ثلاث مخرجات يبحثن عن الزمن المفقود في القاهرة

ضمن فعالية «أفلام لتوثيق القاهرة» التي أقيمت في آذار الجاري في العاصمة المصرية بالتعاون مع المطبوعة غير الدورية «مشاهد القاهرة»، عرضت ثلاثة أفلام تسجيلية طويلة على نحو متتال لثلاث مخرجات مصريات، وهي «جيران» للمخرجة تهاني راشد، «أحلام الزبّالين» لمي إسكندر، و«أريج الثورة» لفيولا شفيق.

اختيار «أفلام لتوثيق القاهرة» ثلاثة أفلام لتعرض في يوم واحد، لم يكن عشوائياً، فثمة رؤية يطرحها النص السينمائي الطويل الذي يتشكل من الأفلام الثلاثة، والقاهرة هنا مسرح للحوادث وليست الرابط الوحيد فهناك أيضا الزمن رابطاً وإطاراً للأفلام الثلاثة.

في فيلمها «جيران» 2002 ، تأخذ تهاني راشد الكاميرا، والصورة السينمائية في رحلة داخل سيارة تجول في أحياء جاردن سيتي ووسط القاهرة. لا تهدف الرحلة إلى اسكتشاف حي «غاردن سيتي»، بل تحاول رؤية ما كان موجودا قبل ثورة 1952، ذاك المفتقد والباعث على الحنين والنوستالجيا القاسية التي لا تملك تغيير الراهن ولا إعادة السابق.

الصوت الذي يبدأ به الفيلم يغرق في الحنين إلى مصر التي كانت مرتبطة بأوروبا في عهد الملك. وثمة أصوات أخرى تردّ عليه، تؤنبه أو تحرجه، ربما لأن مصر هذه «كانت طبقية جداً»، وربما لأن مصر «كان كل شخص يستطيع أن يكون مصرياً فيها بطريقته». لم تكن عادلة عهدذاك مع الجميع مثلما كانت عادلة مع هؤلاء وربما سخية أيضاً، ولا استطاعت أن تتحلى البتة بالعدل في ما بعد.

هذا الشريط السينمائي يحمل أيضاً أصواتا لا مبالية تتحدث كثيراً بالفعل الماضي، لكنها تفهم الزمن وصيرورته ولا تشعر بغضب حقيقي حيال عبدالناصر، ربما لأن في تجربته إيجابيات. يستطيع «جيران» أن يجد مساحة من الحرية الجمالية فيلتقط أصوات القطط التي تتلصص على فريق التصوير، وتحركاتها المتلازمة مع الفيلم: لدينا مثلاً صورة لقطة وكلب يتفرجان على العالم من النافذة. وداخل حدود السفارة الأميركية المرعبة للجميع في الخارج تتابع الكاميرا طفلة صغيرة تلهو بحرية تحت ضوء الشمس. مساحة الجماليّ ظاهرة، كأنما لا شيء أخذ منها، وقد يكون ذلك تفسيرا منطقيا لاختيار صناع الفيلم عدم جرح سطح الصورة بكتابة تذكر أسماء المتحدثين، رغم ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من إرباك للمشاهد.

لعلّ هذا الاهتمام بالجمالية الفكرة الوحيدة الراسخة في الفيلم، فحالة الحنين إلى مصر السابقة ليست مؤكدة، ففي مصر هذه عيوب قاسية. كل شخص في الفيلم يروي الحكاية من منظاره الشخصي. ستنطبق العبارة نفسها التي وردت في سياق الإدانة: «جميع الذين في هذه القصة ما كانوا عادلين». على الأقل نحاول أن نفهم الحكاية كاملة وليس على النحو الدافئ المفعم بالحنين من رواتها الذين يملكون زاوية ما. ولا يملكون الحقيقة. حالة الحنين هذه ستبدو بعد قليل فكرة بلا هوية، وستغدو حنيناً رومانسياً إلى زمن لا أحد واثقاً من وقوعه. إنه زمن مفتقد ربما لم يوجد أصلاً.

في شريط مي إسكندر، المخرجة الأميركية ـ المصرية «أحلام الزبالين» 2009 ، لا انشغال مباشر بالجماليات. يبدو الدخول إلى عوالم الشخوص الرئيسية، أدهم ونبيل وأسامة، هو الأكثر أهمية.

الحوار الذي سيطرحه «أدهم» مثلاً وهو يتكلم عن طبقات المجتمع وينسب نفسه وأسرته إلى الطبقة الثالثة، ويسميها «الهوْ» تنقذ الفيلم من مأزق الطرح المباشر لقضيته وهي أحلام هؤلاء. العالم الذي تدخله الكاميرا هنا يفقدها شيئاً من خصائصها بعد قليل، حين ننسى وجودها تماماً، ذاك الوجود الذي سيصبح ناقلا للعوالم التي لا نعرفها. تجري بالكامل في جانب آخر من الحياة له قوانينه وأزماته، عالم بسيط تمنح فيه أغنية عمرو دياب أملاً لأسامة المراهق الذي لا يجد باستمرار عملاً يناسبه «عشان مش صح نبقى ضعاف».

«الزبالة» ستكون جزءاً لا يمكن تجاهله من الكادر كل حين تقريباً. ستعمل على إعادة فهم منطق الجماليات أصلاً هنا. الحياة التي يعمل فيها المرء إلى جوار القطط والكلاب والدجاج هي نفسها التي تضمّ مدرّسة إعادة التدوير التي تعلم اللغة الإنكليزية، وأحلاماً بسيطة بالارتباط ببنت «مش أنانية» لأسامة، وهي الحياة نفسها التي ستهب أدهم حلماً بالهجرة والحياة في ويلز.

التساؤلات الوجودية العميقة عن معنى الخير والشر مثلاً، أو عن التحقق، سوف يردّ عليها الأبطال ببساطة شديدة، فأزمتهم تنحصر في الشركات الأجنبية التي أتت وتسلّمت رسميا عملهم الذي يزدريه المجتمع أصلاً: «ربنا مش ممكن ينسانا». ورغم أن الفيلم لا ينتهي بحل حقيقي لمسألة عمل الشركات الأجنبية في مصر فإنه لا يخلو من مشاهد مداعبات هانئة مع الأطفال، ومن معارك على ألوان الطعام المحدودة. والأغاني التي تشكل معنى ما في حياة أبطال الفيلم تمنحهم رقصة في المشهد الأخير من الفيلم ببهجة كاملة. إنهم يأملون في العودة إلى زمن ما قبل الشركات الأجنبية، الزمن الذي لم يكن طيباً معهم، لكنه يضمن على الأقل استمرار الحياة.

إذا كان الفيلمان السابقان يرسمان صورة لمصر قبل ثورة يناير، فإن «أريج» لفيولا شفيق أنتج عام 2014، ليس بعد الثورة فحسب، لكن أيضا بعد سيل من الحوادث غير المتوقعة منذ خلع مبارك.

كانت «فيولا»، راوية الفيلم، في صدد تنفيذ عمل عن حكاية صورة فوتوغرافية قديمة للمصور عطية جديس، يظهر فيها الأشخاص الذين يتمّ تصويرهم كهدف في ذاته، من دون أن يكونوا معياراً لإبراز الآثار، مثلما فعل المصوّرون الأجانب الآخرون في رؤية «فيولا»، لكن ما حدث من اندلاع الثورة وانتفاضاتها المتلاحقة جعل الفيلم يأخذ منحى آخر. ثمة تشظٍ يبدو من بعيد، على أكثر من خط في الفيلم. «فرنسيس» محارب يحاول جمع ما تبقى من ذاكرة تعمل على هدمها الحكومة بإصرار، وما يحدث في الأقصر بعد الثورة من فقر مرعب، وتهديد بالحبس والاعتقال، وحوادث انتحار. أيضاً «عواطف محمود» مصممة الغرافيك الإسلامية التي تعمل على برنامج إلكتروني، يبني حياة ثانية بديلة من الطراز الأصولي الذي يرضي الجماعات المحافظة في السياحة، وهناك حوار طويل متقطع في الفيلم مع الأديب علاء الديب الذي يقرأ فصولاً من روايته «زهر الليمون» توصّف كل ما يحصل في الفيلم ببساطة مؤلمة.

الخيوط المتفرقة تشكّل نسيجاً يوثق اللحظة في «أريج» المشحون عاطفياً، ليس بروح ثورة تحارب الجميع وحيدة فحسب، بل أيضاً بمشاهد البطش والحرق والذبح. مشاهد فض تظاهرة رابعة، وسحل الشابة وتعريتها من قبل أفراد الجيش. الآني كلّه الذي يتحدث عن الثورة التي لا يستطيع أحد أن ينهبها، كأن الفيلم يتنبأ بزمن جديد لا تعرف منه إلاّ الذاكرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى