وفاة الملك عبد الله ومستقبل السعودية /

ناصر قنديل

– توزعت التعليقات على وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز بين الحزن الإنساني المحيط بالمقرّبين والأقربين، والحزن السياسي للمستفيدين والقلقين على مستقبلهم الشخصي والسياسي ومصالحهم، والنفاق الشخصي والسياسي بتلبّس الحزن أو المبالغة في المجاملة بادّعاء احترام الموت، وبرزت مواقف مراهقة طفولية تصل حدّ الشماتة تعبيراً عن ضيق من السياسات السعودية بتوقيت وعنوان غير مناسبين كاستقواء على من غادر الحياة ولم يعد موجوداً، وما في ذلك من استقواء على الموت الذي لا يقوى عليه أحد، والذي قال فيه القرآن الكريم «يدرككم ولو كنتم في بروج مشيّدة»، ونتساوى أمامه مهما كانت مواقفنا، ومواقعنا، وعسى لو أنّ الذين يستكبرون ينتبهون قبل مطالبة بعض المحروقة قلوبهم إذا عبّروا عن القهر خارج اللياقات، أنّ الاعتراف بحقيقة الموت واستحضارها يكفي لردع المتكبّر والمستكبر، ودعوته إلى التصرف أنه مهما علا شأنه ميت لا محالة، حيث لا مال ولا تاج ولا بنون، فينبت في قلبه للرحمة بذار، ويقيم لإنسانيته اعتبار، ويتصرف في قضايا شعبه وأمته وما يحتكم فيه للضمير، بما يمليه ما بين يديه من قدرات واقتدار.

-أبشع وأسوأ الكلام المقال هو الذي يأتي من الذين، كانوا يقولون الذي لا يقال في شعر الهجاء، ويقولون في الملك المتوفى اليوم ما لا يقال في قصائد المديح، فيصير الذي كان وصفهم له أنه المتآمر الأول على الأمة في خطاب النعي خسارة قومية لا تعوّض، ولأننا نؤمن أنّ اللياقة والآداب تقتضيان عدم التجريح بالحي والميت ورفض الشتيمة كأداة تعبير في السياسة، نؤمن أنّ الأهمّ هو الامتناع عن النفاق بذريعة الاحترام للموت، وعدم نسيان احترام الحياة، واحترامهما يتجسّد بوضع الحديث عن الشخص جانباً، والتوقف أمام البعد الموضوعي الصرف للغياب، كحدث يرتبط بتداعيات، كما تحكم ما بعده حسابات.

– غاب الملك عبدالله، وفي حياته كملك كانت له مواقف وسياسات ومبادرات، وما بعده يمكن أن يكون استمراراً أو تغييراً، ومهمة العقل هي الاستكشاف، وفي أنظمة حكم مغلقة كما في السعودية، الحساب ليس بكفاءة ومواهب الأشخاص، بل بالتحديد، التغيير تعبير حصري عن معادلات جديدة في الداخل والخارج نضجت وكانت تنتظر رحيل الملك، فهل هي كذلك؟ أم أنّ لا شيء سيتغيّر إلا بحدود الشكليات والتفاصيل التي تعبّر عن حدود البصمة الشخصية المختلفة للأفراد، وشبكة مؤيديهم ومصالحهم، وتوازنات التنازعات الطبيعية على النفوذ والمكاسب المرتبطين بممارسة الحكم في بلد بمكانة السعودية ومقدّراتها؟

– المفاصل التي كانت عنواناً مستمراً لتعاظم دور السعودية في عهدي الملكين الراحلين فهد وعبدالله، اللذين يصحّ القول إنّ التبدل بينهما لم يتخط حدود التباين في البصمة الشخصية وبطانة البلاط، تمحورت حول القضية الفلسطينية من مبادرة فهد إلى مبادرة عبد الله، والزعامة على الخليج، وإقامة التوازن في وجه إيران، والنفوذ في بلاد الشام، وفي المقابل كانت القيمة المميّزة لما عُرف بالحقبة السعودية، في العيون الأميركية، إدارة ملفات النفط وفلسطين والإسلام.

– الواضح اليوم أنّ المبادرتين الملكيتين السعوديتين صارتا منتهيتي الصلاحية وخارج الزمن، وأنّ الخليج يترنح من بين أصابع القبضة السعودية، من عمان المستقلة، إلى اليمن المتفجر، إلى البحرين المتمرّدة، إلى الكويت الكامنة والإمارات المتريثة، وأنّ بلاد الشام خارج النفوذ من العراق الذي يتعافى بلا مكرمة ملكية برعاية المصالحات وتأمين العباءة الملكية لمواجهة «داعش»، وسورية تقف على قدميها وتصمد في طريقها نحو تخطي الخطر بعد حرب قادتها وشنتها ورعتها مجموعة دولية وإقليمية تصدّرتها السعودية، والتوازن مع إيران صار في خبر كان، وفي العيون الأميركية، تنتهي الحقبة السعودية، بتحوّل المقاومة في فلسطين إلى رقم صعب ووقوع «إسرائيل» في دائرة العجز المزدوج عن السلم والحرب، وبخروج النفط من مكانته في مملكة الرمال كقوة لصناعة السياسة إلى أداة انتحار في حرب أسعار، في زمن المناورات التي تنتهي من جهة بنهاية ما عند العائلة الحاكمة من مدّخرات، ومن جهة مقابلة بلوغ الأميركي السقف الزمني والسياسي مع كلّ من روسيا وإيران في معادلة المفاوضات، والإسلام صار نصفين، نصف يحمل لواءه دعاة الاستقلال والمقاومة من إيران إلى لبنان وفلسطين وتناصبهم المملكة العداء، ونصف يرفع رايات «داعش» و»النصرة» ويضرب ذات اليمن واليسار، فصار الرهان على الاحتواء ضرباً من الحماقة والغباء.

– تنكفئ المملكة على ذاتها، وقد نضجت التغييرات، وكانت تنتظر رحيل كبير العائلة، هذه هي أبرز علامات وفاة الحقبة السعودية، مع وفاة الملك عبدالله، الذي خسر صداقة سورية، ونجح «الإسرائيليون» في توريطه بلعبة مزايدة على مائدة قمار مع حكام قطر، تحت شعار تقدر قطر عليها إنْ لم تقدر السعودية، حتى سخر قدرات المملكة في حروب عبثية تلوح نهاياتها بخسارة ما بعدها خسارة في كلّ اتجاه.

– تنضج التغييرات نحو الخارج كما تنضج نحو الداخل، مع بروز أول ولي للعهد من الجيل الثالث، مع الأمير محمد بن نايف، وإعلان دخول مئة أمير من أبناء العمومة ساحة التنافس والمنازلة على الأدوار، في زمن الشحّ المالي والسياسي، وزمن تقدّم نموذج الحكومات المنتخبة نحو العتبة السعودية من الباب البحراني، وزمن اليمن القادم كدولة وازنة سكانياً وعسكرياً وسياسياً خارج العباءة السعودية، وزمن الاعتراف العالمي بإيران دولة عظمى، وزمن يدق فيه الإرهاب المتجذّر في الثقافة الوهابية أسوار العرش حيث في كلّ مكان خلايا نائمة تستيقظ، أو خلايا خامدة تستردّ العافية.

– التشكيلة الجديدة للحكم في المملكة هندسها الأميركيون، بانتظار رحيل الملك، فتعيين الأمير مقرن ولياً للعهد كان شرطاً عشية زيارة الرئيس الأميركي للمملكة، والتتمة تعيين محمد بن نايف ولياً لولي العهد، شرط متفق عليه ومتوقع لثنائي ينتظر تحوّله ثلاثياً بمجيء عبد العزيز بن عبدالله إلى وزارة الخارجية، يجب أن يقود انتقال المملكة من المواجهة إلى التفاهمات، والتسويات الخارجية والداخلية، تفاهمات وتسويات مليئة بمعارك صغيرة، لأنّ زمن المعارك الكبيرة رحل مع كبير العائلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى