حقبة العنصريّة في أميركا في فيلم «سيلما»… درب الحرّية تبدأ بحلم

يفيض فيلم «سيلما» للمخرج آفا دوفرتي، الذي يعرض في الصالات العالمية اليوم، بخلاصات الحرية، و»سيلما» هي مدينة تقع على حزام مناطق السود في ولاية ألاباما الأميركية، ومنها انطلقت شرارة الثورة للمطالبة بالحقوق المدنية للسود: الحق في التصويت والترشح والمساواة مع البيض، وهي الحركة التي قادها الثائر الكبير وقائد حركة التحرر والحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ عام 1965.

تدور حوادث الفيلم على خطين متوازيين، الأول هو الثورة التي تتشكل في نفوس السود ضدّ بطش السلطات الأميركية والظلم والعزل والقهر والتهميش والعنصرية، بلوغاً إلى القتل الوحشي إبان تلك الحقبة، في مناخ من التمييز العنصري والعرقي البغيض الذي طال ملايين السود في أنحاء الولايات المتحدة.

أما الخط الثاني، فيدور حول سيرة المناضل التاريخي الشاب مارتن لوثر كينغ الذي أفنى شبابه وحياته من أجل للوصول بأبناء جلدته إلى الحرية والمساواة والحقوق المدنية كاملة غير منقوصة، وخاض صراعاً مريراً لسنوات طوال ضد السلطات، حتى اغتياله عام 1968، منادياً «أنا لديّ حلم».

يركز الفيلم على حركة سيلما للحقوق المدنية التي أضحت علامة فارقة في تاريخ النضال الإنساني، والتحم فيها البيض مع السود، خاصة بعد أولى المسيرات الاحتجاجية التي انطلقت في تلك المدينة النائية، والتي انتهت بمقتل وإصابة الكثير من السود الذين شوهدوا على الشاشات وهم يطاردون بالهراوات ويُضربون بالرصاص، ويتعرضون لآلة القتل والتعذيب الوحشية التي لا تميّز ما بين كبير وصغير ولا بين امرأة ورجل. وذاك ما تناقلته وسائل الإعلام وتسبب بصدمة في أوساط الرأي العام، ما دفع البيض إلى الالتحاق بالتمرد والانضمام إلى التظاهرة الكبرى التالية، ويصبح مقتل المتظاهر الأعزل جيمي لي جاكسون علامة إدانة للنظام كله.

مارتن لوثر كينغ يؤدي شخصيته ديفيد أيدلو يظهر متسلّماً جائزة نوبل للسلام عام 1964، أي من النهايات ومرحلة التتويج والنصر، ونعود معه إلى البدايات الأولى لانطلاق شرارة الثورة، وكان خلالها الرجل المثقف والمحاور والمتحدث والخطيب اللبق، ونشاهده في مشهد لافت أثناء لقائه رئيس الولايات المتحدة عهدذاك ليندون جونسون يؤديه توم ولكنسن . فالرئيس وفريقه وأجهزة «إف بي أي» يصغون جيداً للمطالب الواضحة لكونها ببساطة شديدة الحق في الحرية والعدالة الاجتماعية والحق في التصويت والترشح للانتخابات… مطالب واضحة سرعان ما يلتف حولها الرئيس وفريقه قائلين إن ولاية ألاباما وسائر ولايات الجنوب الأميركي المليئة بالسود هي أحوج ما تكون إلى التنمية والتعليم أكثر من أي شيء آخر، وهي كلمة حق يراد بها باطل، للتملص من الحقوق والمطالب المشروعة.

لدى انطلاق حركة الحقوق المدنية في «سيلما» كان أتباعها قلة ولا يتجاوزون بضع مئات، ما جعل السلطات تستهين بهم، وسكت الرئيس جونسون شخصياً عن قمعهم على يد حاكم الولاية ذائع الصيت والأكثر دموية وعنصرية جورج والاس يؤديه تيم روث ، فهو الذي أعطى إحساساً للرئيس جونسون بأنه لا ينبغي السكوت على مثل هذه الأنشطة الخطيرة التي تخل بالأمن والاستقرار، كما يزعم، وأن الزنوج إذا ما أعطوا حقاً فسيطالبون بآخر، وأن ذلك هو الدهاء الذي يضمرونه، ولذلك ظل يسخر قوات الشرطة وسائر قوات الأمن في الولاية لترويع السود وردعهم، وصولاً إلى قتل من يواصل مشروع التظاهرات المطالبة بالحريات والحقوق المدنية.

لم يخرج كينغ في مسيرته عبر أحداث الفيلم، قيد أنملة عن مبدأ سلمية الثورة، رغم ما واجهه من تحريض من بعض مناصريه في لحظات يأسهم، وما استطاع خصومه جرّه إلى المواجهات العنيفة والانتقام والانتقام المتبادل، بل إن سرّ قوته وقوة حركته يكمن في التمسك بسلمية الثورة، لا بمقارعة السلاح بالسلاح. ويمتلك كينغ أكثر من سبب يمنعه من الانزلاق إلى العنف والدم، فحركته سلمية أولاً وأخيراً، كما أنه يعلنها مراراً في خطاباته أن تميّزهم يكمن في حركتهم السلمية التي تستطيع أن تهزم أعتى السلطات، ما داموا متمسكين بالمسيرة السلمية منطلقين من مدينة سيلما في اتجاه مدينة مونتغومري وصولاً إلى واشنطن.

يقدم الفيلم من خلال المزج بين الوثائقي والسردي الروائي بعداً ما للمدينة. سيلما المدينة الصغيرة المتواضعة سرعان ما تتحول إلى ند قوي لسلطات الولايات المتحدة ومصدر قلق وتحسب، ويكاد لا يخلو اجتماع لرئيس أميركا من الحديث عن رمزية مدينة سيلما كحاضنة للثورة والثوار، ينبغي يحسب لها حساب.

هناك، عند جسر إيدموند بيتس، تنسج خيوط الثورة، ويعلو صوتها على أي صوت. مارتن لوثر كينغ لا يرى إمكاناً للحوار مع مالكوم إكس، الرائد الآخر لثورة الحريات المدنية ذائع الصيت الذي، على ما يظهر الفيلم، يحاول إثناء كينغ عن المضي في طريق الصدام والمواجهات مع السلطات، وهذا ما يرفضه كينغ، فلا يجد سبيلاً للحوار معه، ويلجأ إكس إلى محاورة عدد من مساعدي كينغ بمن فيهم زوجته، لكن من دون جدوى، إذ يعلن كينغ: «لديّ نفسي والحقيقة، وإنّ لدينا طريقين مختلفين».

في آخر حوار لكينغ مع الرئيس جونسون، وكان محتدماً وصريحاً، يسأل الرئيس، عن معنى اغتيال أحد القساوسة البيض عقاباً له على مشاركته في إحدى تظاهرات مدينة سيلما، معتبراً أنه انتقال شرير وبالغ القسوة إلى نوع من البطش الذي يناقض قوانين الولايات المتحدة، وأنه في صلب مهمة رئيس الولايات المتحدة كراع لجميع الأميركيين، بصرف النظر عن أعراقهم وأصولهم، وهو الإنذار الأخير للسلطات بأن الثورة والمسيرات السلمية ستتواصل دونما توقف، حتى بلوغ سائر أهداف السود في حياة كريمة وحقوق كاملة، ما يثير جدالاً بين الرئيس جونسون وحاكم ولاية ألاباما الأكثر تشدداً ضد السود.

يصرخ كينغ: «أيها الأميركيون، إذا كنتم تؤمنون بأن الناس خلقوا أحراراً ومتساوين، بصرف النظر عن لونهم أو عرقهم، انضمّوا إلينا في سيلما». مسيرة سيلما عام 1965 التي وصلت إلى البيت الأبيض واحتشد فيها عشرات ألوف السود المضطهدين ودعاة الحقوق المدنية، وانضمّ إليهم الأميركيون من البيض المؤمنين بسلمية الحركة والحقوق المتساوية، أعلنوا: «نحن هنا ولن نتزحزح، والحرية تبدأ بحلم سيصبح حقيقة».

ذاك ما تحقق فعلاً، إذ أعلن الرئيس جونسون الموافقة على المطالب، وصدرت تشريعات وقوانين جديدة توفر للسود كامل حقوقهم، عندئذ ألقى مارتن لوثر كينغ خطاب النصر أمام الحشود في المشهد الأخير من الفيلم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى