عيد فالنتاين وسعد «ذو القرنين»

جورج كرم

لم أؤمن بعيد فالنتاين يوماً، ولم أر فيه فائدة سوى للمحال التجارية وباعة الدببة «المهضومة» والمطاعم، ونحن أتباع الاستعمار حضارياً، نتبنى الفكرة منه وننتقل بها إلى أسفل درك من التفاهة لم يستشرفها حتى أصحاب المصالح في الغرب من «مخترعي» المناسبة تجارياً ولنأخذ حجوزات المطاعم ليلة العيد والليلة التالية في بلادنا مثلاً، فمن اشتهى بعض الطعام العادي في مطعم بسيط يقدم مازة العرق، عليه في ليلتي هذا العيد أن يصوم عن أكل صحن الحمص ليومين، فحتى أصغر المطاعم النائية وأكثرها بدائية وجد لنفسه دوراً في «مهرجان البالونات والدببة ودفع المال» وإذا لم يتوافر في المطعم مسرح أو «مصطبة» ليقف عليها مطرب يجلب صاحب المطعم «وان مان شو» أو «دي دجاي» هذا ليس خطأ مطبعياً وأقصد بذلك كلمة «دجاي» وهي ترمز إلى حرف أجنبي تبدأ به كلمة «جوكي» الأغاني والإيقاع ، ولم أقصد كلمة «دي دجاج» كما قد يحلو للبعض قراءتها، خاصة أولئك الذين صرفوا مبلغاً يتعدى ربع راتبهم الشهري ليلة العيد المستحدث أملاً في صحن دجاج فأتاهم المطعم بجاط من اللحومات الباردة بديع الترتيب لا يتعدى محتواه مقدار «بلكوم» في مفهوم خبزنا السوري أو المرقوق القروي منه، وليتهم يكثرون من الدجاج ويخففون علينا جرعة بعض الفن السخيف المبتذل.

تماهيت على نحو تام مع البرامج الطريفة على المحطات اللبنانية كلّها وتعرض اسكتشات عن الزوج أو الحبيب الذي يكاد يموت همّاً محاولاً تحقيق أمنية حبيبته، أو إبهارها بعمل معين، في حين أن العين بصيرة والجيب خالٍ وما إلى ذلك من طرائف ذهبت بها بعيداً مخيلات معدّي البرامج. وما دام الصوم عن الطعام اللذيذ يبدأ فعلياً ليلة الرابع عشر من شباط بسبب «عراضة» فالانتين فلِمَ لا نقدم اقتراحاً لمجلس المطارنة والإكليروس بفِرَقِهِ المتنوعة ليبدأوا الصوم الكبير كل سنة ليلة «عيد الحب»، وهذا على ما يبدو أمر واقع أصلاً، بذلك تتوحد الطوائف وتتوافق تلقائيا على يوم واحد لعيد الفصح فتكون للعيد قيمة توحيد وإلفة.

زد على تفاهة الحدث المستورد أن مناسبة العيد تتزامن مع ذكرى اغتيال رفيق الحريري، وعلى الناس أن يستعدوا للعيد مثلما كانت الحال هذا العام بخطاب عنصري تحريضي لسعد الحريري أجبرتُ على متابعته تلفزيونياً وأنا في صالون الحلاقة أنمق لحيتي لفالنتاين، ولكي نعطي كل ذي حق حقه، كان سعد الحريري هذه المرة مستعداً للخطاب واستظهره على يبدو قبل إلقائه، فكان إتقانه الكلمات بالفصحى لافتاً ويستحق عليه علامة ثمانية ونصف على عشرة على الأقل، أما مضمون الخطاب الفعلي فكان مساوياً ورقة بيضاء لو حذفنا منه مختلف أشكال التحريض الطائفي والعنصري والفتنوي، وكرّر الحريري مراراً جملة عامية مخاطباً حزب الله قائلاً «اطلعوا من سورية»، وكان لفظَهُ المتكرر لكلمة «مِن» في الجملة أشبه بلفظ كلمة «MEN» بالإنكليزية، ما أضاف إدراجاً جديداً إلى مكنز كلمات جماعة وسط البلد مثل كلمة «الدريح» مثلاً وهي تعني «الضريح»، وما إلى ذلك من ألفاظ منمقة تليق بقوى الارتهان للغرب وتهدف إلى تحريف لغتنا الجميلة علّها تبدو للمستمع كأنها لغة أجنية ولو للوهلة الأولى فحسب. لكن الدول الأجنبية تعرف أن أتباعها في بلادنا هم من «العرب» مهما حاول هؤلاء العربان التقرب منهم، وكلما زايد المرتهنون في التملق للامبريالية إزداد ازدراء الغرب لهم. أما الحضور من جماعة التصفيق خلال كلمة الحريري الإبن فكانوا من أبناء المدارس أو الجامعات على ما يبدو، يرتدون القمصان الزرق واستقدموا بالباصات المستأجرة، وأرجو ألا يكون استراتيجيو «المستقبل» ابتدعوا هذه الفكرة لترهيب لابسي القمصان السود فيكونون بذلك أضافوا النكتة إلى المناسبة ومخاطبة الصغار بهذه اللغة التحريضية المبطنة، في حين وضع الحريري جانباً موضوع تدخل المقاومة في عمقها السوري ضمن محادثاته الوفاقية مع حزب الله التي لا تخدم سوى زيادة شعبية رئيس الحكومة السابق لدخول السرايا مجدداً لدى الفئات المهمشة بإثارة غرائزها. ولم يكن الحريري أول من استغل الطلاب لاستحداث شعبية غير موجودة، ولا ننسى كيف كانت المدارس تتناوب على الإقفال يوماً في الأسبوع في المناطق التي كانت تسمى شرقية أواخر الثمانينات للذهاب إلى بعبدا والهتاف لحياة الرئيس، والخيم المدفأة، وديوك الحبش ليلة الميلاد الجديرة بالذكر أيضاً.

مع كامل التحفظ عن عيد الحب مثلما يحتفى به اليوم، أرتمي في أحضان الحب من دون تحفظ ومن غير وسادة أمان، فالذي يحب هو إنسان كامل، تماماً مثل الذي يحزن، والإنسان فينا يحب يومياً ويحزن يومياً وتبقى للمناسبة قيمة رمزية فوق كل انتقاد، فعيد فالنتاين في المكسيك مثلاً هو عيد حب حقيقي، له معنى سام على ما سمعت من زملائي، إذ يعايد فيه المرء جميع أشقائه وشقيقاته، وأصدقائه وصديقاته وأحبابه من دون تمييز. ومهما تفاوتت أهمية العيد أو تفاهته في بلاد الأرض الشاسعة ليست هناك حضارة أو أمة تحتفي بالكراهية ليلة عيد الحب، مثلما سمعنا في خطاب الحريري الإبن. وكون الأب هو موضوع المناسبة ذكرى الاغتيال العاشرة لا بد من الإشارة إلى أن الأمثلة عديدة في عالمنا على أن كون إبن «الزعيم» نسخة أقبح من والده في التعامل والخطابة، مع التساوي في السوء، وأخص بذلك الرئيس الأميركي بوش الأب وإبنه الذي خلفه، والحريري الأب وابنه سعد شاغل الغرب بحوادث التزلج وركوب الدراجات النارية السريعة وشاغل الشرق متكلماً باسم أسوأ نظام رجعي ديني عرفه عصرنا، فاستحق بذلك لقب «ذو القرنين» تهكماً. والحريري الأب قام بما قام به من تدمير لاقتصاد الدولة وإسقاطها في الدين وإثراء نفسه، مثلما هي الحال بالنسبة إلى إبنه الذي يبدو أنه «مكمّل ميّة سنة» في هذا النهج، إنّما بكياسة ظاهرة عند الأب الذي أعطى منحة دراسة لفلان وأخذ في المقابل مبنى لعلتان في منطقة السوليدير مثلاً، وفعل ما فعل بصورة مقبولة نوعاً ما للأذن والعين، على عكس ابنه «ذو القرنين» الذي يأتينا كل سنة خطيباً فيفسد لنا ما تبقى لنا من فالنتاين.

أبو أليسار ــ كاتب سوري من جبل لبنان،

موقعه على الإنترنت www.gkaram.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى