أكثر من صُدف….

معن بشور

هل هي مجرد صدفة أن يصدر في يوم واحد قرار من القضاء الفرنسي برفض طلب إخلاء سبيل المناضل من أجل الحرية جورج إبراهيم عبدالله على رغم انقضاء سنوات على انتهاء مدة الحكم عليه بالسجن تزامناً مع حملة للرئيس الفرنسي هولاند ورئيس حكومته ضد أربعة برلمانيين فرنسيين لقيامهم بزيارة استطلاعية إلى دمشق من أجل البحث في حلول تخرج سورية من محنتها الدامية التي لا يمكن إخفاء مسؤولية باريس مع حلفائها في تأجيجها والحيلولة دون إيجاد حلول لها.

وهل هي مجرد صدفة أيضاً أن يقدم في اليوم نفسه متطرفون صهاينة ينتمون إلى عصابة «تدفيع الثمن» الصهيونية على حرق كنيسة في القدس المحتلة، وسط صمت عربي ودولي مريب، فيما يقوم متطرفون على المقلب الآخر في سورية والعراق بتدمير كنائس وبيوت عبادة ومتاحف تضم معالم تاريخية نادرة، إضافة إلى خطف العشرات من المواطنين الأشوريين لانتمائهم إلى الديانة المسيحية.

في هذه المشاهد الأربعة التي تصدرت الأخبار في يوم واحد ما يمكن أن يوضح حجم المعركة المفروضة على أمتنا، بهدف تحطيم ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وتمزيق مجتمعاتها بكل مكوناتها، وبما يكشف جلياً حجم تحكم العقلية الاستعمارية والعنصرية بالكثير مما نراه من حولنا من سلوك وأداء ومواقف.

ففي العاصمة الفرنسية الوريثة لثورة رفعت قبل قرنين وربع القرن شعارات «الحرية، الأخوة، المساواة» وخرجت من مفكريها الكبار نظريات الفصل بين السلطات الثلاث، نرى تغولاً للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وهيمنة للقرار الأميركي «الإسرائيلي» على القرار القضائي الفرنسي في قضية جورج عبدالله ، بما لا يزعزع أركان العدالة في دولة طالما اعتزت أنها دولة الحق والقانون، بل يكشف حجم الاختراقات الأجنبية لاستقلال بلد طالما تغنى بالتضحيات التي قدمتها مقاومته ومؤسس دولته الحديثة الجنرال شارل ديغول، لصيانة استقلاله وسيادته.

وإذا كانت السلطة التشريعية في الدول الديمقراطية هي التي تسائل وتراقب وتحاسب السلطة التنفيذية، فقد رأينا في حملة رئيس الجمهورية والوزراء الفرنسيين على نواب منتخبين قلباً للمعادلة وسابقة باتت فيها السلطة التنفيذية تحاسب نواب الأمة على زيارة قاموا بها لتقصي الحقائق في دولة أخذت شظايا التطرف والغلو الدموي تنطلق منها لتطاول العالم كله، وتحديداً فرنسا.

ومن جهة أخرى نرى الاعتداء على بيوت العبادة والمقامات والأضرحة، إسلامية أم مسيحية، واستهداف المتاحف وتحطيم آثارها أو سرقتها، كما جرى لمتحف بغداد فور احتلال العاصمة العراقية عام 2003، سمتين متلازمتين في تصرفات الصهاينة والمحتلين الأميركيين وأهل الغلو الظلامي والتطرف التدميري الدموي، بما يؤكد أن المستهدف في أمتنا ليس حاضرها فقط عبر تمزيق وحدتها، بل كذلك ماضيها الممتد إلى آلاف السنين وهو مصدر اعتزازها وفخرها، وأيضاً مستقبلها الآتي الذي تسعى لأن يكون حافلاً بانجازات تضح أمتنا في مصاف أكثر الأمم تقدماً.

ولم يعد خافياً أن رفض السلطات الفرنسية إخلاء سبيل جورج إبراهيم عبدالله المناضل من أجل العدالة لفلسطين والأمة وقد صفق المشاركون في منتدى العدالة لفلسطين الدولي المنعقد قبل أيام في بيروت طويلاً حين ذكر اسمه هو إصرار على إبقاء قيم الحرية والعدالة والاستقلال في السجن الفرنسي، بل على إبقاء أمتنا كلها، ومعها شعوب العالم كلها، أسيرة العقل الاستعماري والصهيوني الهرم الرافض أن يحترم حقائق العصر ومبادئه.

كما لم يعد خافياً أن استهداف الإخوة الأشوريين اليوم في الحسكة السورية، بعد استهداف غيرهم من مكونات مجتمعنا بالأمس، هو استهداف للأمة كلها، لوحدتها ولقيمها الإنسانية ولتاريخها الطويل القائم على فكرة العيش الواحد بين مكونات اجتماعية ودينية وعرقية متنوعة، وهي فكرة حرصت الرسالات السماوية كلها، لا سيما الإسلام، على احترامها والدفاع عنها.

ولم يعد خافياً أيضاً أن استهداف بيوت العبادة ورموزها، من مساجد وكنائس وحسينيات ومقامات وأضرحة، داخل فلسطين وخارجها، وفي المقدمة المسجد الأقصى والحرم الابراهيمي وكنيسة المهد، هو استهداف لكل ما يشد أبناء المنطقة إلى إيمانهم، وما يعتزون به من تاريخهم، وما يتغنون به من حضارتهم.

أما «الحملة» «المغرية» التي شنها هولاند ورئيس وزرائه ضد نواب فرنسيين زاروا دمشق لاستطلاع أحوالها واجتراح حلول لمحنتها، فان كشفت شيئاً فإنما كشفت حرص باريس وحلفائها، لا سيما في تل أبيب، على أبقاء الجرح السوري مفتوحاً ونازفاً، بما يشبه الانتقام التاريخي من وطن قاد شعبه أول حركات التحرر العالمي ضد الاستعمار الفرنسي وأجبره على الجلاء عن أرضه مقدمة لجلائه من بلدان عدة في المنطقة والعالم، بل كان شعبه وجيشه ودولته، ولا يزالون، قلعة لمواجهة الصهيونية ومقاومتها ورفض التسليم بمشروعها العنصري الإرهابي الراعي لكل إرهاب.

بالتأكيد ما جرى ويجري في فلسطين وعلى امتداد الوطن الكبير هو أكثر من مصادفات مؤلمة، إنه نتاج إستراتيجية استعمارية وصهيونية واحدة حتى ولو نجح أصحابها في استخدام أدوات محلية لتنفيذها.

ولعل في صمود جورج عبدالله في سجنه الممتد عقوداً، وفي صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته التي لم تهدأ منذ أكثر من قرن، وفي صمود سورية المفاجئ للصديق والعدو في آن، ما يرسم ملامح مرحلة جديدة للأمة بعناوينها الكبرى وهي المقاومة والوحدة والنهضة وتفاصيلها المحددة في المراجعة والمصالحة والمشاركة.

المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى