الدم فوق الجميع

نسيب أبو ضرغم

هل هو قدرٌ للجيش اللبناني أن يكون أسير ألاعيب السياسة؟ وهل قدر دماء أبنائه أن تكون أضحيات على مذابح المنافع الشخصية والإرادات الخارجية؟

ها هو الجيش، الحرز الأخير للبنان، ينفلش على الأراضي اللبنانية كافة، هنا يزرع شهداء، وهناك معوّقين وجرحى، … وأسرى بالقرار السياسي! ولم يبخل، ولم يتأخر، لا مطالب لديه، إلاّ إثنان: التفاف شعبي حوله وسلاح.

بلى: التفاف شعبي، وسلاح، وكلاهما غير متوافر، إلاّ بالشكل الذي لم يعبر بعد إلى دائرة الأساس.

ثمانية شهداء ارتفعوا في الأيام الماضية، وقد أسقطوا خطة جهنمية كانت تقضي باجتياح مناطق واسعة من السلسلة الشرقية لجبال لبنان وصولاً إلى رأس بعلبك، لإقامة الإمارة هناك.

ثمانية شهداء أنقذوا لبنان من حمام دم، ومن تمزيق وحدته الجغرافية، ومن تحقيق حلم الإرهابيين الأصلي بالوصول إلى مرفأ طرابلس.

سال الدم، وحُرست الأرض والشعب أيضاً، وشهداؤنا الثمانية تدفقوا على أكف الشعب إلى قراهم، يدفنون وسط أهلهم وممثلي جيشهم.

ثمانية شهداء لم يشكلوا حافزاً لكثيرين للوقوف على قبرهم ومبايعتهم ملوكاً على لبنان الآتي، شهداؤنا صهيل انتصاراتنا وحصن كراماتنا وشرط حريتنا.

ما حصل في جرود رأس بعلبك أمر يفوق بأهميته وأخطاره كل حدث. ما حصل مضى مثلما تمضي نسائم الهواء! كأنّما لم يكن ثمة خطر حقيقي قائم يقضي باجتياحات ومجازر وأسر وإذلال جديد؟ لو لم يكن هناك ثمانية شهداء.

ما هذا اللبنان؟! كيف تتعايش فيه هذه التناقضات كلّها؟! كيف تتحقق فيه وقفات العز وبهذه الغزارة من أبطال الجيش والمقاومة؟ وفي الوقت ذاته كيف تتدفق منه هذه الأمواج كلّها من الباحثين عن منصب، أو المؤكدين لجميل، أو المتذكرين «خبز السلطان»؟! زرافات ووحداناً، تركوا وطن شهداء الجيش، ولم تكن جثامين هؤلاء الشهداء قد عانقت التراب بعد، وسافروا على الأجنحة الميمونة يقدمون مراسم الولاء والبيعة والتقرب زلفى كأنهم قبيلة سعودية أتت تقدم البيعة للملك الجديد.

كيف يمكن أن تصدق أن هؤلاء، عينهم، نفسهم، ذاتهم، يحملون الهوية ذاتها التي يحملها الأبطال الشهداء الثمانية ومن سبقهم؟! أَلَمْ يكن تقديم التعازي في بيروت كافياً؟! توفيراً لوقت عزيز كان مفترضاً شرفاً ووطنيةً أن يُقضى جنب الشهداء وذويهم، دعماً لهم، وللوطن وللجيش؟!

هل يصدق أحدٌ، أن الإثنين من وطن واحد وينشدان نشيداً وطنياً واحداً، ويهتفان بحياة لبنان؟! أما وأنه قد هُتِف بحياة غير لبنان مرةً، وصار ذلك دستوراً؟!

سيبقى دم شهداء لبنان من الجيش والمقاومة فوق كل شيء، وكل اعتبار، سوف يمضي صهيل الدم غير ملتفتٍ إلى مُكتسب هنا وزحفطوني هناك. الدم، الدم، صانع الأوطان، والأمجاد، والاستقلال والكرامة، الدم وليس سواه، راسم الطريق، وخالق الرئاسات!

ليس شهداء الجيش والمقاومة أيتاماً، ترعاهم جمعيات دفن الموتى! إنهم قادة أحياء بين صفوف شعبهم الذي حضنهم بعقله وروحه، ليسوا في حاجة إلى دعم أحد، بل هم مَن يدعمون كل أحد. ليسوا نكرات ينتظرون أصحاب الألقاب والطموحات ليُعرفوا، أو يرتفعوا، بل ههم من يعطي هذه العطاءات كلّها، وما كانا إلا في ارتفاع.

يقول شهداء الجيش للجميع ها نحن قد منعنا عنكم خطراً وذلاً وتشرداً، وأمّنا لكم كرامة وعزة. لا نطلب منكم شيئاً لنا، بل لكم. نحن قد مضينا أمّا أنتم فَسَتبقون. نحن لم نقدم أغلى ما نملك ـ أرواحنا ـ كي تستجدوا شيئاً من أحد، كائناً مَنْ كان، وكائناً ما كان. لقد أغنيناكم بشهادتنا عن كل شيء، فلماذا تمدون أيديكم؟!

عِزّوا أنفسكم تجدوها…

لبنان المحرّر، هو لبنان الأغنى الذي يعطي الجميع، وقد قررنا نحن ومن سبقنا ومن سيأتي بعدنا من رفاقنا في المؤسسة العسكرية أن نحرره ونبقيه الأغنى والأكثر أماناً، لنبقيه جاراً للقمر وحبيباً للشمٍس، وشقيق الجدول… قررنا أن نحرسه بما لا طاقة لقوة على الأرض أن تنال منه بالدم.

حسناً، نحن نعرف طريقنا إلى القبور، مثلما كنا نعرف طريقنا إلى وقفات العز، لسنا في حاجة إلى مشيعين… لأننا من الوطن وإليه. إلاّ أن ما يحرقنا، أطفالٌ لنا، تركناهم بطراوة الياسمين… وجناتهم أولى بقبلة حنان، من أكتاف وأنوف سواهم…

أما الدعوة بطول العمر… فلا تقدم ولا تؤخر.

دَمُنا ليس أعلى منه إلا الوطن… أما هو فسيبقى فوق الجميع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى