كردستان… «إقليم» في خدمة الصهيونية

نسيب أبو ضرغم

منذ ستينات القرن الماضي، وعندما اندلعت المواجهات العسكرية بين الأكراد العراقيين وحكومة بغداد، لم يتورع الملا مصطفى البرزاني عن التعاون والتنسيق مع اليهود، إذ شكّل هذا الإقليم جرحاً مفتوحاً في عنق العراق. ورغم أنه فرض القوميّة العربيّة على أكراد العراق، وبالتالي إخضاعهم لحكم عربي صرف، لم يأخذ في الاعتبار فئات واسعة من الشعب العراقي ذات أصول غير عربية، وفي مقدمها الأكراد.

نقول، رغم ذلك، فإن المنحى الذي اتخذته قيادة أكراد العراق بالتعاون مع اليهود منذ الستينات لا يُبرّره نهج القومية العربية الذي فرض عليهم، فهم كان بمقدورهم النضال ولو المسلّح لأجل إقامة حكم وطني يساوي بين جميع الفئات المكوّنة للشعب العراقي. وكان هناك الكثير من أبناء العراق يسيرون في هذا الخيار.

أما وقد سارت الأمور بما لا يتوافق مع المصلحة الوطنية العراقية، والمصلحة القومية الشاملة، استطاعت اليهودية العالمية بداية، ومن خلفها العالم الغربي وفي مقدمه الولايات المتحدة الأميركية، أن تنجز على الأرض ما كانت قد زرعته في جغرافية وسكان كردستان العراق. استطاعت أن تُخرج المستور، «إقليمياً»، وليس في الواقع إلا المقدمة التي لا بد منها لولادة «دولة كردية مستقلة» لا على رقعة كردستان العراق فحسب، بل على مساحات من سورية وتركيا وإيران أيضاً.

صبرت اليهودية العالمية نحو أربعين عاماً، حتى سنحتْ لها الفرصة، وكان ذلك يوم ارتكب الرئيس العراقي صدام حسين خطيئتيه، الأولى في شنّه الحرب على إيران، والثانية في احتلال الكويت. الخطيئتان اللتان أدخلتا صدام حسين والدولة العراقية الواحدة في فخ التحالف الصهيو ـ أميركي والمتبوع بعرب الخليج.

سقوط العراق الواحد في فخ التقسيم، الذي مهّدوا له بحصار وحشي، دمّر إمكانات العراق وجعله مكشوفاً لأيّ ضربة توجّه إليه. رسموا خطط العرض التي هي خطوط التقسيم، وكانت مرحلة الحصار المهلة الزمنية لإنضاج مشروع «إقليم» كردستان كنواة لدولة كردية مستقلة. وحان موعد إخراج الجنين السفّاح من الرحم اليهودي ـ الغربي، فكانت الحرب على العراق في نيسان 2003 تحت عنوان نزع سلاح الدمار الشامل من يد صدام حسين! وإحلال الديمقراطية في العراق!

اسقطوا الدولة العراقية والمجتمع العراقي، وأعدموا صدام حسين، ليشكل ذلك كلّه إرهاباً حقيقياً لسائر الذين يعارضون سياسة التحالف الصهيو ـ أميركي في المنطقة. فترة الاجتياح كلّها كانت لترسيخ حدود دول العراق الثلاث، فأنشأوا في البداية «إقليم كردستان» الذي يشكّل حاجة استراتيجية فائقة لكل من «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية.

فرضوا دستوراً يسمح لهذا «الإقليم» بأن يكون دولة وسط دولة العراق، وأمدوه بجميع خيراتهم، خاصة الاستخبارية منها، فأربيل اليوم تشكّل محطة استخبارية تطاول ستّ جهات دفعة واحدة، هي إيران وسورية وتركيا والعراق وروسيا ووسط آسيا، إضافة إلى أنها نقطة قادرة على تحريك أيّ قوّة في هذه الاتجاهات الستّة بسرعة معقولة.

حفظ مسعود البرزاني دوره، واستعد لممارسة وظيفته، وها هو لا يترك فرصة يتحدى فيها حكومة بغداد إلاّ ويفعل، مستقوياً بهذا الحلف الصهيو ـ أميركي، الذي قدم إليه شروط إقامة «إقليمه». باع النفط إلى تركيا منفرداً، ويوقع الاتفاقات منفرداً، وها هو الآن، في لحظة حسم خياره الانفصالي يتبجّح، بعدما فكّ له الطيران الأميركي الحصار عن جبل سنجار، بأنّه يحرر أرض كردستان، وأنه جاهز للتوجّه إلى الموصل «ولكن بشروطه»!

ماذا حصل منذ حزيران الماضي؟

هيّأ الأميركيون جميع شروط استسلام القطع العسكرية العراقية في شمال العراق وغربه، فتقدم «داعش» من دون قتال وسيطر على مئة وخمسين ألف كيلومتر في أربع وعشرين ساعة، وفق خطة مرسومة وحدود للحراك محددة. سمحت الولايات المتحدة لقوّات «داعش» بأن تجتاح تلك المناطق الشمالية من العراق، إذ تريد أن تكرّسها ليس للدولة العراقية ولكن لإقليم كردستان، أدخل الأميركان «داعش» إلى هذه المناطق، ويقومون الآن بطرد «داعش» منها. وسط إعلام يوحي أن قوّات البشمركة هي التي حرّرت. وبالتالي فإن الأرض «المحرّرة» هي أرض كردية. بكلام أوضح إنهم يرسمون حدود دولة كردستان العتيدة.

سوف يسجّل التاريخ أن اتفاقية سايكس ـ بيكو عاشت مئة عام وأعيد رسمها من جديد في حزيران 2014، إذ جرى استيلاد أول دولة على أنقاض سايكس ـ بيكو، وهي دولة «داعش» في ما بين النهرين، تضم عشرين مليون نسمة، إضافة إلى وضع يدها على الأنهار والسدود وآبار الغاز والنفط وجعلها سكيناً يمزّق صدر الأمة من الشمال إلى الجنوب. وبعد قيام الدولة الأولى، ها هم يرسمون حدود الدولة الثانية في الشمال العراقي الذي يضم نحو ستة ملايين مواطن، إضافة إلى الثروة النفطية، وقبل ذلك الموقع المنفتح على سداسية استراتيجية فائقة الخطورة.

هل يحصل ذلك و«إسرائيل» في غيبوبة؟ إن كل ما يحصل هو صناعة «إسرائيلية» ـ أميركية، صناعة الموجع فيها إنها مموّلة من المال العربي، ومغطاة بالحقد البدوي المتمادي في التاريخ العربي.

بلى، قامت دولة الأكراد، ولا تنفع المجاملة مع مسعود البرزاني. دولة مهمتها خلق أسباب التوتر في كل من سورية والعراق وإيران، دولة هي قاعدة استخبارية للموساد والاستخبارات الأجنبية وفي طليعتها «سي. آي. إي».

لنرَ إلى المشهد، عراق يتخبّط في أزماته الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، إقليم كردستاني يتحفّز لإعلان استقلاله، واليهود وحلفاؤهم الأميركيون يرسمون حدوده بشكل دقيق. «داعش» في الوسط تمزّق وحدة التراب، ووحدة المجتمع، وتأخذ بوصلة الصراع إلى الداخل، بدلاً من أن تكون مع اليهود. «إسرائيل» تؤسّس لشريط حدودي ليس في الجولان فحسب بل على كامل السلسلة الشرقية من القنيطرة حتى عرسال، وبقيادة «داعش»، تأسيساً لاجتياح البقاع والتواصل مع عكار فطرابلس شمالاً، واجتياح البقاع الجنوبي وصولاً إلى الشوف والناعمة، عبر كفرشوبا وشبعا.

حيال ذلك، تظهر عظمة مقاومة الدولة السورية وسائر القوى التي تقاتل إلى جنبها ومعها، من الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب الله وآخرين، تظهر عظمة صمود دمشق، ومفاعيل هذا الصمود على دحر المخططات الآنفة الذكر.

من إقليم كردستان حتى عرسال، المعركة واحدة، والعدو واحد، لا عدو سواه، اليهودي الذي يحسن أن يتقنّع، ولديه أقنعة كثيرة، وغالباً تخدعنا أقنعته.

قطعان الضباع كشّرت عن أنيابها في انتظار سقوط النمر السوري، لتنهش منه هنا دويلة وهناك إمارة وربما مشيخة، ولكن النمر السوري كان ليكون لا ليسقط، وسيكون… وأنى للضباع أن تقارب العرين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى