وودي آلن يهيّئ فيلماً جديداً يضاف إلى قائمة أفلامه الطويلة والمبدعة

يعتبر المخرج الأميركي وودي آلن Woody Allen الإضافة السينمائية الأهم إلى الكوميديا السينمائية الأميركية منذ عصر الكوميديا الأول، أي عصر شارلي شابلن وباستر كيتون وإرنست لوبيتش والأخوة ماركس وآخرين. هو نموذج السينمائي الذي يعبّر من خلال أفلامه عن رؤيته الخاصة للعالم، وتحمل أفلامه بصمته الشخصية وفلسفته الخاصة، مع قدرة واضحة على ملامسة الأفكار التي يمكن المشاهد في أيّ مكان من العالم التفاعل معها وهو أيضا سينمائي شامل إذ يكتب أفلامه ويخرجها ويقوم بدور البطولة فيها ويكتب لها الموسيقى أحيانا.

أخرج آلن حتى الآن نحو خمسين فيلماً مذ بدأ الإخراج قبل ثمانية وأربعين عاماً، وهو عدد كبير ربما لم يتوافر لمخرج أميركي آخر إنجازه في هذه الفترة الزمنية. وبين أفضل 100 فيلم كوميدي في قائمة معهد الفيلم الأميركي، ثمة خمسة أفلام من إخراج وودي آلن هي «آني هول» يحمل الرقم 4 ، و»مانهاتان» رقم 46 ، و»خذ المال واجر» رقم 46 ، و»باناناس» 69 وأخيراً «النائم» 80 . وحصلت أربعة من أفلامه جائزة الأوسكار، كما وصلت أفلامه 28 مرة إلى ترشيحات الأوسكار، و16 مرة لجائزة أفضل سيناريو، وسبع مرات لأفضل إخراج، ومرة واحدة لأفضل ممثل. والغريب أنه لم يحضر مرة واحدة حفل توزيع جوائز الأوسكار، ولا يقرأ المقالات النقدية عن أفلامه، ولا يهتمّ بشبّاك التذاكر وإيراداته أو بأن تحصد أفلامه إيرادات ملموسة.

يعمل وودي آلن راهناً على فيلم جديد سيكون كالعادة من تأليفه وإخراجه، لكنه لا يشارك في بطولته، مثلما هي الحال في فيلمه الأخير «سحر في ضوء القمر» Magic in the Moonlight، وتؤدي بطولة فيلمه الجديد إيما ستون 26 سنة الممثلة ذات العينين الواسعتين الزرقاوين التي تألقت في فيلم «بيردمان» ورشحت عن دورها فيه لأوسكار أفضل ممثلة مساندة. يشاركها بطولة الفيلم الجديد الذي يتكتم آلن عن عنوانه حتى الآن كلٌّ من يواكيم فينيكس وجيمي بلاكلي وباركر بوسيه.

في خطوة اعتبرت انقلاباً كبيراً في مسيرة عمل المخرج المعروف أعلنت شركة «أمازون» حديثاً، أن وودي آلن سيخرج للمرة الأولى، مسلسلاً تلفزيونياً، لم يتمّ اختيار عنوانه بعد، ولم تعلن الشركة المنتجة عدد حلقاته، لكنها تفيد بأن الحلقة الواحدة ستدوم نصف ساعة. أما وودي آلن نفسه فعلق على الموضوع بطريقته المرحة: «لا أعرف كيف تورّطت في هذا الموضوع، ليست لديّ أدنى فكرة، ولا أعرف من أين سأبدأ، وأظن أن شركة أمازون ستندم على ذلك».

بدأ وودي آلن التمثيل عام 1965 عندما كتب وشارك في بطولة فيلم «ما الجديد يا قطتي؟» ?What is New Pussycat الذي أخرجه كليف دونر مع نخبة من ألمع نجوم السينما مثل بيتر سيللرز وبيتر أوتول ورومي شنايدر وأورسولا أندروز. ثم شارك في التمثيل وكتب السيناريو لعدد من الأفلام، أشهرها «اعزفها ثانية يا سام» للمخرج هربرت روس، ثم بدأ يخرج أفلامه التي يكتبها بنفسه. وكان أول أفلامه كمخرج عام 1966 «ما الخطب أيها النمر ليلي؟» ?What s Up Tiger Lily الذي اقتبسه من فيلم ياباني، ثم «خذ المال واجرِ» 1969 ثم «باناناس» 1971 . ومن أهم الأفلام التي كتبها وأخرجها في السبعينات «كل ما تريد أن تعرفه عن الجنس وتخشى أن تسأل عنه» 1972 ، و«النائم» 1973 ، و«الحب والموت» 1975 ، و«أني هول» 1977 . وعندما أخرج فيلم «داخليات» 1978 كان يحاول للمرة الأولى، الابتعاد عن أسلوبه الكوميدي المعروف وأن يقدّم عملاً درامياً جاداً. وكانت أيضاً، المرة الأولى التي يتخلى فيها عن التمثيل في أحد أفلامه ويكتفي بالكتابة والإخراج فحسب.

يعتبر فيلم «النائم» 1973 Sleeper من الكلاسيكيات الكوميدية الرفيعة في السينما الأميركية، وهو يشبه عالم جورج أورويل المستقبلي، ويصوّر رؤية متخيلة للمجتمع الشمولي الذي يسحق إرادة الفرد لكنّه ينجو بالحب. والأهم من الفكرة الأسلوب السينمائي الخلاب الذي يعالج به آلن الموضوع، وابتكاراته المذهلة في تصميم المشاهد والحركة وخلق المواقف الطريفة المحملة بعشرات التساؤلات في الوقت نفسه.

في فيلم «أني هول» Annie Hall 1977 يتجه وودي آلن إلى محاولة سبر أغوار النفس البشرية وتعقيداتها، وربما تكون شخصية بطله «ألفي سنجر» التي يؤديها بنفسه، امتداداً على نحو ما لشخصية الأم في «داخليات»، فهو يندفع تحت إلحاح رغبة داخلية عميقة لإفساد حياة الآخرين وقدرتهم على الاستمتاع. إنها شخصية قلقة منفصلة تطرح الكثير من التساؤلات عن سرّ فشل العلاقة الزوجية، ومعنى الوجود، واللذة الجنسية.

في فيلم «مانهاتان» 1979 الذي صوّره آلن بالأبيض والأسود مثلما سيفعل مع عدد من أفلامه في تلك الحقبة، تبدو جميع الشخوص في حالة قلق، مضطربة، بسبب عجزها عن التعبير بصدق عن مشاعرها، وهي تعاني فشل علاقاتها السابقة التي سبق أن حركت داخلها المشاعر الحقيقية، وبالتالي أصبحت جميع الشخوص تمارس نوعا من الخيانة ولو بالفكر.

في فيلم «هانّا وشقيقتاها» Hanna and Her Sisters 1986 يبلغ وودي آلن درجة عالية من النضج الفني تتجسد فيه خبرته لنواحي الأسلوب والفكر والرؤية السينمائية، طارحاً الكثير من التساؤلات حول الحب والجنس والمرض ومعنى الحياة ومغزى الموت ومعنى الوجود نفسه ووجود الإنسان ووجود الله وطبيعة المشاعر الغامضة الكامنة في داخلنا ووهم الإحساس بالخطر، وخوفنا من الموت. في حين أننا نعجز عن تحقيق قيمة للحياة نفسها. يبدأ الفيلم باجتماع أفراد أسرة نيويوركية يعملون جميعاً في الفن والمسرح والتمثيل للاحتفال بنجاح مسرحية «بيت الدمية» التي تؤدي بطولتها ابنة الأسرة «هانّا» ميا فارو وحولها والدها الذي يعزف البيانو، وأمها التي تغني، وزوجها «إليوت» مايكل كين ، وهو محاسب الفرقة المسرحية، وأطفالها، وشقيقتاها. ثمة سعادة سطحية ظاهرة تخفي تحتها الكثير من التناقضات والمعاناة، فزوج «هانّا» يطارد شقيقتها الصغرى التي تعيش مع رسام يكبرها كثيراً، فهي في حاجة إلى من يرعاها ويوجهها، خاصة أنها تعاني إدمان الكحول، وشقيقة «هانّا» الأخرى لا تكاد تستقرّ على عمل معين بل تنتقل دوماً من الغناء إلى التمثيل إلى تصميم الأزياء ثم تحاول الكتابة للمسرح لكنها تبقى مضطربة تعاني من عدم التحقق، وتدمن الكوكايين بعد فشل تجربتها العاطفية.

أما «هانّا» فهي الوحيدة المتوازنة بسبب نجاحها في العمل، لكنها تشكّ في زوجها الذي بدأ علاقة عاطفية ساخنة مع شقيقتها الصغرى. أما الزوج السابق لـ»هانّا» يؤدي الدور وودي آلن نفسه فهو منتج تلفزيوني يخشى أن يكون مصاباً بسرطان الدماغ ويشرف على الموت، يبدأ في تأمل مسار حياته، إذ فشل في الإنجاب في الماضي، وفشل في المحافظة على زواجه من «هانّا»، يستقيل من عمله ويشرع في البحث عن معنى لحياته، في الكنائس أولا ثم في شوارع نيويورك حيث يلتحق بدعاة ديانة «الهاري كريشنا» البودية، ثم يحاول الانتحار لكنه يفشل، إلخ. دراما ممتعة تتفجر بالمواقف الطريفة وتنتهي بخاتمة سعيدة، لكن تحت سطح تلك السعادة، لا تزال هناك تلك المشاعر الغامضة التي تطفو على السطح في أيّ لحظة فيفسد كل شيء.

نلاحظ هنا كما في عدد كبير من أفلام آلن مثل «مانهاتن» و»آني هول» وأيضا فيلمه الأحدث «سحر في ضوء القمر» ولع آلن بتصوير العلاقة بين رجل متقدم في العمر، مع فتاة تصغره بكثير، كما لو كان آلن نفسه يعبر عن رغبة داخلية في أن يحتفظ دوماً بالقدرة على جذب الفتيات الأصغر سنّاً، ليس عن طريق الوسامة الشخصية، فآلن لا يمكن اعتباره وسيماً بأيّ معيار، بل بفضل تفوقه وذكائه ومواهبه المتعددة وقدرته على التفكير والحديث الممتع، وما يناقشه من تساؤلات تنفذ إلى عقل الفتيات الصغيرات وتجذب الكثيرات منهن. خاصة أن آلن كان قد انفصل عن زوجته وبطلة العديد من أفلامه ميا فارو عام 1992، بعدما أقام علاقة عاطفية مع ابنتها بالتبني، سوون يي بريفين، وكانت في الثانية والعشرين من عمرها وهو في السابعة والخمسين.

في فيلم «مانهاتن» يؤدي آلن دور كاتب مسرحيات كوميدية في الثانية والأربعين من عمره يرتبط بعلاقة مع فتاة في السابعة عشرة من عمرها، لكنه يسأم تلك العلاقة رغم تعلق الفتاة به، ما يجعلها تهجره ثم يقع في حب عشيقة أقرب أصدقائه.

في فيلمه الأحدث «سحر في ضوء القمر» 2014 الذي تدور قصته عام 1928، نرى كيف ينجذب رجل تجاوز الخمسين من عمره كولن فيرث إلى فتاة في نصف عمره إيما ستون رغم التناقض الكبير بينهما، فهو مؤمن بالعلم، ولا يعتقد بوجود عالم ميتافيزيقي ولا حياة بعد الموت ويحاول أن يكشف احتيال الفتاة التي سيطرت على عقول ومشاعر أسرة أميركية تقيم في جنوب فرنسا وزيفها، إذ تدعي أنها تستطيع معرفة الغيب واستدعاء الأرواح، وعندما ينجح في ذلك يكون وقع في حبها، رغم أنه لا يزال يرفض منطقها البسيط الذي يتلخص في أن الإنسان في حاجة إلى قليل من الوهم لكي يستمرّ في الحياة، أما هو فيرى أخيراً أن الحب، وليس الإيمان بالغيب، هو ضمان سعادة الإنسان.

يطرح آلن مجدداً «تيماته» المألوفة التي نراها في سائر أفلامه: الشك، القلق الوجودي، البحث عن معنى الحياة، الحب كوسيلة للنجاة، والسحر الذي يصنع الوهم لكنه لا يقدّم حلاً، وهل تتوقف الحياة طبقاً للمشيئة الإلهية، أم لأن العلم فشل في القيام باللازم؟ هل تنجو خالته من الحادث الذي تعرضت له لأن الله استجاب لدعائه للمرة الأولى ـ وربما الأخيرة ـ في حياته، أم لأنها وجدت «أطباء ماهرين» كما يقول لصديقته؟

يعود آلن بفيلم جديد ومسلسل جديد، ويبدو غير مكترث أصلاً بالمزاعم الجديدة التي أثارتها ضدّه حديثاً ديلان فارو، إحدى بنات زوجته السابقة ميا فارو، حين نشرت مقالاً في «نيويورك تايمز» تتهمه بالاعتداء الجنسي عليها عندما كانت في السابعة من عمرها، وهي مزاعم أنكرها وسيظل ينكرها باستمرار. لكن من يدري؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى