هل التعتيم على ما يحصل في ريف الحسكة الغربي خطأ أم سياسة؟

جودي يعقوب

منذ ما يقارب الأربع سنوات، يعاني كياننا الشامي، بشرائحه كافة، من المجموعات الإرهابية المسلحة وخصوصاً «جبهة النصرة» وما يُسمّى دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، الذي ارتكب على امتداد الكيان، وبحسب الإحصاءات، مجازر وجرائم بدعم من الدول المسؤولة عن سفك الدم السوري، وصلت حصيلتها إلى أكثر من مئة ألف قتيل، بالإضافة إلى تخريب ما يقارب السبعين في المئة من البنية التحتية في بعض المحافظات. ورغم كلّ ذلك، ما زلنا نطلق على هذه الحرب الكونية اسم أزمة ، لأننا شعب واثق من قدرته على تخطي هذه المرحلة ليعود أقوى ممّا كان عليه من قبل، ولكن علينا أن لا ننسى أننا الآن في حالة حرب، وفي الحرب نحتاج إلى حكومة وديبلوماسية واقتصاد الحرب، وإلى رجال حقيقيين يقومون بإدارة هذه الحرب، والأهمّ من هذا كله أننا في حاجة إلى إعلام حرب، لأنّ الإعلام هو الذي يفضح ويصحِّح، وإذا كان الإعلام مغيّباً ستكون الحقيقة ضائعة، وبالرغم من تطوّر إعلامنا السوري في شكل ملحوظ خلال سنوات هذه الأزمة، إلا أنّ قوة السلطة الرابعة ما زالت ضعيفة ومفقودة، وهي لا تقوم بدورها وصلاحياتها في شكل كامل حتى اليوم.

فمنذ أن بدأت أعمال العنف والأسر في قرى ريف الحسكة الغربي والتي ذهب ضحيتها العديد من أبرياء الطائفة الآشورية، تجاهل إعلامنا هذه الجرائم وعمليات الخطف التي وقعت بعد استيلاء عناصر «داعش» على قرى «تل شاميرام»، و»تل رمّان»، و»تل نصري»، و»الأغيبش»، و»توما يلدا»، و»الحاووز»، و»تل طلعة»، و»تل طال»، و»تل هرمز»، واقتحامهم منازل المدنيين و خطفهم عدداً كبيراً منهم و احتجازهم كرهائن، حيث قاموا أيضاً بإحراق كنيسة «قبر شامية» التاريخية التي تبعد عن «تل تمر» 10 كلم، والتي تعدُّ من أقدم الكنائس في سورية، فدمّروا جزءاً منها وقاموا بنشر العديد من التسجيلات والصور لجرائم القتل والتخريب التي قاموا بها أثناء هجومهم على القرى الآمنة، في حين لم تبقَ وسيلة إعلام مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، إلا وسلطت الضوء على عملية خطف الإرهابيين 90 أشورياً من قريتين من قرى نهر الخابور من دون أن يعرف مصيرهم، ويخشى أن يلقى الأشوريون في محافظة الحسكة المصير نفسه الذي لقيته الطائفة الأيزيدية في جبل سنجار في العراق الصيف الماضي، وقد قام تنظيم «داعش» مؤخراً بمصادرة ممتلكات الأشوريين الذين خُيِّروا بين إشهار إسلامهم أو الموت، فاضطر أكثر من 3000 أشوري إلى الفرار إلى مركز مدينة الحسكة أو إلى القامشلي حيث لجأوا إلى الكنائس للاحتماء بها من مسلحي هذا التنظيم الإرهابي، مع العلم أنّ عدد الأشوريين في سورية يبلغ نحو 30 ألفاً، يتحدر معظمهم من قرى «الخابور» الواقعة في محيط «تل تمر»، ولم يعد خافياً على أحد أنّ ما حدث ويحدث في ريف الحسكة الغربي على مرأى و مسمع العالم بأسره هدفه تهجير أبناء الوطن عبر ارتكاب الجرائم في حقهم وهذا لم ولن يحدث أبداً، فرجال القرى وشبابها ونساؤها يسطرون اليوم أروع ملاحم الصمود أمام مجرمي العصر الذين قتلوا الأبرياء و دمّروا المقدسات الدينية والمعالم التاريخية والمنازل، وهذه الممارسات ليست مستغربة أو مستهجنة، فنحن الآن نعيش في عالم تحكمه الجاهلية والشريعة المبنية على أساس القتل والكره وتكفير الآخرين باسم الدين، ومهما يتعالى شأن هؤلاء الظلاميين، فطالما أنهم لا يحكمون بالعقل فهم سيبقون أبناء جهل عمره 1400 سنة، وفوق هذا كله لم يقم إعلامنا باستغلال هذا الحدث لإدانة المرتزقة الدمويين من عناصر «داعش» والميليشيات الأخرى ومن ساندها من «إسرائيليي» الداخل.

لذا يجب علينا تسليط الضوء على تلك الجرائم من باب أنّها استهدفت مواطنين سوريين من قبل «داعش»، واستغلالها لتكون دليلاَ قاطعاَ من شأنه أن يحرج العالم أجمع، وخاصة الذين ما زالوا يصرّون على أنّ ما يجري في كياننا الشامي هو ثورة وليست حرباً إقليمية.

فمن هم أصحاب قرار التعتيم على تلك الجرائم؟ ولماذا تجاهل إعلامنا المقاوم ما يحصل في قرى ريف الحسكة الغربي وهو الذي استطاع بإمكانياته المتواضعة وجهود أعضائه وتضحياتهم أن يوصل حقيقة ما يجري في الشام إلى العالم كله، رغم الضغوط والعراقيل المتعمّدة التي وضعت في سبيله؟ وهل صحيح ما يُشاع بأنّ إعلامنا تجاهل هذا الأمر لأنه لا يريد إيقاظ فتنة طائفية ؟ أم أنن وقعنا ضحية الطائفية الوهابية الإرهابية، فلم نعد نتجرأ أن نتكلم عن شهدائنا أو مخطوفينا، فقط لأنهم ينتمون إلى الطائفة الأشورية أو إلى أي طائفة أخرى على اعتبار أنّ النظام هو حامي الأقليات فقط كما يشيعون؟ ألا يدرك إعلامنا أنه أدخلنا في حرب جاهلية عندما عتم الحقيقة وترك المجال مفتوحاً للإعلام المعادي لفبركة ما يشاء من أكاذيب وأضاليل؟ أليس شهداء ومخطوفو الحسكة سوريين أيضاً وعلينا تسليط الضوء على معاناتهم أسوة بأشقائهم من المحافظات الأخرى الذين ارتكبت في حقهم مثل هذه الفظائع؟ ألا يدرك القيمون على الإعلام أنّهم يثيرون الفتنة عندما يتجاهلون، متعمدين، مثل هذه الجرائم بحجة الطائفية؟ ففي النهاية هؤلاء الشهداء هم شهداء الوطن ونحن نفتخر بهم ونتشرف بشهادتهم على اختلاف طوائفهم و مذاهبهم و مشاربهم، لأنهم قدموا أنفسهم قرباناً على مذبح الوحدة الوطنية، وقد استشهدوا لتحيا سورية، ولكن حين يميز الإعلام بين الطوائف لن نكون حينها قادرين على درء فتن ستؤدي إلى زيادة الاحتقان الطائفي، وكأننا نسينا أو تناسينا أنّ الهدف من وراء هذه الجرائم هو تطهير كياننا الشامي دينياً وعرقياً ومذهبياً، وقتل كلّ من يرفض الأفكار المتطرفة للتنظيمات الإرهابية.

عندما يحارب الوطن بسلاح الطائفية، فليس من المجدي إخفاء الأمر إعلامياً، ألا تعرفون يا أصحاب قرار التعتيم على الجرائم والمذابح بحجج غير مفهومة وغير مقنعة، أنّ أهم الأساليب الحديثة في علاج السرطان تتطلب معرفة المريض بحقيقة مرضه ؟ ألم تتعلموا من تاريخنا العظيم أنّ الشعب السوري المؤلف من 19 طائفة، لم تستطع مؤامرات الفرنسيين و مجازر العثمانيين والمماليك ومن قبلهم تفتيت لحمته؟ ألم تدركوا بعد أنّ انتصارنا في المعركة الإعلامية يوازي انتصارنا في المعارك العسكرية؟

لم يتوقف الأمر هنا، فالإعلام السوري لم يسكت وهو يمارس التعتيم من خلال عدم الإشارة إلى ما جرى من جرائم في قرى ريف الحسكة فقط، حتى أنه لم يتطرق إلى المجازر التي حدثت منذ ما يقارب السنة في منطقة رأس العين في محافظة الحسكة حيث قتلت عائلات بأكملها، وعلينا ألا ننسى أيضاً المجازر والمذابح وعمليات الخطف التي حصلت في ريف اللاذقية الشمالي، على محور منطقة السلمى، جراء هجوم عناصر من «جبهة النصرة» على عدد من القرى القريبة من المنطقة وارتكابهم أفظع جرائم التطهير العرقي والديني، فيما يسمى معركة تحرير الساحل من قبل الإرهابيين المجاهدين في سبيل حوريات العرعور والقرضاوي، والذين قتلوا بدم بارد مئات الأبرياء من أطفال و نساء وشيوخ ورجال وشباب، حتى الأجنّة والحوامل لم يسلموا منهم، عدا عن الخطف الذي جرى في حقّ الأطفال و اقتيادهم إلى تركيا، وقد قالت المستشارة السياسية والإعلامية للرئاسة السورية بثينة شعبان في مقابلة مع «سكاي نيوز» بعد الربط بين ما حصل في الغوطة ومجازر اللاذقية آنذاك «إنّ الحكومة السورية ليست مسؤولة عن اعتداءات 21 آب التي ذهب ضحيتها 1400 شخصاً، بحسب التقديرات الأميركية، بل المعارضة التي قامت بخطف الأطفال والرجال من قرى اللاذقية وأحضرتهم إلى الغوطة وقامت بوضعهم في مكان واحد واستخدمت ضدّهم الأسلحة الكيماوية «.

فإذا قلنا إنّ تهميش السوريين في الساحل، حتى باتوا في عداد المنسيين وكأنهم لم يكونوا أكثر من مجرد وقود للحرب، كان عن قصد بحجة الطائفية والصراع الطائفي، لأنّ الطائفة العلوية محسوبة على النظام الحاكم، فعلى من حُسب سكان رأس العين؟ وعلى من سيحسب سكان قرى ريف الحسكة الغربي اليوم؟

من واجبنا كإعلاميين، تسليط الضوء على كلّ المجازر المرتكبة في حقّ كل السوريين منذ بداية الأزمة وحتى اليوم من دون استثناء، ومن أبسط حقوق ضحايا هذه المجازر الجماعية أن نعدل فيما بينهم أسوة بباقي أبناء هذا الوطن وأن نسلط الضوء على ما جرى في حقهم من جرائم يندى لها جبين الإنسانية. أليس الإعلام الوطني السوري صوت جميع السوريين، على اختلاف مذاهبهم و طوائفهم، وخصوصاً في هذه الظروف القاسية التي يمرّ بها هذا الشعب الصابر الصامد؟

صحيح أنّ سورية نقية بشعبها منذ التاريخ، ولكن علينا أن لا ننسى أنّ هذا النقاء فيه من الشوائب ما يجب علينا تنقيته، فلا يجب أن نؤجل محاسبة الفاسدين إلى ما بعد انفراج الأزمة وخاصة أصحاب قرار التعتيم على تلك المذابح التي حصلت في كياننا الشامي العظيم، لأنّ محاسبتهم هي جزء من عملية الدفاع عن نقاوة وطننا ولحمته الوطنية، وعلينا أن نعمل أيضاً على توجيه إعلامنا الوطني إلى مسارات أخرى تلائم المرحلة القادمة لتصبح سورية أنقى وأطهر مما كانت عليه، فبالإعلام الحر تحيا سورية.

الرحمة لشهداء الوطن، والخلود لطائفة السوريين جميعاً… «سورية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى