الكثيرين بينهم لا يزالون الى اليوم يكافحون ويتألمون ويعانون الشقاء والحرمان. إني اتعجب يا حضرة الزعيم من هذا الرفيق وأمثاله، الذين بلغ بهم التهور حد التوهم أنه يجوز لهم استغلال تضحيات القوميين، لمجرد أنهم سجلوا أسماءهم كأعضاء في الحزب، دون أن يعطوا البرهان على استحقاقهم شرف العضوية على الإطلاق.

بالصواب نطقت، حضرة المنفذ العام. بالصواب نطقت. دعني الآن أنتهي من مقابلة الرفقاء والمواطنين الذين ينتظرون خارجاً. وبعد ذلك آتني بالرفيق طرابلسي لكي أتعلم منه السحر وأعرف الأساليب العجيبة المبتكرة، التي يلجأ إليها للحصول على أصوات القوميين، والصعود على ظهورهم وآلامهم إلى مقعد النيابة.

حيّيته وخرجت أخبر الرفيق طرابلسي أن الزعيم سينتهي سريعاً من مقابلة الأشخاص الذين ينتظرون دورهم لكي يتفرغ لنا، وجلست أتشاغل بالحديث مع الرفقاء في أمور خارجة عن الموضوع.

وصل في هذه الأثناء الرفيق جبران جريج، قادماً من الشمال يريد مقابلة الزعيم لأمور انتخابية وجلس ينتظر دوره. فقدمت له الرفيق طرابلسي كراغب بترشيح نفسه عن الجنوب، فراح جبران يحدثه عن قوة الحزب في مرجعيون وراشيا الفخار وإبل السقي وميمس وحاصبيا وجويا والنبطية وصور وقانا إلخ، وحكى قصة طريفة حدثت في راشيا الفخار، أثناء جولة حزبية قام بها في المنطقة. وكيف أن القوميين كانوا يقرعون جرس الكنيسة ليلاً ونهاراً، في أية ساعة تعرض أحدهم للاعتداء عليه من قبل الشيوعيين، كإشارة متفق عليها، لكي يتجمعوا بسرعة، ويردوا على الاعتداء فوراً بهجوم صاعق رادع.

فكان ما سمعه الرفيق طرابلسي من جبران، حافزاً لاستزادة رغبته بترشيح نفسه. فبدا كثير الحماسة فارغ الصبر لمقابلة الزعيم.

بعد مدة قليلة استدعينا للمثول أمام الزعيم، وسمح للرفيق جبران بالدخول معنا.

قدمت الرفيق طرابلسي للزعيم، الذي سأله عن تاريخ انتمائه للحزب بعد أن جلسنا، فأجاب بأنه انتمى في أواخر الثلاثينات، ثم قال إنه قادم للسلام على الزعيم، وإطلاعه بأنه عازم على ترشيح نفسه للانتخابات عن المقعد الكاثوليكي في الجنوب، ولهذا يأمل ان يقرر الزعيم تبني ترشيحه ويوعز للقوميين في الجنوب بانتخابه.

سأله الزعيم عند ذاك فيما إذا كان تحمل مسؤولية ما في الحزب، وظل محافظاً على قسمه، فلم يتخل عن القيام بواجبه طيلة الاعوام الماضية، فارتبك الطرابلسي وبدا حائراً لا يدري ما يجيب. وأخيراً تشجع وقال:

أنا قومي. احتفظت بعقيدتي لنفسي وبقيت مؤمناً بها، دون أن أمارس أي نشاط في الحزب أو أتحمل مسؤوليات، لأن سلطات الاحتلال كانت تلاحق القوميين ولم يكن دخول السجن مجدياً نفعاً.

فأجاب الزعيم:

ألا يرى حضرة الرفيق بأنه إذا ظل القوميون محتفظين بعقيدتهم لنفوسهم فقط، دون أن ينشطوا في أوساط الشعب، ويقوموا بالصراع اللازم من أجلها، ألا يرى بأن الحزب يتجمد ويتراجع ويتوقف نموه فينحل، بدلاً من أن ينتشر ويتقدم ويسير إلى أمام لتحقيق أهدافه؟ لو أن كل قومي احتفظ بعقيدته لنفسه فقط، وتخلى عن العمل لأجلها. هل كان بقي هناك حزب قومي، وبقيت الرابطة موجودة بين القوميين تشدهم وتجمعهم، وبقي الإيمان حياً فاعلاً في نفوسهم، يدفعهم لمجابهة الصعوبات وتحمل التضحيات؟ كلا يا رفيقي. إن ذلك لم يكن جائزاً لك. كما لا يجوز لأي قومي أقسم يمين الولاء، وعلى ممارسة واجباته في الأيام الهينة والصعبة وتحت كل الظروف.

وأطرق الرفيق طرابلسي برأسه خجلاً. إلا أنه عاد وتشجع فقال:

أنا نادم على ما كان من إهمالي حضرة الزعيم، واني اعد بأن أقوم بواجباتي كاملة من الآن وصاعداً، وأعوض عن قصوري السابق.

حسناً، سأنتظر أخبار نشاطك، فعسى أن تكون جيدة وسارة.

سوف أبدأ نشاطي بترشيح نفسي للنيابة عن الجنوب، فأرجو أن يتخذ الزعيم قراراً بتبني ترشيحي.

إن القوميين ينتخبون من يعرفونه جيداً، ويثقون بأنه يؤمن إيمانهم ويكافح كفاحهم، فكيف تنتظر منهم أن ينتخبوك، وهم لا يعرفون شيئاً عن نضالك الحزبي، ولم يسمعوا باسمك من قبل.

إنهم ينتخبونني إذا أوعز الزعيم لهم بذلك.

إن المراكز الامامية في الحزب، يجب أن تكون للذين برهنوا قولاً وعملاً، بأنهم يكافحون من أجل عقيدتهم ويحاربون حربها، وأنت لم تقم بشيء من ذلك. فلذلك لا يجوز مطلقاً أن تكون نائباً عن القوميين وأن تمثل الحزب.

إنني مستعد أن أدفع للحزب أي مبلغ من المال، تفرضونه علي حضرة الزعيم، لقاء تبني ترشيحي.

فقطب الزعيم جبينه وأجاب بلهجة حاسمة حازمة:

إن الكثيرين من القوميين لوحقوا وسجنوا وعذّبوا وتحملوا كل انواع الاضطهاد، ولا يزال الكثيرون منهم إلى اليوم يتعذبون ويتحملون كل أنواع الشقاء والحرمان والآلام، فلذلك يا رفيقي يجب أن تعلم ولا يغرب عن بالك قط، بأني لا أبيع آلام القوميين وتضحياتهم بكنوز الأرض كلها. اذهب وادرس العقيدة أولاً، وكن قومياً صحيحاً. وعندما تصبح قومياً، تعرف كيف تناضل من أجل مبادئ الحزب، وتقدم من أجل ذلك التضحيات، يمكن أن يدرس الحزب أمر ترشيحك في انتخابات قادمة، حتى ولو كنت فقيراً، لا تملك أموالاً وعقارات ولا مصانع.

سأكون قومياً صحيحاً، ولن أتخلى مطلقاً عن عقيدتي، فاسمح لي بترشيح نفسي رجاء.

إنك تضيع وقتك ووقتي، اعلم جيداً أننا في هذا الحزب تعاهدنا على تحقيق أمر خطير يساوي وجودنا، إن للحزب قواعد يسير عليها دائماً في اختيار مسؤوليه وممثليه، لا يمكن أن يحيد عنها أبداً.

وصمت الرفيق طرابلسي، وقد علم بأنه لن يتمكن من حمل الزعيم على تغيير رأيه.

« إني أخجل من رفقة أشخاص يتركون تحمّل الضيم لسواهم

ويريدون حمل فخار جهاد لم ينالوا منه ولم ينل منهم»

سعاده

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى