فرنسوا تروفّو صهيونيّاً مندفعاً!

جورج كعدي

احتفت باريس بثلاثين غيابه العام المنصرم، وتحتفي به بيروت هذه الأيام عبر استعادة «متروبوليس»، المرتع السينمائيّ لأهل «النخبة» والهواية «السينيفيلية»، لعدد من أفلامه، للمناسبة عينها، وإن متأخرة.

ما أودّ إثارته هنا مبنيّ على تجربتي الشخصيّة مع أعماله وموقعه المهمّ والمركزيّ في تاريخ السينما كأحد أركان ما يُعرف بـ«الموجة الجديدة الفرنسية» French new wave أو La nouvelle vague fran aise التي أحدثت ثورة في التعبير والأسلوب السينمائيّين يوم تمرّدت على المواضَعات والقواعد التقليديّة بطريقة شبه أوديبيّة قتل الأب التي مثّلتها في نظرهم «سينما الأب» Le cinema de papa، أي سينما الروّاد الكبار الذين سبقوهم، من رنوار وغانس إلى كلوزو وأوتون ـ لارا، وهي سينما «كاملة»، متكلّفة، غير ذاتيّة، مقتبسة غالباً عن أعمال أدبيّة… في حين شاء «فرسان» الموجة الجديدة وفي مقدّمهم فرنسوا تروفو وجان لوك غودار وإريك رومير وكلود شابرول وجاك ريفيت، جعل السينما ذاتيّة، حميمة، مستمدّة من تجارب المخرج نفسه وأفكاره وهواجسه وفرادة لغته وأسلوبه وتعبيره، وجعلها كذلك حرّة من القيود «التيماتيّة» والتقنيّة والأكاديميّة وحتى «الأخلاقيّة» المحافظة، مكرّسين مفهومي «سينما المؤلّف» Cin ma d auteur و«الكاميرا القلم» Cam ra stylo، بالموازنات الأقلّ والذاتيّة الأكثر والحرّية الأكبر والصدق الأبلغ، فقدّمت هذه المجموعة المثقّفة، المتنوّعة الأساليب والاهتمامات، أفلاماً من الأجمل والأنضر والأعمق في تاريخ السينما، مخلّفة تأثيراً كبيراً في العديد من المخرجين، من مختلف الجنسيّات، حتّى في سينمائيّين أميركيين ذوي شهرة عالمية مثل سبيلبرغ الذي يمتلك تقديراً خاصاً لتروفو وتماهياً معه في موضوع الطفولة على الأقلّ، حتى أنّه أقنعه بأداء دور العالِم الفرنسيّ في فيلمه الخياليّ ـ العلميّ «لقاءات قريبة من النوع الثالث» كتحيّة له وعربون إعجاب وتقدير.

لن أغوص أكثر في هذا الموضوع الواسع والغنيّ الذي قد يعني المتخصّصين وأهل السينما أو طلاّبها والمشتغلين فيها، وأضيف فحسب أنّي أحاضر أمام طلاّبي في كلّيات السينما ومعاهدها عن فرنسوا تروفو التي مكثت إلى الأمس القريب شديد الإعجاب بسينماه، متماهياً مع شغفه الثلاثيّ القاتل، السينما والكتاب والمرأة، مقدّما إيّاه إلى الطلاّب نموذجاً عن الشغف بالسينما التي آثرها على الواقع ولاذ بها حالماً وعاشقاً…

… حتى وقعت الصدمة، ففيما كنت أقرأ كتاباً، أو كتيّباً، أصدرته صحيفة «لوموند» الفرنسيّة في حزيران الفائت لمناسبة احتفاء فرنسا بثلاثين عاماً على غياب السينمائيّ الكبير، مأخوذاً بآراء النقّاد والمؤرّخين والباحثين والسينمائيّين والنجوم والنجمات الذين عرفوه عن قرب أو عملوا معه، الواردة في هذا الكتاب الجيّد الإعداد والقيّم، قرأت في الـLexique معجم مفردات عن محطّات في حياة تروفو الجملة الآتية وأوردها حرفيّاً مثلما وردت بالفرنسيّة:

Fran ois Truffaut se sent juif. Il versera chaque ann e d importantes sommes au fonds de solidarit avec «Isra l».

وأترجم حرفيّاً: «أحسّ فرنسوا تروفّو بنفسه يهوديّاً. وهب سنويّاً مبالغ كبيرة لصندوق دعم لـ«إسرائيل» … »!.

صدمة أبعدتني عاطفيّاً عن فرنسوا تروفو الذي كنت شديد الحماسة له ولأفلامه، شخصيّاً ومع طلاّبي، وأكثر ما أثار دهشتي واستغرابي واستهجاني أن تروفو مولود من أمّ كاثوليكية إذن ليس يهوديّاً «أصليّاً» وأب يهوديّ طبيب أسنان لم يعترف بابنه فرنسوا مذ كان جنيناً في رحم أمّه، عشيقة هذا الطبيب آنذاك. والأب هذا الذي لم يكتشف فرنسوا هويته إلاّ وقد أضحى شاباً، ورآه من بعيد ولم يقترب منه، تخلّى عن «إبنه» وتركه وحيداً في مهبّ الإهمال والوحدة والشقاء عبّر عنها في فيلمه الأوّل «العيش الماجن» أو «العيش الشقيّ» Les 400 coups حتى أنّه اعتُبر بعد زواج أمّه وتخلّيها بدورها عنه في عهدة أقرباء ثم عائلة بالتبنّي، ولداً غير شرعيّ enfant b tard…

رغم تنكّر «أبيه» له وعدم اعترافه أو معرفته؟! بوجوده، ورغم أن لا فضل البتّة لهذا «الأب» البيولوجيّ اليهوديّ على ابنه في شيء، سالت في عروق فرنسوا الدماء العنصريّة، الحاقدة والمريضة، فأبى إلاّ أن يعتبر نفسه «يهوديّاً»، وبالتالي داعماً لـ«إسرائيل» بسخاء، الأمر الذي يثير أقصى درجات الاستغراب والاستهجان من سينمائيّ كبير يفترض أن يكون متسامياً حيال التعصّب والانتماء الدينيّ الضيّق، خاصة إذا كان يهوديّاً صهيونيّاً «إسرائيليّاً» مجرماً محتلاًّ، قاتلاً ودمويّاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى