التكريم… والمعيار

سألتني ابنتي الشغوفة بمتابعة الشؤون الوطنية والثقافية: من الأجدر بالتكريم في المؤسسات التعليمية: الجنديّ الشهيد، والمقاوم الشاب، اللذان بذلا حياتهما دفاعاً عن الوطن وتأسيساً لغده الأفضل، أم المُسِنّ المريض حتى الغيبوبة، حتى لو كان في شبابه إشراقاتٌ وفي كهولته خطايا؟

وتسديداً لذلك السؤال، جاءت هذه الخواطر:

جيّدٌ أن يجمع صرحٌ أكاديمي نُخبةً من المثقفين لتكريم شاعرٍ كبيرٍ لا يمكن إنكار مساحته في ديوان الشعر المعاصر. لكنْ ما معيار التكريم؟ من يحدد قيمةَ المدعو الى تكريمه؟ وهل من كيمياء خفيّة بين المُكرِّمْ والمُكرَّمْ؟

يقول رئيس جامعة سيدة اللويزة في الحفل التكريمي الذي أقيمَ للشاعر سعيد عقل يوم الجمعة الماضي إنّ الأخير «دعا الى الحق ولم يخشَ فيه لومةَ لائم». أمّا نائب رئيس الجامعة للشؤون الثقافة والعلاقات العامة، وتعبيراً عن انبهارهِ بالرّجل، فدعا الى ثالوثٍ جديدٍ واحد هو «الله لبنان الجمال».

هنا تتدافعُ أسئلة شتّى، هذه بعضُ نماذجها: أليست الحقيقة، باعتبارها قيمةً أولى، هي حجر الزاوية في بناء الحضارة، التي تغنّى بها خطباءُ التكريم؟ أليس للمواطنين اللبنانيين ذاكرةٌ شفّافة حتّى يتقبّلوا كل هذا الغلوّ؟ وهل ينْسى الناس حقد سعيد عقل على كلّ ما هو فلسطينيّ، ودعوته العنصرية للبنانيين الى القتل، وممارسة الخيانة، وتمجيد الاجتياح والاحتلال، والانضمام الى الجيش «الاسرائيلي»؟ هل يمكن نسيان ذلك أو تجاهله أو غضّ النظر عنه أو العفو عن الفعل الجرميّ وتداعياته؟

أمّا الشعار المستجدّ طرحُه، فحبّذا لو لم يلتقِ في رُكنيهِ الأوّلين معَ مثلثّ الكتائب. لعلّ الجمال تبقى له قُدسيتُه واحترامه ومقاييسه. لكنّ ذلك الجمال لم يوضعْ له ملمحٌ ولا مَعْلَمٌ. أليس سعيد عقل، أصلاً، مديناً في مرتفعاته الجمالية لتراثٍ عالمي استقى من شلالهِ الرشفات البكر التي أصّلَها في صناعةٍ غير مألوفة وصوغٍ فريد سَترا عنها دخيل الاستعارات؟ ألم يكن صاحب «المجدلية» و«قدموس» و«رندلى» مأخوذاً بفلسفةٍ الانجيل وروحهِ الآسرة، وببلاغة القرآن الغامرة، وبميزان أنطون سعاده النهضوي الراجح؟

بلى، وهي بلى مُشبعةٌ بدلائل الطمس والإنكار مع الأسف. لكنّ الرجل الزئبقي كان أسيراً في سقطاته السياسية للأنا القاتلة والحسابات الخاطئة العديمة الأفق، التي لا تخلو من مكيافيليةٍ تتفوّقُ أحياناً حتى في سذاجتها، على شطحات «الأمير» الايطالي الذي ما زال مرجعاً لأشباههِ، الصغار منهم… والكبار.

أمّا جائزته المُشار اليها في حفل التكريم، والتي تخطّى توقفُها زمن منحها، فهل يعرفُ أحدنا لها معياراً؟ ألم يكن الولاء لمدرسة سعيد عقل السياسية والطائفية المغلقة هو الشرط الاول المطلوب توافره في من يمكن أن يعطاها؟!! أمّا العطاء المنسوب الى مانح الجائزة فانّ القليلين يعرفون أنّه كان دائماً مسبوقاً بالأخذ والطلب وأحياناً بالابتزاز حتى لا نقول شيئاً آخر. ولْنتذكرْ جميعاً عِبرة رأس المثلّث الإغريقي في الفلسفة الأخلاقية، سقراط، عندما سُئلَ في محاكمته التاريخية الأشهر: «كيف تزعم أنّك تقول الحقيقة؟». فقال للقضاة الجاهزِ قرارُهم: «فقري هو الحقيقة. وأنتم تعلمون حقَّ العلم أنّني لن أبدّل مسلكي حتّى لو توجّب عليّ الموت مئة مرة». لكن سقراط مات مرّةً واحدة وعاشَ الى الأبد في سِجِلَ التاريخ الأنصع.

تُعِيدنا وقفة العزّ السقراطية الى شاعرٍ أخلاقي كبير عاصرناهُ في القول والفعل، وتحديداً في ربطه إبداع النص بإبداع الموقف، إذْ لا معنى للابداع إذا كان حياً في اللفظ وميتاً في الواقع… لا معنى للحياة بلا مبادئ، والانسانُ الذي يخسر صدقيتهُ أو كرامته مرّة واحدة فلن يستطيع أن يستعيدهما مرةً أخرى.

أَغْلَبُ الاعتقاد أنّ غزيراً من الحبر أُريقَ بعد رحيل سعيد عقل، وربّما سيراقُ الأغزر من المزايدات المفتقرة الى الموضوعية. لكنْ رِفقاً بالحقيقة أيّها السادة، رِفقاً بالقيم الوطنية التي ليست كأساً من العَرَق، يطربُ لها البردوني أو الليطاني أو العاصي، رِفقاً بالانتماء الذي ليسَ قصيدةً تُلقى على المنابر بمقدار ما هو ثقافةٌ مطلوبٌ غرسُها في تربةِ الأجيال… الكلمة الأصدق للانتماء هي تلك التي يكتبها الشهداء بقطرات دمهم الغالي. إذ ذاكْ يصنعون الملحمة الانسانية الأرقى فيصبحون المواطنين القدوة والشعراء الأفصح.

ربيع الدبس

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى