عبدالفتّاح كيليطو: ليفتخر البعض بكتاباتي فأنا فخور بقراءاتي وهذا سرّ الإبداع

دعا الكاتب المغربيّ المعروف عبدالفتاح كيليطو الكتّاب والمبدعين إلى عدم الإدلاء بالكثير من الحوارات، فالكاتب يكرر نفسه لا محالة، إذ غالباً ما تشغله الأسئلة ذاتها والقضايا عينها. ومثلما أن الكاتب يبقى سجين أسئلة محددة، فإن محاوريه حين يسألونه يواجهونه بالأسئلة نفسها. تلك هي الخلاصة التي انتهى إليها كيليطو، وهو يعود إلى جمع حواراته، إجاباته وأسئلته، مجدّداً. والحوارات التي صدرت في كتاب تحت عنوان «مسار»، تشمل عشرين حواراً من أصل مئة حوار تقريباً أجراها كيليطو وتحكي مسار كاتب وقارئ جيّد يرفض حتى أن نسميه كاتباً أو ناقداً، وهو يصبو إلى أن يكون قارئاً جديراً بهذه التسمية فحسب.

حتى عندما يكتب، ما يريده عبدالفتاح كيليطو هو القارئ الجيد، على ما يروي نقلاً عن مترجم بورخيس الذي نقل قول بورخيس نفسه: «أن تجد قارئاً جيداً أصعب من أن تجد كاتباً جيداً». بهذه العبارة لبورخيس يستهلّ كيليطو تقديمه لكتابه الذي جمع فيه حوارات أجراها على مدى ثلاثين عاماً بين 1984 و2014.

انطلاقاً من التجربة، يحذر كيليطو الكتاب والمبدعين من الإفراط في الحوارات كي لا يكرروا أنفسهم بقدر ما يكرر المحاورون الأسئلة نفسها. ويلفت إلى عدم نجاته في أحيان كثيرة من السؤال عن سبب اهتمامه بالأدب القديم، ويعلق كيليطو: «من قرأ كتبي لا يمكنه أن يطرح علي مثل هذا السؤال». ويكشف أنه كثيراً ما وجد نفسه أمام محاورين لم يقرأوه، «وهم يعتقدون أنهم سيفهمونك عندما يحاورونك»، يقول.

هذا «التحذير الكيليطي» من الحوارات يعود إلى أن الأسئلة تتكرر لتتكرر معها الأجوبة. بل إن الكاتب يكرر نفسه أصلاً وهو محكوم دوماً بالتكرار.

يقول كيليطو إنه مذ كان فتيّاً يقرأ باختين أو بورخيس. «كنت أغتاظ عندما أقرأهم إذ كانوا يكررون أنفسهم من كتاب إلى آخر، ويكررون أنفسهم ويعيدون ما قالوه قبلاً. مذّاك عاهدت نفسي على ألاّ أكرر نفسي».

ثم يحدثنا عن تجربته في كتابه الأول «الأدب والغرابة»، ومدى حضور هذا الكتاب وأفكاره في الكتب الأخرى التي ألفها من بعد، متسائلاً: «هل كررت نفسي في الكتب الموالية؟». ويجيب بأن الطريقة الوحيدة أمام الكاتب لكي يتجنب التكرار هي «التوقف عن الكتابة»، إذ «لا يمكن لك أن تكتب إلا إذا كررت نفسك»، يضيف. من هنا، ولعدم الإمعان في التكرار، وكي لا تتحول حوارات هذا الكتاب إلى نصوص تكرر نفسها، تدخل كيليطو في هذه الحوارات إذ «لم يكن ممكناً أن أتركها كما هي، احتراماً للقراء». على ما يوضح. أما أن تكون كاتباً جيداً، فتلك حكاية أخرى. غير أنها ليست من الحكايات التي تغري عبدالفتاح كيليطو، بل إن كيليطو، كما في أحد حواراته، يرفض أن يسمي نفسه كاتباً، ويرفض وصفه بالناقد أيضاً ويفضل أن يكون محللاً للنصوص. أي أن يكون قارئاً جيداً. أما أن يكون الإنسان كاتباً فقد يفعل ذلك، لكن من الصعب أن يقدّم إلينا أدباً.

ينقل كيليطو في هذا السّياق ملاحظة سمعها حديثاً من امرأة مهتمة بالمقامات التي كتب عنها كيليطو أطروحته المشهورة. قالت تلك السيدة مخاطبة كيليطو إنه ينبغي التمييز بين الكتابة وإنتاج الأدب، فكل امرئ قادر على أن يكتب عن حياته أو عما يريد، أو أن يكتب كي لا ينسى مثلاً. أما إنتاج الأدب فأمر آخر. إنتاج الأدب بحسب ما ينقل كيليطو عن هذه المرأة هو «أن يصير العالم كتابة، وتصير الكتابة عالماً». وبمَ أجاب تلك السيدة؟ بأنه لم يجد الجواب بعد، «غير أننا، عندما ننظر إلى المؤلفين الكبار، مثل كافكا وماركيز، فإن عالمهم كتابة، وكتابتهم عالم في حدّ ذاته».

من عساه يكون الكاتب الجيّد؟ إنه بحسب كيليطو «القارئ الجيد»، ويعود إلى ساحره بورخيس ليردّد ما ورد على لسانه: «ليفخر البعض بكتاباتي، أما أنا فأفتخر بقراءاتي»، وهذا «سر الإبداع»، يعلق كيليطو.

لا يتوقف كيليطو عن الإحالة على بورخيس. يظل اسمه مرتبطاً أيضاً بالناقد الفرنسي رولان بارت، وعن هذه العلاقة يقول إنه لا يمكن دراسة الأدب المغربي من دون الإحالة على بارت: «مع رولان بارت انطلق النقد الجديد في المغرب»، يقول كيليطو. عندما قدم هذا الناقد الفرنسي إلى جامعة محمد الخامس في الرباط، حيث درس في موسم 1969-1970. كان كيليطو يومذاك أستاذاً مساعداً في الكلية، إلى جانب رولان بارت. ويتساءل كيليطو بدهشة: «عندما أحكي بإعجاب عن مجاورتي لرولان بارت في الجامعة، يُنظر إلي أنا بإعجاب، وأصير أنا إنساناً عظيماً بدلا من رولان بارت، هل يجوز لك؟».

في تلك الفترة التي يحكي عنها، داخل شعبة الأدب الفرنسي، كان الطلاب يتمتعون بجرأة، كانوا مشاغبين ومشاكسين، على حدّ قوله، إلى حدّ أنهم واجهوا رولان بارت بالسؤال عن جدوى البنيوية، وكانوا يتحدّون أيضاً.

أما فن المقامات الذي اشتغل عليه كيليطو في أكثر من كتاب، فيقرّ باستحالة أن نحذف المقامات من الأدب العربي. المقامات بالنسبة إليه هي «ازدهار الأدب العربي وخلاصته»، خاصة مع الحريري. غير أن ما حصل هو أن «الحريري لم يجد مترجمه بعد». مثلما حصل مع «ألف ليلة وليلة» التي وجدت مترجماً بحجم أنطوان غالو. لذا فإن المقامات بقيت في غرفة انتظار مترجمها، كما تنتظر من يعيد إبداعها وتجديده والإضافة إليها، تبعاً لرهانات كيليطو. كما يرى عاشق المقامات أن الرواية العربية هي مقامات اليوم، والمقامات هي طفولة الرواية العربية.

ما جدوى الكتابة؟ يجيب كيليطو بأن الكاتب هو من يكتب ويفترض أنه يكتب لقراء يتعاطفون معه. ولا يمكن للكاتب أن يكتب ما لم يفترض وجود قراء يتعاطفون معه، مهما كان عددهم. ولا يقتضي الأمر وجود قراء كثر بالضرورة. هنا لا تصبح للشهرة أهمية في حياة الكاتب. في هذا السياق، يتساءل كيليطو عن عدد قراء ابن خلدون مثلاً، وهل كان يكتب كل ما كتبه لأن هنالك قراء كثيرين؟ على عكس اليوم، يمكن الكاتب أن يتعرف إلى عدد قرائه والمتعاطفين معه عن طريق ناشره. لكن ينبهنا كيليطو إلى ما ورد في خاتمة مقامات الحريري، إذ يتحدث الحريري عن اجتماعات كان يعقدها مع بعض المتأدبين ويشرح لهم ما كتب. واقترح عليه أحدهم ذات مرة تعديل عبارة معينة وتغيير كلام ورد في إحدى المقامات بكلام آخر، فأجابه الحريري: «كلامك أحسن من كلامي، ولكنني لن أغير كلامي، لأنني أجزت 700 نسخة من هذا الكتاب».

يختم كيليطو كلامه بتوجيه نصيحة إلى من يريد تقليده ويرغب في أن يكون مثله، بعبارة لم يعد يذكر أين قرأها: «اجعل نفسك بحيث لا تعوّض»، أي أن على الكاتب أن يجعل نفسه شخصاً لا يعوّض، مثلما هو عبدالفتاح كيليطو.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى