أليسار القلب والقضيّة

جورج كرم

حبيبتي أليسار،

أجزع من الكتابة هذه المرة، خوفاً من أن تحدّد كلماتي إطاراً لحبي لك. للورق الأبيض عذريته ولامحدودية إمكاناته وقدراته على التغيير والتعبير، أما النص المكتوب فيلفظ أنفاسه الأخيرة حالما يفرغ الكاتب من كتابة آخر نقطة على آخر سطر، ويضحي قفصاً يأسر فيه الكاتب نفسه. أيّ شعور صادق يختزل في نص؟ لا جدوى من التسمّر أمام رزمة ورق بيضاء، ولا جدوى أيضاً من التهرب والتذاكي على مواعيد القدر المتفرّج الظالم. حاول الإنسان دوماً أن يحارب القدر وفشل منذ الكتابة الأولى في حضارتنا البشرية، «ملحمة جلجامش». حاول جلجامش الملك جاهداً في الأسطورة أن يتحدّى القدر لكنّه لم يقو، ولا حتى على أن يلحظ القدر وجوده. رفض جلجامش موت رفيق دربه وأقرب الناس إليه نكيدو وأبقى على صديقه المقتول جثة هامدة على فراشه لأيام، لكنه في النهاية يئس من الحفاظ على جثة أخيه المهترئة فدفنها مكراً، وراح يبحث عن زهرة الخلود ولم يفلح. القدر رمى بي اليوم على حفنة ثلوج وتراب في بلاد بعيدة متلمساً دفء عينيك ولن أفلح.

لم أظن يوماً يا حبيبتي أني سأكتب لك رسالة، أيّ رسالة من أي نوع، ولم آخذ هذا الاحتمال في الاعتبار. منذ ولادتك في مونتريال، لسنين تسع عشرة خلت، تتواصلين مع «دادي» يوميّاً وتشكّلين جزءاً من تكوينه أينما وجد، فكراً وقلباً، زماناً ومكاناً، وها أنا «دادي» يا حبيبتي أكتب إليك أموراً لم يخطر في بالي يوماً سردها أمامك لكثرة أمور الحياة «الملحّة» بيننا كالسفر والسياحة والصيد والرياضة وتذوّق المأكولات الشهية بلا حدود أممية، من إندونيسيا إلى فنزويلا واليابان فروسيا في يوم واحد، من الفطور إلى العشاء. لم يتسنّ لي بحث المواضيع الجدّية معك يا حبيبتي «ألوس» لكثرة انشغالنا بالضحك والحياة.

اليوم، وقد شحب البريق في عينيك وعينيّ، لا بد لي من أن أخلو مع قهوة جلسنا إليها معاً مراراً لأخبرك أنّك أنت في قلبي عنوان قضية تساوي وجودي، ما جعلك يا أليسار وجودي. ولا بد من أن تفاجأي لوعرفت أنك ولدت في قلبي فكرة وأنا في أولى سنوات المراهقة، أيام ظنّ العملاء أنفسهم رجالاً لبرهة. كنت محطة أولى وجهت أحلامي بالنضال والتغيير إليها. قلت لنفسي سأناضل وأعمل وأنجب عائلة لا تمت إلى الطائفية وتقاليد الزمن البالية بصلة، وستكون لي إبنة اسمها أليسار. وصلت إلى مونتريال مهاجراً مهزوماً، لكنك حوّلت هزيمتي نصراً ومنفاي أملاً بعدما التقيت والدتك في صفوف النضال النقابي، وجئنا بك إلى هذا العالم، فكنت ثمرة نضال وبداية حياة. كنتِ الحياة كلّها. في عمر السنة كنت ولعاً بحركاتك الظريفة وكانت أغلى اللحظات عندما استمعنا معاً إلى موسيقى «هيفي ميتال» الثائرة ضدّ التقليد. وبموهبتك الموسيقية الباهرة كنت تتراقصين وتهزين رأسك على النحو المعروف لمحبي هذا اللون، كمشجع مخضرم منذ الستينات، وبعد ذلك في أيام الدراسة كنت الكاتبة ومؤلفة الألحان والنصوص، ترسلين النكات إلى مجلة الأطفال فينشرونها وتحصدين جوائز الأدب بالإنكليزية منذ عمر السادسة. كم كنت محلقاً في سماء الفرح بجناجيكِ، وقدراتك التمثيلية التي كانت مذهلة في مسرحيات عديدة. كنتُ دوماً في الصف الأول بين الحضور مشجّعاً في كل عرض، وأهمها مسرحية تروي قصة شابة منعت من المشاركة في مباريات كرة القدم في ولاية كيبيك بسبب ارتدائها الحجاب. وكان لك دور بطولة هذه المسرحية في عمر العاشرة في مسرح «سينتور» العريق في مونتريال. بعد ذلك، في سنوات المراهقة، استحققتِ صفة استشارية في حياتي، ترددين لي ما تقرأينه من ثقافة مدنيّة في المجلات والبرامج العديدة حول فوائد القهوة وأنواع مستحضرات التجميل وكل ما هو الموضة لحظة بلحظة وغيرها، وكنت بذلك منارتي إلى شاطئ الخلود الضائع. منذ ولادتك استمددت من شبابك وبريق عينيك قوة استمرارية النهضة، وكنت أجلس مع رفقاء لي نستشرف و«نحسب» موعد النصر وعودة فلسطين إلينا، ورغم التقديرات المتفائلة لدى الكثير منهم أننا سنخطو خطوات النصر في أيام حياتنا، لم ترهبني التقديرات المتشائمة في هذا الشأن وقلت دوماً: «لئن لم أنجح في زيارة فلسطين في حياتي فإن ابنتي أليسار ستزور يافا المحررة وترقص في حفلاتها مع عائلتها وأحفادها». حبيبتي أليسار، أنت الحلم الذي رحل ولا يمكن أن يرحل.

كنت الحب القدوة في تسامحك وإنسانيتك كان البشر جميعاً جميلين عندك، ولم تعرفي حتى كيفية توجيه الانتقادات الخاصة بالمظهر والشكل، وكان حبك للمستضعفين حقيقياً، غير مصطنع على غرار «مؤسسة الوليد» الخنفشارية وإنسانيتها «المدولرة» ورائحة البنزين الصادرة منها. وفيما كنّا جميعاً نتفادى الفقراء المقيمين على الرصيف في أميركا خلال سيرنا خوفاً من غضبهم علينا لأننا أفراد من مجتمع أهملهم، كنت أفقدك لهنيهة قبل أن أجدك جالسة على الرصيف تتحدثين مع أحدهم، تستمعين إليه وتتفاعلين معه وتعطينه سيجارة وتشعلينها له بندّية مذهلة. تقبلك للآخر بمعزل عن العرقية، وحنانك على المستضعفين، خاصة من خصوصياتك لم أجد مثيلها لدى أحد. وفي زياراتنا العديدة إلى الأمة تحديداً. كنتِ تلتفتين بإعجاب وتقدير إلى العمال الآتين من الشام ينتظرون الأوتوبيس وتسألينني عن مسافة بيوتهم عن عملهم في لبنان وكم سيمضون من الوقت على الطريق لو أرادوا زيارة عائلاتهم، بعطف واهتمام وحنان وبال مشغول.

أليسار قلبي وقضيتي، لم يعرف قلبك سوى الحب الراقي الإنساني المتجرّد من أيّ شائبة تعلمت بعضاً من حبك وتأثرت كثيراً بإنسانيتك وتفوّقها حتى عقيديّاً. فظروف ولادتك من أبوين مختلفي العرقية في بلد ثالث لا يمتّ إلى بلاد أبويك الأصلية بصلة جعل منك الإنسانة الأممية الكاملة، وفيما كنتُ أتخبط في تحقيق قوميتي كنتِ يا حبيبتي أليسار تعتبرين سورية وكندا وأميركا والهند كلها بلادك بالتساوي، من دون تفضيل. أنتِ الإنسان الأمميّ المتجرّد من كل شيء يتعارض مع الإنسانيّة. أنتِ الحب المصفّى من أي شي، سوى الحب. وجسّدتِ بذلك الحالة التي تطرّق إليها الزعيم سعاده عندما كتب عن احتمال أن يصبح العالم كله متحداً اجتماعياً واحداً في كتابه «نشوء الأمم».

أليسار أيّها الجمال المفرط وجهاً وإنسانية وإبداعاً، رحلتِ عني مثلما رحلت الملكة أليسار عن صور. بكيتُ جسدك الملائكي يومين كاملين محاولاً قهر الموت بصراخي كطفل مذعور ولم تجيبي. اختفيتِ عن ناظري إلى قرطاجتك ولم تعودي، ومثلما افترشت الملكة أليسار جلد الثور في قرطاجة وكان أساساً لمدنية عاشت قروناً، هكذا افترشتِ يا حبيبتي بقعة من ثلوج مقاطعة كيبيك أصبحت اليوم في قوميتها جزءاً من سورية فيه قلبي المتجلّد وقضيّتي المتوقدة. إنتظريني يا حبيبتي لأشاركك حلمك الإنساني في بلاد غريبة عجيبة، حتى الموت فيها أضحى موقتاً تباع وتشترى فيه المقابر بعقود محدودة الأمد. انتظريني للحظة أزل قصيرة، كي آتي وأعانق تراباً لمس طهرك فصار سوريّاً إلى الأبد.

كاتب سوريّ من جبل لبنان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى