كتب طاهر علوان ميدل ايست أونلاين : ترى كيف يمكننا فهم ما يختزنه الممثل وما يخفيه من مواقف وأحاسيس في اللحظة التي يقدم فيها إبداعه؟ قلّة تتوقف عند سؤال الممثل في تحولاته وانفعالاته وهواجسه وتاريخه، وهو حقاً نوع من الاستبطان الذاتي العميق الذي لا بد منه وشغل العديد من دارسي الشخصية الدرامية.

في هذا الفيلم المهم، الذي كثر الحديث حوله، نحن أمام مثل هذا الممثل تحديداً الذي يسترجع أمجاده الغابرة، محاولاً الامساك باللحظة المعاشة وتقديم عمل ما يليق به وبتاريخه تمثيلاً وإخراجاً. إنه «ريغن مايكل كيتون في أحد أرفع أدواره على الإطلاق حيث الصراع الداخلي وتيار الوعي والتلاعب بالزمن والانفعالات والتحولات في المشاعر والعواطف والعلاقات كلها تتراكم في هذا الفيلم.

«ريغن» الممثل والمخرج في مسرحية «ما الذي يجب أن نقوله حين نتكلم عن الحب»، ها هو مع صديقته وعشيقته، وهي حقاً كذلك في الحياة، وهي الخائنة على الخشبة. ومن ناحية أخرى هنالك ابنته إيما ستون التي ستتحول الى صوته المخفي وسط الطموح والأمنيات والأحلام. صوت منسي بالنسبة إليه وساعة يواجهها أنّ عليها ألاّ تتعاطى المخدرات مجدداً، هي التي أخضعت لجلسات علاج سابقة، تسلط الضوء الكاشف بقوة على سيرة الأب الأناني والمتغطرس والمغطى بمختلف أنواع الأغطية. إنها لحظة الحقيقة التي سيشعر معها بالهزيمة فيلوذ بالخشبة وبحواره الداخلي وما ينبغي أن يفعله أو لا يفعله. على الخشبة وفي كواليسها سوف يتفجّر المزيد من الحقائق وتبرز تحوّلات كثيرة، ومنها العلاقة المشوشة مع ابنة «ريغن» بالممثل الند لوالدها مايك إدوارد نورتون . علاقة مليئة بالحوارات والجدال، وفي موازاتها جدال بين «ريغن» و«مايك» يصل الى مرحلة العراك.

«ريغن» نجم الأمس والبطل الاستثنائي في سلسة «الرجل الطائر» والذي ألهب حماسة جمهور عريض، ها هو الطائر نفسه يرافقه في مزيج من الكوميديا الغرائبية. إنه صوته الداخلي أحياناً وتيار وعيه، وهو الناصح أحيانا والمنتقد بشدة أحيانا أخرى، وما بينهما تتوزع حياته على سلسلة من المواقف المتلاحقة والجدال والحوارات التي لا تنتهي.

مما لا شك فيه أن ثمة عنصرين أساسيين شكّلا علامتين فارقتين في البناء الفليمي الأول هو الحوار الكثيف والغزير والمتنوع والمتدفق بعناية شديدة، معبراً عن أحوال الشخوص وصراعاتها وتقلباتها بين الحقيقي والافتراضي أو ما هو ضمن إطار التمثيل فحسب. أما العنصر الآخر فهو الطريقة المتقنة في استخدام الإيقاعات خاصة في مواكبة كل حدث وكل حركة وفعل تقريباً. استخدام فائق الذكاء والتفرد يمتد على كامل مساحة الفيلم، وصوت آخر من الاصوات التي ترافق تحولات الشخوص موسيقى أنطونيو سانشيز . يلفت النظر من ناحية أخرى أن الحوادث إذ تقع في الفضاء المسرحي تجعل لذاك الفضاء تأثيراً بالغاً في الاستمرار في التدفق العميق للأفكار والمشاعر، على طريقة الحوارات المسرحية، وصولاً الى توظيف تلك الحوارات في نوع من العفوية في التعبير والإفصاح المباشر عن الأفكار. وحتى التلميحات الجنسية تظهر بين حين وآخر.

ما يمكن التواصل معه في هذا الفيلم هو نزعة الابتكار التي سادت في إعادة إنتاج الأفكار والموافقف والتنقل بها وتدويرها وإعادة تشكيلها وأحياناً تكراراها على نحو غير مألوف كثيراً بمثل هذه الغزارة المتفردة في التعبير.

وفي ما يتعلق بعنصر المكان، تلفتنا محدودية الأماكن التي تدور فيها مشاهد الفيلم ومعظمها أروقة المسرح وكواليسه وغرف الماكياج وغرف تبديل الملابس والممرات، فضلاً عن خشبة المسرح نفسها. ورغم هذه المحدودية تدلّ تلك المفردات المكانية على الفكرة في المشهد وتعبّر عنها، مثل لقاء «ريغن» مع عشيقته وهو أمام المرآة. ويتكرر ذلك عدة مرات على نحو لافت في ما يشبه المحاكمة الذاتية التي يعيشها «ريغن». تضاف الى ذلك المستويات العليا من المسرح التي شهدت لقاءات ابنة «ريغن» مع «مايك» وصولا الى التفاعل والعناق بعيداً عن الأنظار.

ينطلق البناء السردي للفيلم جزل الشخصية المحورية، «ريغن»، فالحوادث تتصاعد من خلال أفعاله وردود أفعاله. هو مايسترو السرد المتدفق الذي يتصاعد مع نزق «ريغن» ورفضه وعنفه ومصادماته وسخريته وتمرده، ليلقى صداه في أفعال الشخوص الأخرى. خلال ذلك لا يترك للمشاهد فرصة التمعن في الحوارات المتدفقة والمتواصلة. ثمة مهارة ملحوظة في صوغ المشهد والبناء الدرامي، فكلما ظهرت شخصية يواكبها تصعيد جديد للأفعال حتى نشعر أحياناً بالالتباس في تحولات «ريغن» وأفكاره وتجلياته.

فيلم مهم في مسار صانعيه، خاصة المخرج المكسيكي المعروف أليخاندرو إيناريتو منجز الأفلام المهمة مثل 21 غرام» 2003 و«بابل» الذي حاز العديد من الجوائز 2006 ، وفيلم «جميل» 2010 .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى