هوية… برسم البيع!

د. سلوى خليل الأمين

فاجأتني بالقول: سأطرح هويتي في المزاد العلني، لأنني مللت هذه البلاد ومن عليها، وعندما رأت علامات الاستغراب ترتسم على وجهي قالت: قبل ان تتحفيني بجوابك المعترض المحشو بالوطنية، سأشرح لك وجهة نظري ولك بعدها حرية الاعتراض!

خلقت على هذه الأرض من أم وأب لبنانيين منذ أكثر من عشر سنوات، حين ذهب والدي إلى مأمور النفوس كي يأتيني بهوية تثبت أنني مواطنة لبنانية، لم أكن على بيّنة من الأمر، فأنا لست المسيح ابن مريم الذي تكلم في المهد صبياً، حملت هذه الهوية اسمي الذي اختاره والداي، ومذهبي الذي تبعته عائلتي بالوراثة، وبتّ في نظر المحظوظين من أبناء العالم الأكبر، مواطنة من الدرجة العاشرة، يحق لسيد الكون سلب حريتي، واختراق سيادة وطني، والتكالب على ذبحي على الهوية، واحتلال بلدي وتدميره، متى شاء.

تدرّجت في مطالع العمر، وكان عليّ أن أذهب إلى المدرسة التي تمّ اختيارها لي، وحتم عليّ أن أدرس المنهاج المقرّر، بغضّ النظر عن قرفي من بعض مواده، وحين وصلت إلى عمر اليفاع، كان عليّ أن أقبل بالزوج الذي اختاره الأهل لي، حيث لا اعتراض على قرار العائلة، وغير مسموح الشكوى، حتى لو دبّت المظالم في جنبات البيت الزوجي، إلى جانب هذا، كان عليّ أن ألقي طموحاتي جانباً، فالأولاد زينة الحياة الدنيا وعليّ الإنجاب، وبسرعة، وإلا فالمشكلة شاقة، ولا يحلّها سوى الطبّ والعقاقير، تصوّري ابنة الـ17 المطلوب منها الحمل والولادة، وعدم الاعتراض أيضا.

لهذا تعوّدت الخضوع والسير على النقاط المرسومة، إلى حين استوى العمر ونضج، فتغيّرت عندئذ المعادلات، فحريتي اليوم ملكي وهويتي ملكي، أبيعها لمن أشاء، واحتفظ بها ساعة أشاء.

حين بدأت بتحسّس مشاكل الوطن لم أشعر أنها غريبة عني، فما درسته في كتب التاريخ أثار حفيظتي، كنت أسأل نفسي دائماً: لماذا اغتصبت فلسطين؟ لماذا سمح القادة العرب بذلك؟ لماذا سمح ما يُسمّى بالعالم الحرّ والديمقراطي بتشريد شعب من أرضه، ومنحها ظلماً وعدواناً للعدو الصهيوني؟ لماذا قتلوا الإمام الحسين بن علي وهو حفيد رسول المسلمين وقرّة عينه؟ ولماذا صلبوا السيد المسيح عيسى بن مريم قبله؟ كلّ هذه الأسئلة سكنت عقلي وتفكيري، ولم أجد لها جواباً، بعدها بدأت الثورات العربية ضدّ المستعمر التركي وبعده الفرنسي، ونال لبنان استقلاله، وبات هذا البلد محكوماً بالطائفية التي أورثتنا سياسة فرّق تسُد، وما زلنا إلى تاريخه نعاني من نتائجها الملتبسة.

هنا لاح في الأفق فجر الأحزاب الوطنية والقومية العلمانية، تبعتها وآمنت بإيديولوجيتها القائمة على احترام حرية الفرد في حياته ومعتقده، حيث لا إكراه في الدين، وحيث الدين لله والوطن للجميع، فجأة اغتيال أنطون سعاده لأنه رفض خزعبلات رجال السياسة، وحكام مرحلة ما بعد الاستقلال المغلّفة بتوجهات المستعمر نفسه، وباتت الأحزاب اليسارية من شيوعية وبعثية وقوميين عرب وقوميين سوريين محاصرين وملاحقين، فالقانون يحرّم الانتماء إلى الأحزاب، وبالتالي ممنوع المجاهرة بأنك منتم إلى حزب يساري… أياً كان هذا الحزب…

استمرّ الوطن ضعيفاً، فقد وصفه الجميع بالقول: قوة لبنان في ضعفه، لهذا كان العدو الصهيوني يجتاح الجنوب وصولاً إلى العاصمة بيروت، وحتى مدينة بعبدا حيث القصر الرئاسي، حين الكلّ ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأنّ الجيش اللبناني المولج بالدفاع عن الوطن طريّ العود، لا يملك السلاح المضادّ للدفاع عن الأرض والعرض والسيادة والكرامات، وحين الزعماء كلّ يغني على ليلاه، فهذا منتم للشرق وذاك للغرب، أما الانتماء للوطن فكلام في الهواء.

في ظلّ هذا التراخي الواضح والضعف المعلن كان لا بدّ من تمدّد البندقية الفلسطينية، التي أخذت مداها في السيطرة على لبنان، وعلى بعض زعاماته، الذين اعتبروا البندقية الفلسطينية جيشهم المغوار في ظلّ اتهام الجيش بالطائفية، ومساندة فريق من اللبنانيين على الآخر، فكان ما كان من ثورة 1958، التي حسمت الوضع بمجيء قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، فاستبشر اللبنانيون خيرا حين قيل عنه إنه أبو المؤسسات، لكن تجاوزات المكتب الثاني «المخابرات» أفشلت عهده، لهذا لم يتمّ التجديد له أو التمديد، بحجة ان كلا الأمرين مخالف للقواعد البرلمانية.

في العام 1975 وبعد التمدّد الفلسطيني بسلاحه على الحدود اللبنانية بعد اتفاقية القاهرة، وحصول التجاوزات اللامعقولة من قبلهم على الساحة اللبنانية، والكتائب يسلّحون شبابهم تحضيراً لليوم الموعود، لهذا انفجرت الثورة مجدّداً، هذه المرة لم تكن ثورة بندقية، فالسلاح المتطوّر بدأ يصبّ في الموانئ اللبنانية، ولبنان منقسم على نفسه بين يمين ويسار، إلى أن أصبح لبنان على ما هو عليه في الحالة الراهنة ممزقاً ومشرذماً طوائف ومذاهب وكتلاً وتيارات وحركات وأحزاباً… والهدف واحد: كلّ يفتش عن حصصه، أما الجيش الذي هو لكلّ الوطن، فلا حول له ولا قوة، ممنوع عليه السلاح المتطوّر، وممنوع عليه أخذ السلاح المتطوّر المقدّم من إيران مجاناً وحتى فرنسا التي أمدّتها السعودية بـ3 مليارات دولار لتسليح الجيش بدأت بفرض شروطها، علماً أنّ الخطر محدق بالوطن من كلّ جانب.

انظري ما حدث في صيدا من الشيخ الأسير، الخارج على القانون وجماعته وداعميه، وانظري ما يجري في جرود عرسال، نخسر ضباطاً وجنوداً ولا يرفّ لأحد جفن، حتى إعلان حالة الطوارئ ممنوع، وسلاح المقاومة التي حرّرت الوطن من رجس العدو الصهيوني وقدّمت الشهداء، وما زالت تقدّم، دفاعاً عن الوطن من خطر الدواعش والعصابات الإرهابية، ما زال موضع خلاف أيضاً، فبيت «بو سياسة» كلّ يغني على ليلاه، فهذا الفريق هناك وذاك الفريق قبالته في الطرف الآخر، ضدان لا يلتقيان، وإنْ تحاورا فليس على الأمور الأساسية وأهمّها رئاسة الجمهورية، والوطن بينهما في حالة انهزام وضياع وانكسار وظلم ما بعده ظلم، والمواطن مقهور ومربك لا حول له ولا قوة، يصفق لهذا، ويطرب لذاك، من أجل تأمين لقمة العيش، أو وظيفة لولد، علماً أنّ الرواتب ضئيلة، والخزينة منهوبة، والفساد على عينك يا تاجر. فأنا مثلاً، يا صديقتي، لا يكفيني راتبي لأسبوع، وأنا أحمل أعلى الشهادات، العديد من السادة النواب وحتى الوزراء لا يحملونها، إلى جانب أنّ أفعالهم الطائفية والمذهبية هجّرت أبنائنا إلى بلاد الله الواسعة، صحيح أنهم من المبدعين في الخارج، وأنا كأمّ وغيري من الأمهات فخورات بهم، لكن أنت أدرى بخصوصية هذا القلب، كم يحمل من عاطفة للأبناء، إلى درجة أنّ الله منحنا كأمهات جنته التي وعد عباده بها، إنْ اتبعوا صراطه المستقيم.

نعم أنا اليوم أريد طرح هويتي للبيع، وبالمزاد العلني، خصوصاً في هذا الظرف الذي يتمّ فيه منح الجنسية اللبنانية لمن يدفع المبالغ المرقومة من الأجانب والعرب، فالموقعون الرسميون يستسيغون السكن في القصور التي تليق، بعد أن تعوّدوا سكناها، وهذا يلزمهم بتوفير المال الآتي من قهر الناس وظلمهم وسرقة زيادات رواتبهم، والأرض أيضاً مباحة للبيع، يشتريها المتموّلون الخليجيون، في الوقت الذي يمنع على اللبناني الدخول بسهولة إلى بلادهم، لأنّ مبدأ المعاملة بالمثل غير وارد في سجلاتهم، لهذا ما يحق لهم لا يحق لنا كلبنانيين، وإنْ تمّ الاعتراض… فإنّ طرد اللبناني العامل في ديارهم أمر سهل وبسيط.

بعد كلّ هذا تسألينني باستغراب لماذا أطرح هويتي للبيع؟ أنا اليوم لا أملك سواها رأسمالاً يقيني حاجة العمر الباقي، لأنني متأكدة أنها ثروة قيمة، سأحزن على فراقها حتماً، لأنها جزء مني، من مراحل عمري، لكن ما باليد حيلة… هل لك بعد كل هذا أن تعترضي على موقفي؟ الوطن ليس لنا، فأنا لست من الفئة الضالة، الفاسدة، الخائنة، والمتغيّرة المتبدّلة، لهذا كله أطرح هويتي للبيع غير آسفة على وطن كان جزءاً مني وأنا جزء منه، وطن كان أبي وأمي وأجدادي وأحبائي، وهو اليوم حكراً لفئة باغية… هل اقتنعت؟ كان الصمت من جهتي أبلغ الكلام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى