العالم ينكث عهوده وينفض جيوبه

د. مصطفى يوسف اللداوي

يبدو أنّ دول العالم قد أصمّت آذانها، وأعمت عيونها، فلم تعد تسمع الصراخ، ولا تصغي إلى الاستغاثة، ولا يستفزها البكاء، ولا ينهضها العويل، ولا تحرّك ضمائرها المعاناة، ولا أفواج المرضى، ولا أعداد القتلى والموتى، ولا أنين الأطفال وصراخهم في البيوت والمستشفيات، ولا حرائق الشموع ومدافئ الفحم والحطب، ولا الأطفال الذين يموتون خنقاً أو حرقاً، بحثاً عن دفءٍ مفقود، في بيتٍ مدمّرٍ أو بلا سقف.

كأنّ دول العالم لا ترى آثار العدوان «الإسرائيلي» المستمرّ على الفلسطينيين عموماً، وعلى قطاع غزة على وجه الخصوص، ولا تشاهد نتائج الحصار الكارثية على السكان جميعاً، وآثاره المدمّرة على البيئة والاقتصاد والمجتمع، وهي التي تنادت في القاهرة واجتمعت، واتفقت وتعاهدت، وقرّرت والتزمت، أن تعمل على إعادة إعمار قطاع غزة المدمّر المتهالك، وأعلنت عن أكثر من خمسة مليارات دولار لتعويضه والنهوض به، ومساعدة أهله، وبناء ما تهدّم ودمّر من بيوتهم.

استبشر الغزيون كثيراً، وشعروا بأنّ صبرهم لم يضع هباءً، وأنّ مقاومتهم أثمرت خيراً، وأنّ الله قد عوّضهم عن مصابهم، وأثابهم على ما ابتلاهم به، وقيّض من يقف إلى جانبهم، يساندهم ويساعدهم، ويؤازرهم ويعوّضهم، وشعروا أنّ العدو لم يقهرهم، وأنّ آلته العسكرية المدمّرة لم تهزمهم، وأنه فعلاً قد فشل في تحقيق أهدافه والوصول إلى غاياته، وبات يحاسب نفسه على أخطائه، ويلوم قيادته على تقصيرها، ويعاتب جيشه على عجزه، وأجهزته الأمنية على إهمالها، وكانوا على يقينٍ بأنّ إرادتهم بقيت صلبة، وعزمهم شديد، وثباتهم على مواقفهم لم يتغيّر، وتمسكهم بثوابتهم لم يتزعزع.

إلا أنّ واقع الحال يشي بغير ذلك، ويقول قولاً آخر مخالفاً، لا يكذبه السامعون، ولا ينكره المشاهدون، إذ أنّ الحقائق على الأرض واضحة، ولا تحتاج إلى مزيدٍ من الإيضاح أو البيان، فالصور تفضح، والشهادات تؤكد، والواقع المرير يدحض، وشكوى المواطنين كبيرة، وأصواتهم الغاضبة عالية، إذ الأوضاع العامة جداً صعبة، والظروف قاسية، وأحوال الناس بئيسة، ولا شيء مما وعدت به الدول المانحة قد تحقق، فلا البيوت المتضرّرة قد رمّمت، ولا المدمّرة قد بُنيت من جديد، ولا شيء من آثار العدوان عن الأرض قد زال، فالركام باقٍ، وحجارة البيوت والمنازل تكوّمت أكداساً وارتفعت تلالاً، والشوارع محفرة، والطرقات مبعثرة، والمؤسسات العامة والخاصة معطلة، فلا خدماتٍ عامة تقوم بها البلديات والسلطات المحلية، إذ لا إمكانيات متوافرة، ولا معدّاتٍ جاهزة، ولا أموال موجودة، ولا شيء مما يمكن أن يشغل الناس ويحرّكهم بين أيديهم موجود.

هل يستهزئ بنا العالم وتتهكّم علينا دوله، أم أنهم يستخفون بعقولنا ويضحكون علينا، ويوهموننا بلعبةٍ كما الأطفال، ويلوّحون لنا بمكافئةٍ كما الصغار، يلهوننا بها كي نسكت، ويعدوننا بها كي نرضى، أم أنهم يظنون أننا لا نراقب ولا نتابع، ولا نحسب ولا نعدّ، ولا نهيّئ ولا نتجهّز، وإلا فما معنى أن يجتمعوا ويقرّروا، وأن يعدّوا ويتعهّدوا، وأن يبدوا حزنهم على المصاب، وألمهم على الجرح، وانزعاجهم من هول الدمار وفظاعة الخراب، وبشاعة ما تركته آلة الحرب العدوانية «الإسرائيلية»، وما قيمة الأصفار التسعة التي شنّفوا بها آذاننا، وسلبوا بها عقولنا، ولفتوا أنظار كبريات شركات الإعمار إليها، إذ لا شيء من كلّ هذا قد تحقق، ولا يبدو أنّ أياً منها سيتحقق في الأفق القريب أو على المدى المنظور.

أهي محاولة منهم لإغراء الفلسطينيين بها فقط، وإشغالهم بأنفسهم وبلقمة عيشهم وكساء أنفسهم، وإعمار بيوتهم ومساكنهم، وإجبارهم على الصبر والانتظار، والترقب والتلهّف، انتظاراً لوعودٍ هم يعرفون أنها لن تتحقق، إذ أنها لا تختلف عن سابقاتها الكثيرة التي ذهبت أدراج الرياح، ونسيها المتعهّدون والمانحون، ويئس منها المتلقون والمستفيدون، وقنط منها المحتاجون والمعانون.

غزة التي دمّرت أكثر من مرة، وعاث فيها العدو في أكثر من حربٍ، وخرّبها أمام أعين العالم وسمعه، لم تعمّر ولم يعد بناؤها، فوعود الإعمار القديمة لم تتحقق، ومخططات الأحلام لم يطلع عليها النهار، فلماذا نتوقع هذه المرة أنها ستكون حقيقة، ولماذا نفترض أنّ دول العالم التي اعتادت أن تجتمع في القاهرة وطابا وباريس، والتي يعجبها أن توصف بأنها راعية ومانحة، ستكون هذه المرة صادقة وجادّة، ومخلصة وأمينة في العمل والتنفيذ.

أم أنهم يريدونها أن تكون جائزة لكلّ من ألقى السلاح وتخلى عن المقاومة، ومكافأة لمن أراد أن يحوّل اتجاهه ويغيّر مساره، وينزع البزة العسكرية ويلبس إلى الأبد ثياباً مدنية، ولا يفكر في البندقية ولا يسعى إلى امتلاك الصاروخ ولا القنبلة، فالإعمار سيكون من نصيب غزة إنْ قبل أهلها ووافقت فصائلها، على التخلي عن السلاح، وترك المقاومة، والتوقف عن محاربة الكيان الصهيوني وتهديد أمن مستوطنيه ومستعمراته، ولعلهم يعتمدون في ذلك على سوابق قديمة وأمثلة مشابهة، فمن يتعهّد بترك المقاومة يطلق سراحه، ومن يدينها يرفع عنه الحصار، ومن يحاربها يكرّم ويغدق عليه، أما من يصرّ على التمسك بها والحفاظ عليها، فإنّ الحصار مصيره، والعقاب ينتظره، والتضييق مآله وشعبه وأهله.

يهمس في أذني الكثير من الأخوة والأصدقاء الذين أعرفهم وأحبهم، وأثق فيهم وأصدّقهم، يطلبون مني التوقف عن تمجيد أهل غزة والنفخ فيهم، والإشادة بهم وتعداد مآثرهم وذكر مفاخرهم، فهذه أمورٌ بات يعرفها عنهم الجميع، ولن يغيّر الفلسطينيون ولا الغزيون من حقيقتهم الجبارة، لكنهم يصرّون عليّ أن أسلط الضوء أكثر على معاناة الناس وآلامهم، وجوعهم وقهرهم، وحزنهم وجرحهم، فما أصاب غزة وأهلها كبير، وما لحق بهم كثير، وما ينتظرهم في ظلّ الإهمال الدولي والصمت العالمي، وعدم المسؤولية الوطنية أكبر بكثير، فهل ينتبه أصحاب القرار الوطني والعربي والدولي، أنّ قطاع غزة بات على صفيحٍ ملتهب، وأنه يعيش فوق فوهة بركانٍ يكاد أن ينفجر، فإما ندركهم بحلولٍ عاجلةٍ كريمة، ونفي لهم بالعهود القديمة، أو نتخلى عنهم ونتركهم لقدرهم المحتوم، ومعاناتهم الدائمة.

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi

moustafa.leddawi gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى