حزب الأمس أم حزب الغد؟

سامي بو فواز

لدى كتابته رسالته إلى محاميه الأستاذ حميد فرنجية في العاشر من كانون الأول عام 1935، في ما دفعه إلى تأسيس الحزب السوري القومي الإجتماعي، لخّص أنطون سعاده زعيم النهضة السورية القومية الاجتماعية الأسباب التي حملته على تأسيس الحزب بسؤال راوده وأقلقه باستمرار وهو: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟». وبعد دراسة أولية منظمة قرّر أنّ فقدان السيادة القومية هو السبب في ما حلّ ويحلّ بأمتنا من ويلات، وكان ذلك فاتحة عهد دراسته المسألة القومية والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها فقادته تلك الدراسات إلى تعيين أمتنا تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدّمة جواباً عن سؤال «من نحن»؟ – حجر الزاوية في البناء القومي – وتعيين مصلحتها الاجتماعية والسياسية بمعرفة حالاتها ومشاكلها الداخلية والخارجية، فكان لا بدّ من إيجاد وسائل تؤمّن حماية نهضتها القومية الاجتماعية، وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي سبيل الأمة في النهوض من الكبوة واستعادة السيادة، والأسئلة هنا ـ بعد مضيّ بضعة وستين عاماً على استشهاد صاحب الدعوة الى القومية الاجتماعية، ونيّف وثمانين عاماًّ على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي ـ هي: هل ما زالت الأسباب الموجبة لتأسيس الحزب على ما هي عليه أم تراها تغيّرت؟ هل ارتفعت الويلات عن شعبنا وأصبح يرفل بأثواب ازدهار الحياة ورقيّها؟ وهل تحسّنت حالاته وانحلّت مشاكله الداخلية والخارجية أم أنّ العكس هو واقع الحال؟ هل خرجت الإنسانية من عصر القوميات ودخلت عصر العولمة العابرة للأمم والقوميات أم تراها لا تزال في عصر القوميات؟ وهل استجدّت معطيات علمية معيّنة حول واقعنا الاجتماعي وتكوين أمتنا والأمم الأخرى، وعليه ينبغي إعادة النظر في الأسس الفلسفية للقومية الاجتماعية بناءً على مستجدات العلوم الحديثة؟…

جواباً عن مثل هذه التساؤلات علينا أن نبدأ من حيث بدأ سعاده، فنظرة أولية لا تحتاج الى تفكير عميق وتبصّر تؤكد أنّ شعبنا ما زال يرزح تحت طغيان الويلات القادمة من كلّ حدب وصوب، وهي تزداد شراسة وفتكاً وعتوّاً قياساً على مطلع القرن العشرين، وأمراض هيئتنا الاجتماعية ازدادت حدّتها كمّاً ونوعاً من مختلف الدعوات العائلية، العشائرية، الطائفية، الإتنية، والنزعة الفردية… ذلك كلّه أدّى ويؤدّي إلى حرب مجتمعنا على نفسه، وزادت في حدّة هذه الحرب التدخلاتُ الخارجية، إما بالاحتلال المباشر لأجزاء من الوطن، أو بارتباط بعض أبناء شعبنا بالأجنبي الطامع في أمتنا، فبرزت دعوات تكفيرية غريبة عن حقيقتنا وجوهر نفسيتنا الأصيلة زادت من تمزيق هيئتنا الاجتماعية طائفياً ومذهبياً، وعادت الدعوات الإتنية لتأخذ حيّزاً كبيراً في السياسة وتضيّع جزءاً مهماً من مجهودنا القومي بدلاً من العكوف على الاهتمام بمصالحنا القومية الحيوية الحقيقية الجامعة، إضافة الى إرتفاع حدّة الأطماع التركية الدائمة والمتجدّدة في أمتنا شمالاً والتي لا تقف عند حدود كيليكيا والاسكندرون بل تتعدّاهما، ومما لا ريبة فيه الخطرُ «الإسرائيلي» الذي حذر منه سعاده مطلع العشرينات من القرن الماضي، واضعاً خطته النظامية الاستباقية، داعياً إلى مجابهتها بخطة نظامية معاكسة تتمثل في تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي.

لا تزال تلك الأمراض كافة تأخذ من أمتنا كلّ مأخذ، إذ ما برحت الأمّة معلقة بين الموت والحياة، بل ازداد وضعها حرجاً عما كانت عليه لدى مرحلة تأسيس الحزب. أما الادّعاء بأنّ الإنسانية قد خرجت من عصر القوميات، فنرُدّ عليه بأنّ دعوة العولمة ثقافياً، اقتصادياً، سياسياً… هي في ظاهرها خروج من عصر القوميات وفي باطنها انتصار وترجيح للأمم التي أخرجت العولمة على حساب الأمم الضعيفة المتأثرة بها، إنما العولمة هي تغليب المفاهيم والقيم والرؤى والغايات الأميركية الغربية أو قل الأنغلوسكسونية على حساب قيم ومفاهيم ورؤى وغايات الأمم الأخرى. فالعولمة هي ظاهرة تؤكد تفوّق أمة بعينها وسيطرتها على سائر الأمم، والمعطيات العلمية تؤكد إمكان توسّع الأمم الحية خارج نطاق جغرافيتها، وذلك مرتبط طرداً بمقدار حيويتها، وهذا ما تقرّره حقائق التاريخ أيضاً، إذ اعتُبر المدُ السوري في البحر المتوسط ـ عندما كانت سورية في أوج حيويتها ـ الاجتياحَ السلمي للعالم، وكان يتمّ ذلك بواسطة الإبحار عبر المتوسط وإنشاء المستوطنات والمبادلات التجارية مع شعوب العالم القديم، الأمر الذي نشر التفوّق الحضاري ـ الثقافي ـ المادّي والنفسي في العالم القديم آسيا، أوروبا، أفريقيا أما اليوم فقد أدّت ثورة الاتصالات والتقدّم العلمي التكنولوجي إلى تيسير نشر التفوّق الأميركي ـ الأنغلوسكسوني في أنحاء العالم كافة تحت عناوين العولمة وتحوّل الكرة الأرضية الى قرية كونية واحدة. ومن الواضح أنّ ما ينتشر في العالم جراء ظاهرة العولمة ليس للأمم الضعيفة المتأثرة به أيّ نصيب في صناعة أدواته، وأيّ نصيب في نشر أيّ من قيمها أو مفاهيمها عبرها، بل أنّ دورها يقتصر على التلقي لمفاهيم الأمم المتفوّقة وغاياتها وقيمها، فنرى اليوم أنّ ظاهرة العولمة ليست سوى انتشار الثقافة الأميركية في مختلف مظاهرها التي تبدأ بالسياسة ولا تنتهي عند مطاعم الوجبات السريعة وأغاني الراب واحتفالات «الهالاوين»، بما يضمن تحقيق مصالح القوميات المتفوّقة في لعبة كونية كبرى، في عصر تنازع الأمم موارد الحياة الذي دخلت فيه الإنسانية ـ المتوزّعة على أقاليم الأرض، فتفرّقت أمماً وقوميات، كلّ أمة وقومية مرتبطة بالإقليم الجغرافي تتفاعل معه وتتحد مصالحها ومصيرها وعواملها النفسية والمادية وتكتسب خصائصها ومزاياها التي تميّزها عن غيرها من الأمم في مجرى التطوّر التفاعلي ـ ولا ندري كيف ومتى ستخرج منه. وكلّ ما يحصل حولنا وفي العالم يوماً بعد يوم يؤكد صوابية رؤيتنا وصحة عقيدتنا.

اعتقد الشيوعيون أتباع الماركسية – اللينينية بمبدأ الأممية ولم يُعِيروا العامل القومي أيّ اهتمام، وأسّسوا ما عُرف بالاتحاد السوفياتي «تجاوزاً للقوميات» على هذا المبدأ عابرين وغير آبهين بقوميات الشعوب التي يتشكل منها، والتي ما لبثت بعد نحو سبعين عاماً على تأسيسه أن كسرت الجدار الحديدي لتظهر من جديد وينهار ما كانوا يحسبونه ناقلهم إلى مرحلة الشيوعية «من كلّ بحسب طاقته ولكلّ بحسب حاجته»، وما ظهور الأحلاف الدولية القائمة اليوم كحلف «الناتو» أو مجموعة «بريكس» وغيرهما إلا دليل على أننا ما زلنا في عصر القوميات بامتياز. فما تقاطع من مصالح الأمم في تنازع موارد الحياة ائتلف وما تنافر منها اختلف. ولو نظرنا إلى وجود المنظمات الإقليمية مثل «مجلس التعاون الخليجي» الذي يضمّ دول شبه الجزيرة العربية، أو الدعوة إلى إنشاء مجلس مغاربي يضمّ دول المغرب العربي، أو لو نظرنا إلى الخطر المُحْدِق بمياه النيل في مصر، لتأكدت لنا صوابية فكر سعاده القومي الاجتماعي ونظرته الى أمم العالم العربي. أما لجهة المعطيات العلمية حول واقعنا الاجتماعي، وعما إذا استجد أيّ أمر بشأنها فالإقليم الجغرافي الذي نشأت فيه أمتنا الوطن السوري ما زال هو هو، ووحدة مصالح جماعتنا قوميتنا ووحدة مصيرها ووحدة عواملها النفسية ـ المادية ما زالت على ما هي عليه، والعلم يثبت أن لا مجال لتغيّر تلك الظروف في قرن واحد من الزمان وقد تراكمت على مرّ آلاف السنين. فالأسباب الموجبة لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي باتت أكثر إلحاحاً وإيجاباً من ذي قبل، وأمتنا أحوج ما تكون الآن أكثر من أيّ وقت مضى الى سعاده وفكره النيّر الوقاد. باتت تطلب منّا المزيد من التضحيات وبذل الغالي والثمين ودائعها فينا لأجل نهضتها ووحدة مجتمعها ورقيّ حياتها وتحقيق سيادتها، وأضحى نداء الواجب لوعي قضيتنا وتحقيق غايتنا أعلى إنذاراً ودوياً ونفيراً من أيّ وقت مضى. لنعِ مهمتنا بكامل خطورتها، ولنتمسّك بقوميتنا فإنّ فيها فلاحنا وخلاصنا القومي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى