أرأى النور في الأول من آذار أم رآه النور؟ رجلٌ في أمّة وأمّةٌ في رجل

أندريه كرم

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، وبينما كانت الطبيعة تنتظر الربيع بلهفة وشوق عظيمين، دخلت امرأة من ضهور الشوير، على مرأى من صنين المزيّن بالبياض، مخاض الولادة… لم يكن في السماء نجم ولم يكن على الأرض مجوس.

… وفي الأول من آذار سنة 1904 أبصر النور مولود جديد، صبي، قوي البنية، طبيعي التكاوين، لا يميّزه عن بقية الأطفال سوى دماغ حسن التركيب خُطّتْ عليه آيات النبوغ والفكر السليم.

خرج من رحم الحياة ابناً للحياة، ولا نعرف ما إذا كان رأى النور أم أن النور رآه. نبوغ سيحطّم أعمدة الجهل والعبودية.

في ذلك اليوم المجيد أطلّ على الكون أنطون سعاده فتى القوميّة الأغرّ.

وإن نسينا أنفسنا لنْ ننسى الأوّل من آذار، فهنا البداية. ولن تكون هنالك نهاية قبل ألف عام وعام.

نشأ الولد في كنف أمّه، وعندما قارب سنّيه العشر وكان في مدرسة برمانا، طُلب إليه أن يحمل العلم التركي في احتفال مدرسيّ، فرمى العلم أرضاً قائلاً: «لن أحمل فوق رأسي علم مغتصبي بلادي»، وكانت الانطلاقة نحو دروب العزّ.

سافر إلى البرازيل حيث تتلمذ على يد والده الدكتور خليل سعاده الذي نفخ فيه روح المعرفة، وراح أنطون يكتب في التاريخ، والاجتماع، والعلاقات الدولية، والسياسة، حتى أتت سنة 1932 وكان قد أصبح أستاذاً في الجامعة الأميركيّة، وأسّس الحزب السوريّ القومي الاجتماعيّ سرّاً، وكتب له دستوره بمبادئه الأساسية ومبادئه الإصلاحيّة، ووضع له مؤسّساته ورموزه وغايته، وأضاء على المثل العليا التي هي الحق والخير والجمال، ورسم زوبعته منارة القوميين برموزها الأربعة، الواجب والنظام والحرية والقوة، ووضع رائعته «نشوء الأمم» قاعدة فلسفيّة علميّة للبناء الفكري الذي أقامه.

راح يكتب بغزارة الينابيع، وبزخم لا ينضب، فغرف من بحر ونحت في صخر عن الأمّة الحيّة، الأمّة السوريّة التي لن يكون القبر مكاناً لها تحت الشمس.

وكان من نتاج فكره «الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّدية»، و»شرح المبادئ» و»المحاضرات العشر»، و»الصراع الفكريّ» وغيرها، تغلّفها كلّها فلسفة المدرحيّة، وهي تفاعل المادة والروح، فنشأت العقيدة كاملة متكاملة تحيي النفوس وتصنع الإنسان الجديد.

سعاده عطاء لا ينضب، شموخ لا ينحني، فكر لا يموت.

مشى سعاده واثق الخطوة يقود أمّته إلى النصر الكبير، والدهر شاخصٌ يراقبه ويسأل: من هو هذا الثغر الباسم الذي أتى ليغيّر الدنيا؟ أجابه القدر: هذا باعث النهضة، هذا زعيم الأمّة، هذا سيّد الفكر، هذا فتى آذار الأجلّ! يرفع «مشعالاً فيه نور حقيقتنا وأمل مستقبلنا، وصحة حياتنا».

هذا، يقظة الوجود في عمر الزمان…

كتب الأديب السوريّ الكبير جبران خليل جبران:

«يقف اليوم فتى الربيع منادياً سكان الأجداث ليهبّوا ويسيروا مع الأيام. وإذا ما أنشد الربيع أغنيته بُعثَ مصروعُ الشتاء وخلع أكفانه ومشى».

فتى الربيع هو رجل الغد،

فتى الربيع هو رجل جدّ واجتهاد، رجل الفضيلة،

فتى الربيع هو المعلم الأكبر،

الزوج الرفيق الوفيّ،

القائد لأبناء الغد،

قائد البطولة والاستشهاد،

فتى الربيع هو أنطون سعاده، الرسالة السورية القوميّة الاجتماعيّة، هادية الأمم والناس.

فتى الربيع هو كلّ واحد انتصرت به معاني الأول من آذار.

لقد دوّت صرختك: «استفيقي سورية» فكان لها إيمانٌ في نفوس أبناء عقيدتك، وما زالت بذورك الصالحة تنتظر آذارها لتنبت فُلاً وزنبقاً وياسمين.

قلت يوماً في سنة 1947 حيال الخيانة التي حصلت داخل حزبك وطردت على أثرها المنحرفين: «لو انفضّ عني جميع القوميّين الاجتماعيّين فإنني سأكتب لأجيال لم تولد بعد».

أيها المعلّم القدوة:

إنّ الأجيال التي لم تولد بعد قد ولدت في عقلنا والخيال.

هم جنودك المخلصون وتلامذتك المتفوّقون، سيمشون صفوفاً بديعة النظام وراء رايات الزوبعة الحمراء ليحموا سورية الأمّة المنتصرة.

صنعت نساءً ورجالاً فوق العادة يمارسون البطولة المؤيّدة بصحة العقيدة.

يذكّروننا بمحاربي إسبرطة وأبطال هنيبعل وجنود سنحاريب وسرجون ونبوخذنصر.

إذا الشّجاعة فُقدت وجدناها فيهم.

أيها المعلّم القائد:

إن التعاليم التي زرعتها فينا هي الأنوار التي ستشرق في ليل سوريانا، وإنّ مبادئك هي الأضواء التي ستنير الغد الأفضل، وأنت ونحن الغد الأفضل، وسنبقى معك إلى يوم الانتصار الكبير، حينها سيمتدّ موطننا من البحر السوري الكبير إلى جبال البختياري، ومن جبال طوروس إلى شبه جزيرة سيناء، أي الهلال السوريّ الخصيب ونجمته قبرص. يبدو الحلم صعباً اليوم لأنّ اليهود يظنّون أنّ حلمهم «من الفرات إلى النيل» يتحقق. إنه سراب سيدغدغ مخيّلتهم حتى تنهار أحلامهم أمام طيف سعاده وعزم جنوده.

إنّ سورية الطبيعيّة تعصف بها المحن اليوم، فانظر يا سعاده من عليائك إلى الوطن الذي أسميته سوريانا، والذي أحببت، حدّق أتصدّق ما ترى؟

سورية في جحيم من الحمم، العراق في براكين تنشر الموت والعدم، فلسطين مغتصبة، الإسكندرون لواء سليب، الأردن في يد الإنكليز، لبنان يصرخ من ألم الانقسام.

لقد فاض السيل حتى غاصت الركب، رمّم الصدع، قم مثل طائر الفينيق، عُدْ يا سعاده بتقمّص أو بولادة جديدة، أو بعودة النفس، وانفخ من جديد في هذه الأمة الحيّة روح القوميّة السوريّة التي بها تحيا الأوطان ومن دونها تموت الأوطان.

إن تلامذتك يحملون مبادئ النهضة التي بعثتها، فإمّا أن تنتصر هذه النهضة، وإمّا ندخل في غياهب الذلّ والانحطاط.

سنظلّ أحراراً، من أمة حرّة، ولن نكون أبداً عبيداً لليهود.

أيّها الزعيم المفدّى

لقد أتيت معلّماً وقائداً وهادياً

للأمة والناس

نطق بك الفلاسفة

ونطق بك الفرسان

ونطق بك التاريخ

ونطقت بك المعرفة

ونطق بك الأنبياء

ودعني أقول نطق بك الله

وهل الله إلا مُثُلِك العليا: الحق والخير والجمال؟

في هذا اليوم المجيد، يوم ميلادك، أيّها المعلّم، فلنقف مقابل صنين، معقل النسور، ولنرفع اليد اليمنى من الأبعد عن الجسم لتصبح بموازاة الكتف، ولتشكّل مع الكتف زاوية قائمة.

الكفّ مبسوطة، الأصابع ملتصقة، مع انحناء بسيط إلى الأمام، ولنقل معك:

«بهذا الإيمان، نحن ما نحن

وبهذا الإيمان نحن ما سنكون

وأنتم تعرفون ما سنكون.

وبما نحن، وإلى ما نكون،

سيظلّ يدوي هتافنا في العالم:

تحيا سورية!»

… حتى الخلود.

لتحي سورية وليحيَ سعاده

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى