النزعة الفرديّة والحرب عليها

د. حيدر حاج اسماعيل

«يجب على القوميين الاجتماعيين أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الأجنبي».

أنطون سعاده، كتاب أنطون سعاده في مغتربه القسري، 1942، للآثار الكاملة 10، مقال «النزعة الفردية في شعبنا»، من 27 .

ذلكم ما قال الفيلسوف سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ عام 1932. وكان علينا أن ننتظر، منذئذ، ما يقارب ثلاثة أرباع قرن من الزمان، لكي نقرأ أحد كبار فلاسفة الغرب الأوروبي يؤلف كتاباً مهماً يتحدث فيه عن المذهب الفردي ومثالبه في المجتمعات الأوروبيّة الغربية، نعني الفيلسوف الأسكتلندي ألاسدير ماكنتاير Alasdair MacIntyre فلنقرأ ما يقول:

نبدأ من ذكر المبادئ التي منها انطلق وإليها استند ماكنتاير 1 لتأسيس مناقشاته وتقويماته وانتقاداته للفضيلة السائدة في زمنه وقبل زمنه، منذ ما بعد الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس إلى اليوم، وهي:

المبدأ الأول سوسيولوجي مفاده أن المجتمع قبل الفرد، فالمجتمع يحتلّ مرتبة الأولويّة في الواقع وفي الاعتبار، في حين يحتل الفرد المرتبة الثانوية.

المبدأ الثاني تاريخي ومفاده أن الأخلاق تابعة للتاريخ أو لها علاقة بالتاريخ، ففضائلها تتغير من زمن إلى زمن، فليست هناك فضائل أخلاقية مطلقة.

المبدأ الثالث غائي telos ومفاده أن للفضائل غايات ترمي إليها وليست بالأمور الاعتباطية المتروكة للفرد أو الأفراد ونزواتهم وتقلّباتهم.

المبدأ الرابع أخلاقي، في المعنى الدقيق، ومفاده مصلحة المجتمع فوق كل مصلحة، وهو مبدأ أرسطو.

شكّلت هذه المبادئ ما يشبه المطرقة النيتشوية التي نزل بها ماكنتاير على الفلسفات الفردية من أولها إلى آخرها، وبخاصة بعد إخفاق مشروع عصر التنوير The Enlightenment أيّما إخفاق، فحطّمها تحطيماً.

أذكر، على سبيل المثال، لا الحصر، مذهب المنفعة utilitarianism الذي وضعه جيرمي بنثام Jeremy Bentham والذي قال بالسعادة الكبرى للعدد الأكبر، في كتابه «مبادئ الأخلاق والتشريع» قاصداً العدد الأكبر من الأفراد. كما أذكر مذهب الفيلسوف الألماني كَنْتْ Kant الذي قال بالواجب المطلق أو الآم الأخلاقي المطلق الذي يجب أن يلتزم به الفرد.

مثال آخ يذكره ماكنتاير اختص بما عرف باسم العقود الاجتماعية، فذكر اثنين منها هما العقد الاجتماعي الذي وضعه هوبس Hobbes والعقد الاجتماعي الذي وضعه لوك Locke، وكلاهما يقوم على الأفراد وقرار الأفراد.

يجدر، في هذا السياق، التذكير بأنّ العقود الاجتماعية التي وضعها الفلاسفة هي إلى الآن ستة عقود، وتصنّف في صنفين هما:

العقود الواقعية كما يظن وهي أربعة، وواضعوها هم الفلاسفة هوبس ولوك وروسوّ Rousseau وهيبرماس Habermas.

والعقود الافتراضية وهي عقدان ذكر أحدهما الفيلسوف الألماني كنتْ وذكر الثاني الفيلسوف الأميركي رولز Rawls.

في سياق هجوم ماكنتاير النقدي على الفردية ومذهبها لم يوفّر ماركس، فقد اعتبر أن الطبقة لدى ماركس ليست إلاّ مجموعاً من الأفراد، وليست المجتمع الواقعي الطبيعي.

عليّ أن أعود، الآن، إلى الميدان الأخلاقي، حصراً، وهو ميدان كتاب «ما بعد الفضيلة». وفي هذه العودة لا بدّ لي من شرح المبدأ الرابع الذي اعتمد عليه ماكنتاير، أعني مبدأ أرسطو. وهذا يتطلّب منا النظر في ما وضعه أرسطو عن الأخلاق، خاصة في مؤلفاته هذا ما لم يفعله ماكنتاير، ربما مفترضاً معرفة القراء بتفاصيل ذلك المبدأ .

أذكر، بداية، أنه وردت في مؤلفات أرسطو الأخلاقية والسياسية فكرة فيليا Philia أو المحبة التي عُرّفت في كتاب «السياسة» بأنها «إرادة العيش معاً» 2 . فتكون النتيجة المباشرة لتعريف فيليا بتلك الطريقة هي اعتباره واجتماعية الإنسان شيئاً واحداً.

علاوة على ذلك، نجد أرسطو مميّزاً في كتاب «السياسة» Politics بين نمطين للحياة الإنسانية هما: العيش، أي مجرد العيش، وهو صفة القرية والمنزل، والحياة الجيّدة التي هي صفة مجتمع المدينة وحده polis 3 .

في مجتمع المدينة تصير فيليا أكثر تعقيداً، فهنا نجد العدالة وليس الحب المبني على القرابة، مثلما هي الحال في المنزل وفي القرية هي الأقرب إلى مفهوم فيليا.

في كتاب «الأخلاق النيقوماخيّة» Nicomachean Ethics يذكر أرسطو أن فيليا والعدالة يشتملان على المساواة 4 .

أما في كتاب «الأخلاق البوديميّة» Eudemian Ethics فإنّ أرسطو يصف فيليا بأنها عدالة خاصة 5 ، بينما يصفها في الأخلاق النيقوماخيّة بالقول إنها توازي، بمعنى تشبه، العدالة 6 . وفي الكتابين المذكورين كليهما قيل إن فيليا تتضمّن العدالة 7 .

يذكر أرسطو ما يفيد بأن، إذا كان جميع البشر محبين، افتراضاً، فلا حاجة إلى القانون لأن حياتهم ستكون عادلة 8 .

بعد ذلك يعدّد أرسطو الفروق بين فيليا والعدالة فيذكر أنها تتمثّل في طبيعتهما المختلفتين: الأولى شخصية والثانية جمعية. فيليا المحبة هي بين أشخاص، بينما تشتمل العدالة على مجموعة من القوانين تُطبق على جميع مواطني مجتمع المدينة.

كان أرسطو على بيّنةٍ من هذا الفرق حتى أنه وصف فيليا بالقول إنها عدالة خاصة «تعتمد على نفوسنا وحدها» 9 . ويذكر مما يذكر في «الأخلاق النيقوماخية» أن الإنسان الفاضل يعتبر المحبّ ذاته الأخرى 10 .

أكتفي بهذا المقدار من التعريف بفلسفة أرسطو الأخلاقية، وبخاصة مرتبة فيليا فيها، وذلك تسديداً للنقص الذي وجدته في كتاب «ما بعد الفضيلة» والمتعلق بها.

مع ذلك أؤكّد على أهمية الكتاب لجهة ثرائه الفكري وغناه النقاشي وسعة ميدانه، وأن هدف صاحبه الرئيسي كان النقد والنقض لمذهب الفردية المتفشي في زماننا والمتّخذ صوراً واشكالاً شتّى، ومغرية أحياناً، رغم تضليلها، مثل الليبرالية وما قارن.

تعرّض كتاب «ما بعد الفضيلة» فور صدوره لانتقادات عديدة بعضها مغرض وبعضها محق، وذكر الكاتب بعضها في ملحق الكتاب الذي حمل عنوان «ملحق للطبعة الثانية».

قبل الختام، تجدر الإشارة إلى أن أهمية الفكرة، فيليا، بمعنى المحبة، تجلّت أيضاً في اسم الفلسفة Philosophy ذاته الذي يتألف من كلمتين يونانيتين هما فيليا philia وصوفيا Sophia ، الأولى تعني المحبة والثانية الحكمة. من هنا كان تعريف العرب للفلسفة بأنها محبة الحكمة.

كما تجدر الإشارة إلى أن كلمة فيليا، وللأهمية التي ذكرناها، اتخذت لدى زينون الرواقي الفينيقي الأصل ، بعد أرسطو بنحو سنة، معنى الأخوة، وذلك في تعبيره الجديد، أعني «كوسموبوليس» cosmopolis الذي عنى به الأخوة البشرية أو جميع البشر أخوة، فكان به التأسيس الحقيقي لعمل الأخلاق.

أعود لأؤكد من جديد أن الفضيلة التي هاجمها كانت تلك الفضيلة الفردية، وأنه نجح إلى حد بعيد في الكشف عن عيوبها وأخطارها رغم جميع ردود الفعل السلبية وانحيازاتها الليبرالية الفردية.

بلى، الأخلاق، سواء قال بها أرسطو أو غير أرسطو وأكّدها ماكنتاير، هي: مصلحة المجتمع فوق كل مصلحة.

1 ماكنتاير فيلسوف اسكتلندي عمل أستاذاً في جامعة نوتردام وله مؤلفات في الأخلاق والسياسة، وكتابه الذي نتحدث عنه هو After virtue ما بعد الفضيلة الذي صدر في منشورات Bloomy Burry عام 2007.

2 Richard McKeon, ed , The Basic Works of Aristotle, New York: Random House, 1968, Politics, III, 9, 128 ob .

3 المرجع السابق III, 5, 1278 b 20 25

4 Nicomachean Ethics, VIII, 9, b 29 30, VIII, 7, 1159 a 1 5.

5 Eudemian Ethics, Vii, 1, 1234 b 30 31, VIII, II, 1161 a 101 11.

6 Nicomachean Ethics, VIII, 9, 1159 b 25 27, VIII, 11, 1161 A 10 11.

7 المرجع السابق، VIII, 1, 1155 a 22 28 and Eudemian Ethics, VII, 1, 1234 b 24, 29 30,

8 Nicomachean Ethics, VIII, 1, 1155 a 26 VIII, 1159 b 25.

9 Eudemian Ethics, VII,1, X, 9, 1170 b 6 7.

10 Nicomachean Ethics, 1 x, 9, 1170 b 6 7.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى