ما الذي يخرج شعبي من هذا الويل؟

يوسف موصللي

لست بمحتاج إلى شرح ماهية هذا الويل، فمن منّا لم يذق طعمه أو يشعر بتجلّياته حاضرة في حياته اليومية، بل في غده القريب ومستقبله الغائم كلّياً. ويل أحمر جهنميّ يتناول كل ما في طريقه من بشر وحجر. وبعض الحجر قد يحكي قصص كلّ البشر، كيف لا وشواهد أرضنا تؤرخ لما عرف بشهادة الغريب قبل القريب بفجر التاريخ. أتعلمون ما هو فجر التاريخ؟ هو كل شيء لأي شيء اسمه إنسانيّة! ماذا إن محيت ذاكرة أحدنا اليوم؟ هل يصبح لوجوده وقصته أي معنى من دون تاريخه؟! التاريخ ليس مادة مملة في كتب المدرسة أو وسيلة نستذكرها لصرف غايات في السياسية، هو حضارتنا وكبرياؤنا ومعنى وجودنا، هو قصتنا على هذه الأرض والمنطلق لجميع أهدافنا.

تاريخنا هويتنا ومن لا يشعر به لا يشعر بالهوية ولا يشعر بالوجود، ومن لا يتألم عند محو تاريخه فهو لا يشعر بالعار. و»لا يشعر بالعار من لا يعرف العار ولا يعرف العار من لا يعرف الشرف». أستذكر قائل ما سبق، معرّفاً عنه باسمه البسيط الذي تحول عظيماً، اسمه الذي رافقه من يوم ميلاده في الأول من آذار عام 1904 إلى يوم اغتياله في الثامن من تموز عام 1949.

أنطون سعاده هو اسم بسيط لرجل بحجم أمّة، فهو السائل أيضاً ما الذي جلب على شعبي هذا الويل، إذ لم تكن أوضاع شعبنا في زمن شبابه مختلفة كثيراً عما يحدث اليوم، ولأن الأمة هي امتداد الشعب الواحد عبر الأزمان نجد بين رجالاتها من يستذكر شرفها وعارها في كل زمن. فحضارتنا التي بزغت من سومر وأكاد وآشور وآرام وكنعان وانتشرت عبر طائر الفينيق وأحيت نفسها في دول تاريخية لاحقة، عادت وتجلت في عنفوان الشاب أنطون سعاده الذي آلمه ما حل بأمته وكان ذلك شرط الزعامة الأول، ثم انطلق باحثاً عن إجابة لسؤاله، معتمداً الطرائق العلمية، فكان شرط الزعامة الثاني. وبعدما حدد بدقة من نحن وماذا نريد وكيف نخرج مما نحن فيه توصل إلى عقيدة الانتصار النهائي، المعتمدة أولاً وآخراً على أبناء الأمة فحسب، وبهذا حقق شرط الزعامة الثالث، أمّا بعد فقد حول قوله إلى فعل مجسّداً العقيدة السورية القومية الاجتماعية في حزب غايته بعث النهضة. وهنا اكتسب زعامة الحزب والعقيدة بكل جدارة، أم أقول هي من اكتسبته!

لا أذكر اسم حضرة الزعيم لغرض النشر الإعلامي أو الدعاية الحزبية، إنّما لأعطي مثالاً عن رجل نحن اليوم في أمس الحاجة لنهجه، فإذا سألنا أنفسنا اليوم ما سأله سعاده في زمنه «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟» هل ستكون إجابتنا بعيدة عن إجابته؟ أليست هي نفسها «فقدان السيادة». دعونا نتكلم اليوم بأمثلة حية وأسئلة موجعة: هل دُمّرت آثارنا على أيدي «داعش» من دون أن تقع أولاً خارج سيادتنا العسكرية؟ وهل كان تهميش أهميتها في ترسيخ هويتنا الحضارية جرماً أقلّ شأن من تدميرها مباشرة؟ أين كانت سيادتنا الفكرية الثقافية عندما تغلغل «الداعش» الفكري في نفوس شعبنا؟ وأين كنا منه نحن من ندعي الوعي والثقافة؟

لن أمعن في جلد الذات بل أعود إلى نهج سعاده الذي لم يهادن جرائمنا في حق ذاتنا، ولكن ذلك لم يقعده عن العمل مثلما يحصل لكثر منا اليوم. هو رجل شدّ على جروحه كي يضمد جروح أمته النازفة، وانطلق إلى العمل بعد الفكر غير آبه بأصحاب غايات سياسية من هنا ونظريات استسلام من هناك. كم هم كثر هؤلاء في محيطنا وكم لهم من تأثير عظيم في إرادتنا! لماذا لا نخلع عنا هذا الجمود والمهانة ونشرع في بناء ما هو نحن وما هو مستقبلنا؟ بالطبع كلامي موجه اليوم بالطبع إلى من بلغ حد الشعور بما يحدث، أما بعض المغيّبين أنفسهم عن معركة مصيرنا الوجودي فأتركهم ربما لصدمة تاريخية أكبر إن كان هنالك من شيء كهذا! أخاطب اليوم من شعر بعار تحطيم شواهد تاريخنا بالأمس، وعار تحطيم كبريائنا وفخرنا وأمتنا على مدى السنين والعقود والقرون الماضية. أخاطبه وأقول له لا تقف عند حد الشعور بل انطلق به إلى رحاب الفكر، ولا تهدأ حتى تصل إلى الجواب اليقيني بعد كل شك مشروع، ولا تهدأ أيضاً بعد ذلك بل انطلق للعمل المخطط الواعي الذي يتناول حجم أمة ومصير تاريخ، وفي مسيرتك هذه اتعب ما شئت لكن لا تستسلم، فاستسلامك موت لك ولمن حولك، موت الهوية وضياع نهائي في مجهول أعظم مما سبق.

الذي سيخرج شعبي من هذا الويل هو عكس ما جلب عليه الويل. إنها السيادة، كنز نفيس يصعب الحصول عليه ويصعب أكثر الاحتفاظ به. هي حقيقة مشروع كل غيور على أمته. يا أبناء هذه الأرض لسنا بقطعان لا تعرف ما تريد، إنما نحن مشاعل وإرادات حرة تتوق لمجدها وانتصار قضيتها، قضية الحق والخير والجمال، قضية الحياة بأسرها، قضية بذل سعاده نفسه لأجلها منذ الأول من آذار إلى الثامن من تموز جسداً، وحتى انتصار قضيته النهائي روحاً.

بكامل الأسى والعار، نعتذر من سورية وسعاده على ما فعلنا وما لم نفعل، وبالعزم التام والشرف نعاهد كل ما فينا من عزم وشرف على الانبثاق من ظلام انحطاطنا إلى فجر تاريخنا من جديد. لن نقول لعل وعسى وعلى أمل. نقول بالإرادة والعمل فحسب، وهذا ما سنفعل، ولتشهد الأيام المقبلة على ما نقول اليوم ونفعل غداً ونحصد في مستقبل أمة الشمس، مهما جار عليها ظلام.

المجد لسورية والخلود لسعاده.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى