كلام صريح لطبقة سياسية فاقدة للأهلية

د. وفيق ابراهيم

بات واضحاً أنّ هناك خطرين مصيريين يتهدّدان كيان لبنان السياسي المولود في عشرينات القرن الماضي: الإرهاب التكفيري وسياسات الطبقة الداخلية الحاكمة.

ليس مقصوداً في هذا المدخل، معالجة الفروقات الهائلة في المداخيل بين عموم اللبنانيين وسياسييهم، ولا الدفاع عن ديمومة الكيان السياسي اللبناني… بل المُراد تسليط الضوء على محاولات التنظيمات التكفيرية إنهاء الصيغة اللبنانية، لمصلحة مُنتج أكثر تخلفاً منها: تدمير نظام طوائفي متصالح واستبداله بمعادلة إرهابية تستحضر القرون الوسطى، بما كانت تحتويه تلك القرون من ذبح وقتل وأسواق للجواري والعبيد والغلمان والاستيلاء على الغيب. هناك إذاً، مشروع إرهابي ينتشر في مناطق في شمالي البلاد والمناطق المحاذية لسورية وبعض أنحاء مخيمات الفلسطينيين والنازحين السوريين، يرفع شعار «إمارات إسلاماوية»، محاولاً تأمين بيئات حاضنة لها من خلال اختراع أعداء مذهبيين في لبنان والمنطقة، أو الزعم بانتصار المعارضات في سورية.

وإذا كان هذا التيار لا يزال يعمل على تعميق خطوط الانقسام المذهبية والطائفية، فإنّ ما يؤسف هو وجود قوى لبنانية أساسية تسعى، وبدعم من قوى إقليمية، إلى استثمار هذا التيار الإرهابي وتحويل حركته اللبنانية لمصلحة إمساكها بكلّ مفاصل السلطة في لبنان.

توغل «حزب المستقبل» بعيداً في تأييد التيار التكفيري، تلبية لمطالب وردته من مراكز التأثير السعودية من جهة، وبعض المنتسبين إليه في الداخل اللبناني من بين المرتبطين بالاستخبارات التركية وغلاة «الإخوان المسلمين» من جهة أخرى. فقد كان «المستقبل» يطمح إلى هزيمة النظام السوري، ظنّاً منه أنه بذلك يستطيع أن يمسك بزمام الأمر السياسي في لبنان، فأظهر تعاطفاً وتأييداً ودعماً لخطوط الإرهاب المتنقل من لبنان إلى سورية. لكنه بدأ في الآونة الأخيرة يُبدي اعتراضاً قوياً على حركة انتقال الإرهاب «للاستيطان في لبنان»، وشرع برفع الغطاء عنه في بعض مناطق الداخل اللبناني فقط، لكنه لم يعاديه في مناطق انتشاره في الجرود اللبنانية الملاصقة للحدود السورية، وربما كان للإيحاء الخليجي ـ الأميركي دورٌ في هذا الانفصام. فهل هذا ممكن؟

إنّ هجمات الإرهابيين على مواقع الجيش اللبناني في جرود عرسال وبريتال ورأس بعلبك تؤكد نوعين من الاستحالات: استحالة استثمار الإرهاب من قبل غير إرهابيين، واستحالة منع تمدّده وحصر دوره في سورية فقط، كما يريد «أبطال المستقبل».

ولا يقتصر الاستثمار على «المستقبل»، بل هناك «قوات» سمير جعجع وفرسان الأمانة العامة للرابع عشر من آذار، وبعض منبريي حزب الكتائب وبقايا الأحرار. فهؤلاء يؤمنون بأنّ استمرار الدور السياسي للمسيحيين رهن بانفجار فتنة سنية ـ شيعية. ولأنّ السنة أكثر عدداً وإمكانات في المنطقة، فلا بأس من التحالف معهم. ونسأل ببراءة: هل يقبل التكفيريون بهذا الكلام حين ينتصرون؟ وهل يَستثنون هذه القوى من الذبح عندما يصلون إلى جونية وجبيل والنبطية وصور وبيروت؟

عندما ينتصر الإرهاب «الإسلاموي» لن يجد هؤلاء مكاناً في لبنان. ولن يتمكن «المستقبل» من ردع الإرهابيين، وربما نرى التيارات المتطرفة في «المستقبل» تقود تلك المرحلة بعقول شيطانية متطرفة، لا يعود ينفع معها قفزات بهلوانية للوزير وليد جنبلاط. فإمّا التماثل إلى حدود إلغاء المميزات، أو الذبح بالسيف على قارعة الطريق.

لا يرمي هذا الكلام إلى إثارة الذعر، بقدر ما يريد توفير مظلة أمان للجيش اللبناني الذي يقف سدّاً في وجه الإرهاب العائد من سورية، من دون توفر عاملين أساسيين هما السلاح والقرار السياسي، والمطلوب منه أن يكون شاهد زور يدفع من دماء أفراده كرمى لعيون قوى سياسية لبنانية تتعمَّد إهماله، فتمنع عنه هبات السلاح الروسي والصيني والإيراني بذريعة وصول سلاح فرنسي مغطى بمكرمات سعودية.

رفض لبنان الهبات الأولى ولا يزال ينتظر الهبات السعودية منذ سنوات عدة، فيسقط من جيشنا الشهيد تلو الشهيد في هجمات الإرهابيين على مراكز في جرود وشرقي البلاد. وتنهال خطب الاستنكار من أبطال «14 آذار» والوزير جنبلاط. ولا يصل السلاح ولا يصدر القرار الحكومي بمهاجمة مراكز الإرهابيين في أراضٍ حدودية لبنانية، ويبقى الجيش يدافع من مواقعه مقدِّماً

المزيد من الشهداء.

وفي النتيجة، فإنّ الجيش اللبناني هو آخر مؤسسة وطنية تصهر أبناء الأرياف ولا يستطيع أحد اتهامه بالطائفية أو المذهبية، إنه جيش الكيان السياسي اللبناني، واستمرار استنزافه على هذا النحو لا يعني إلا تفكك لبنان إلى ايالات وسناجق. فهل هذا ما تريده الطبقة السياسية التي يطالبها المجتمع بإصدار قرار بمهاجمة الإرهابيين في كلّ مكان من لبنان، وإلا فلن يرحمها أحد؟ وفي انتظار صدور القرار يوجه اللبنانيون تحية إلى جيشهم ويعاهدونه بتوفير مظلة دعم لإنجازاته في الدفاع عن اللبنانيين وليس عن هذه الطبقة التي تواصل ذبح الوطن بكلّ فئاته وشرائحه ومكوناته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى