مكتبة «البناء»

صدرت في منشورات «كلمة» للترجمة مجموعة «الميتة العاشقة وقصص فنطازيّة أُخرى « للشاعر والكاتب الفرنسي «تيوفيل غوتييه»، ونقله إلى العربية الكاتب والمترجم التونسيّ محمّد علي اليوسفي ضمن سلسلة «كلاسيكيّات الأدب الفرنسي» التي يحرّرها ويراجعها الشاعر العراقيّ المقيم في فرنسا كاظم جهاد.

عبر مسيرة إبداعية دامت خمسين سنة ونيّفاً، فرض غوتييه حضورَه واحداً من النوابض المحرِّكة للرومنطيقية، ومجدداً في النقد الفنّي، وشاعراً مجوِّداً وإن لم يكن غزير الإنتاج في الشعر، وكاتباً مسرحيّاً، ورحّالة شغِفاً بما يرى من شعوبٍ ومَشاهد، بل فرض حضورَه على وجه التخصيص روائيّاً وقاصّاً من طبقة رفيعة، وترك بصماته الواضحة في جنس أدبيّ عسير المسالك يسهل فيه الابتكار السطحيّ وتكثر فيه مزالق التكرار ومحاكاة الآخرين، هو الأدب «الفنطازيّ».

القصص التسع المترجمة في هذا الكتاب، والتي تكاد الأخيرتان منها تشكّلان روايتين، هي منتقاة من إنتاج للكاتب يمتدّ بين 1831 و1856، وليست هذه القصص خيالية تماماً مثل حَكايا الجنيّات مثلاً، تمزج بين الخيال والواقع وتدع عناصر غير مرئيّة أو لم تعد تنتمي إلى عالم الأحياء تتدخّل في الواقع، ثمّ تتلاشى مخلّفةً أثراً عميقاً في الكائن الذي يرصد بعض تجليّاتها… ثمّة امرأة تواصل عشقها في ما وراء الموت، وقدم مومياء تتدخّل في حياة ذاك الذي اشتراها من مخزنِ تحفيّاتٍ وعتائق، وحسناء مرسومة في سجّادةِ حائطٍ… تلهب خيال شابّ عاشق فشاعريّة اللّغة تُحوّل معظم صفحات الكتاب إلى قصائد نثر، وانثيالات الخيال المتواصلة تمنح الشخوص حياة أُخرى داخلَ الحياة.

ثمة أيضاً عدّة مسائل جوهريّة، مثل الهويّة والازدواج والقرين والشبيه والصّنْو وانتحال الهويّة. وصناعة الاستلاب تُهيكل قصص الكاتب وتمنحها عمقاً فلسفيّاً وأدبيّاً فريدين. لم يكن غوتييه يكتب الغرابة لأجل الغرابة، بل إنّ عودة إلى الواقع غالباً ما تتوّج نصوصه، فتدرك الشخصيّة القصصيّة معضلتها، أو تموت ضحيّة وهمها القاتل، فنكمل قرّاء التساؤل الممضّ والفهم الخلاق: الموتى لا يفرضون علينا وجودهم، إلاّ بقدر ما تدوم زيارة توقفنا على الأساسيّ، ويعودون بعد ذلك إلى عالمهم الأليف.

ورث غوتييه رائد الأدب الفنطازيّ ومعلمّه الشخصيَ المعلن، الألمانيّ هوفمان، وذهب بعيداً في إرث المعلّم فارضاً عليه لا لغة الشعر وحدها، ولا تعمّق الرومنطيقيّ الثائر الذي يستنطق الدواخل الإنسانية ومنطق الكون كلّه فحسب، بل كذلك أدوات الناقد الفنّي والرّحالة الذي يزجّ بقرائه في تعدّد الثقافات وثراء المرئيّات. ثمّة جانب متبحّر أو موسوعيّ في نصوصه هذه، فيرى القارئ معه إيطاليا بثقافتها وفنونها، والهند ومصر بروحانيّاتهما ورؤية أهلهما للغز البشريّ.

رواية «كلاب الراعي» لأشرف العشماوي عن فترة مظلمة في تاريخ مصر

صدرت في منشورات «الدار المصرية ـ اللبنانية» رواية جديدة ذات خلفية تاريخية للروائي أشرف العشماوي، إنما مختلفة السرد الأدبي في هذا النوع من الروايات إذ تأسر منذ فصولها الأولى، بتسارع حوادثها وتلاحقها إلى منطقة بعيدة من تاريخ مصر يوم كان المماليك يترنحون تحت وطأة ثورة القاهرة الأولى وضعف الدولة العثمانية وظهور نجم محمد علي بقوة.

تدور حوادث الرواية في فترة مظلمة ومنسية من تاريخ مصر الحديث، ما بين جلاء الحملة الفرنسية عام 1801 وتولي محمد علي حكم المحروسة عام 1805، وما دار خلال تلك الفترة العصيبة من مؤامرات داخل أروقة القلعة وقصور حكام المماليك ودواوين الحكم في أجواء مثيرة متسارعة فيكاد القارئ لا يلتقط أنفاسه متابعاً أحداث الرواية المثيرة وكيفية نسج المؤامرات من خلال بطليها الأخوين غير الشقيقين كمال سيف الدولة نائب محتسب القاهرة والمسؤول عن حفظ الأمن والنظام، والمهادن والموالي لكل سلطة من حكام المماليك وسلاطين الأتراك للحفاظ على منصبه، والأخ الأكبر الحسن جمال الدين الرومي كاتب الديوان، المغامر، والفارس الشجاع الموالي لمحمد علي والذي أنهك جيوش المماليك من جراء متابعته وملاحقته في القاهرة والجيزة والمنيا وصحراء أسيوط.

تنقلنا الرواية إلى أجواء ذلك العصر وملابسه وعاداته وتقاليده وصور الحياة اليومية والحروب التي كانت تدور في شوارع القاهرة وحواريها بين المماليك والمصريين، ودور الأقباط في الحفاظ على الهوية المصرية ومقاتلتهم العدو جنبًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين. كما يبرز الدور السياسي الذي لعبه القناصل الأجانب طوال سنوات الفوضى الثلاث السابقة على تولي محمد علي عرش مصر، وكيف كانوا يتدخلون في الحكم من وراء الستار أحيانًا، ومن أمامه في أغلب الأحيان. ويفاجأ القارئ كيف يعيد التاريخ نفسه إلى حدّ التطابق في صورة مذهلة مع الراهن الذي نحياه، من خلال سرد المؤلف وقائع حقيقية بصورة أدبية سينمائية داخل نسيج الرواية التخيلية، لنكتشف أننا نكرر جميعًا أخطاء الماضي ولا نتعلم البتّة من دروس التاريخ.

جنون الجغرافيا والاحتلال والمجتمع في رواية أسامة العيسة

يرسم الكاتب والأديب الفلسطيني أسامة العيسة، في روايته «مجانين بيت لحم»، دار نوفل للنشر ، بيروت، بريشة أدبية أَجمل لوحات التمرّد على الواقع المألوف، حين يخرج المجانين من عَنابرهم وأقسامهم في «دير المجانين» ويقَدمهم إلى قرائه تَحت لواء عَميد الجنون في فلسطين عجيل المَقدسي آتياً به من بطن التاريخ.

يفتتح الكاتب بالقول: «في هذه الرواية ـ الشهرزادية، مثل ما في الروايات الأخرى قليل من الحقائق، كثير من الخيال، وثرثرة… تماما مثلما هي الحياة». وفي «الشهرزادية» هذه اعتراف من الكاتب بأنه يكتب حكايات على غرار ألف ليلة وليلة. وفي مدخل الرواية يكمل: «ولكن هذا لن يمنع القارئ من المطابقة بين الراوي والمؤلف، ولن يسبب لي ذلك أيّ حساسية ولن أجهد لنفي ذلك».

المجانين في أسطورة العيسة «أولاد ناس» كما يقول المثل، وفوق إنسانيتهم يقدّم العيسة جنون الحياة والواقع المرير وجنون الجغرافيا والاحتلال والمجتمع الذي لا يرحم، في محاولة من الأديب لتبرير جنونه.

ينفرد أسامة العيسة بأسلوبه وأدبه، مقدماً بيت لحم بنكهة الأدب والتاريخ والتقرير الصحافي وروح الإثارة والمغامرة، ليضعنا في مشهد من الحياة لا نعيه ونحرص على تجنبه. ففي روايته الفريدة موضوعاً وأسلوباً يحاول إدخالنا دير المجانين، مروراً بمخيم الدهيشة الذي يقطنه اللاجئون، والذي ارتبط اسمه بالجنون فلسطينيا «لازم نوديك ع الدهيشة».

هذا الدخول الذي يقودنا إليه الكاتب يبدأ بسرقة عقولنا، تماماً كما يفعل الضبع بفريسته قبل التهامها. يحوّلنا أسرى داخل عالم المجانين فنشعر بأننا جزء من عالمهم، نراهم. نحاكيهم، نعيش تصرفاتهم وغموضهم، يقلقنا ما يقلقهم، ويصيبنا الفزع لمصيرهم. غير أن فن السرد الذي يتقنه الكاتب يردّ إلينا عقولنا ولا يتركنا هناك فريسة الجنون. المجانين لدى أسامة العيسة لغز غير منجلٍ حتى قراءة روايته وعيش أجواء الجنون في ديرهم الكائن ببيت لحم. تحكي «مجانين بيت لحم» عن وطن المجانين الفعلي وناسه. ترمز إلى الوطن الذي يتآكل تحت وطأة التغيّرات السياسية التي تعصف به. تقتحم موضوعًا يكاد يكون بكرًا في الأدب العربي الحديث، وتقدّم الفلسطينيين مثلما هم، بشرًا، من دون نبرة خطابية ولا مناجاة غنائية. رواية جديدة ليس في موضوعها فحسب إنّما كذلك ولكن أيضا في اقتراحها شكلاً يناسب المضمون.

أسامة العيسة كاتب وروائي فلسطيني صدر له العديد من المؤلفات، بينها رواية «المسكوبية» و»مخطوطات البحر الميت» و»انثيالات الحنين والأسى» و»الطريق إلى عمانوئيل» و»كم طلقة في مسدس الموساد» و»من خان آيات الأخرس» و»وداعا يا دني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى