«أنا مكهرب بالفطرة» يقول بيتهوفن ويسبق النظريّات العلميّة

جورج كعدي

الحساسية الموسيقيّة ليست موهبة فردية بل هي من خصائص الإنسان الأساسيّة، فالإنسان لا يقدّم في الموسيقى تعبيراً عن شيء ما، أو عن مشاعره، ولا يرفع بناء أو تركيباً مستقلاً، بل يبدع نفسه. ولا شكّ في أنّ بعض الحيوات أفضل من سواها إذ فيها من النفس المبدعة قدراً أكبر، ولم يمتلك إنسان قَدْراً من النفس أكبر من قَدْر بيتهوفن، ولا أظهر إنسان قَدْراً أكبر من الفكر في إبداع تلك النفس.

نتابع ما بدأناه من أقوال بيتهوفن في تفسير الخلق الموسيقيّ بتلك التي أسميناها حماسة الروح المتألّقة، إذ يقرّ عبقريّ الموسيقى «بأنّنا لا نعرف ما الذي يمنحنا المعرفة، فالبذرة المغلّفة بإحكام تحتاج إلى التربة الرطبة المشحونة بالكهرباء الدافئة كي تتبرعم، وتفكّر، وتعبّر عن نفسها. والموسيقى هي التربة المشحونة بالكهرباء التي تحيا فيها الروح، وتفكّر وتبتكر. والفلسفة تنطلق من روح الموسيقى المكهربة وحاجتها الماسّة إلى تأسيس كلّ شيء على مبدأ واحد تلبيّيه الموسيقى. ورغم أن لا سلطان للروح على ما تبدعه من خلال الموسيقى، إلاّ أنّها تفرح بعمليّة الإبداع … تربط الروح الموسيقى بالتناغم. ومثلما تشعر الفكرة المعزولة بأنّها مرتبطة بالأشياء المتصلة بالعقل، ترتبط كلّ فكرة في الموسيقى على نحو وثيق لا يتجزّأ بالتناغم الشامل كاملاً، وهو الحقيقة الكليّة الواحدة. كلّ ما هو مشحون بالكهرباء يحفّز العقل للإبداع المتدفّق الجيّاش، وأنا مكهرب بالفطرة».

في هذا القول البديع يتجاوز بيتهوفن ديالكتيك هيغل وتصوّر غوته للشكل المورفولوجيّ، وإذ يمدّ مجازه إلى مجال الكهرباء فهو يسبق أحدث النظريّات عن طبيعة العقل البشريّ.

كان عباقرة الموسيقى في العصر الرومانسيّ أقرب إلى الجنون. شومان هو الحالة النموذجيّة، فبراعته تكمن في قدرته على «إسقاط» أحلامه وكوابيسه ضمن نوطات شديدة الانضباط، وإن لم تمنع تحوّله إلى الجنون الملموس. وسيطر شوبان على الحساسية المفرطة لديه بالتقيّد الكلاسيكيّ الذي فرضه على ألحانه المفعمة بالشوق والإيقاعات المتموّجة والتكوينات الجزلة المنسوجة بطريقة حسّية. أمّا لِيسْت فكان مظهر العبقريّة لديه شكلاً من أشكال التمثيل المرتبط ببراعته الأسطوريّة كعازف بيانو، ولا عجب أن تكون عبقريّة لِيسْت أوضح عندما يعبّر صراحة عن سيرته الذاتيّة وتجاربه وحياته الباطنيّة في أسلوب مسرحيّ استعراضيّ، إنّما بإيمان واقتناع تامّين، كما في سوناتا البيانو العظيمة ذات الحركة الواحدة.

في عصر النهضة اتجهت أوروبا إلى المثل اليونانيّ الأعلى، والواقع أن عصر النهضة كان ميلاداً جديداً، ومردّ ذلك أن قيمه تدين للعصور الكلاسيكيّة القديمة بقدر ما تدين للمسيحيّة. يسعى الموسيقيّ الإيطاليّ كلاوديو مونتيفردي في لحنه الجليل Possento spirto إلى استدعاء قوى الظلام ثم ينتصر عليها باستخدام جميع الوسائل الحسّية البارعة التي كان إنسان عصر النهضة قادراً عليها. غير أن انتصار «أورفيوس» على الموت في أوبرا مونتيفردي ليس سوى انتصار ظاهريّ.

أمّا باخ فكان عصرذاك استثناءً، كونه مؤلّفاً موسيقيّاً لاهوتيّاً، بل صوفيّاً، بقدر ما هو إنسانيّ النزعة أعاد صوغ حكاية أورفيوس لجعل قوّة العبقريّة مساوية لانبلاج النهار في السماء، فلو عرفنا كيف نتيح له زيارتنا لفعل. كذلك يستدعي سترافنسكي، أحد أكبر رموز القرن العشرين الموسيقيّة الينابيع الأصليّة لوجودنا، ولا تكمن عبقريّته في طموح ملحميّ بل في ما يملك من خصائص الاستشعار، والشكليّة الصارمة في سلسلة أعماله الأخيرة تشترك في أمور كثيرة من الناحيتين الفلسفيّة والتقنيّة مع التعدّدية الصوتيّة البوليفونيّة التي تعود إلى ما قبل عصر النهضة… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى