خفايا الصراع في عبثية المشهد اليمنيّ…!

سومر منير صالح

مع اندلاع حرب الخليج الرابعة على أراضي الجمهورية اليمنية، بدت معها الأسباب والدوافع ضبابية، وذرائعية، وكثر الكذب والتضليل الإعلامي، وحملت معها أسئلة حول الدوافع الحقيقة لما حدث، لنتأمّل قليلاً المشهد الفوضوي في «الشرق الأوسط»، والارتباك الأميركي الحاصل في إدارة الصراع على كامل الساحات المتوترة فيه، حيث تعدّدت الاستراتيجيات الأميركية في المنطقة عبر مراحل زمنية متعاقبة، والهدف بقي مستقراً نسبياً، وهو ضمان تدفق النفط الخليجي إليها وإلى الغرب، وضمان أمن «إسرائيل»، ومنع التوسّع الروسي في «الشرق الأوسط»، بدءاً من استراتيجية ملء الفراغ إلى استراتيجية الاحتواء المزدوج، إلى استراتيجية الدخول العسكري المباشر، لتنتقل بعدها إلى استراتيجية «الفوضى الخلاقة»، والتي تقوم على فكرة الهدم الكامل لكيانات «الشرق الأوسط»، سياسياً وثقافياً وحضارياً، وإعادة تشكيلها طائفياً وعرقياً بما يخدم مصالحها الحيوية، وتصبح معها «إسرائيل ـ لدولة اليهودية كياناً طبيعياً في شرق أوسط جديد كياناته السياسية دينية وعرقية وحتى مذهبية».

ظلت تلك الاستراتيجية سارية المفعول في الشرق الأوسط مع اندلاع أحداث الخريف العربي، انطلاقاً من تونس ومصر وليبيا واليمن، ولكن مع بداية ربيع العام 2011 العام الأول للحدث السوري ، حصلت تغيّرات مهمة غيّرت معها العقلية الأميركية في التعاطي مع «الشرق الأوسط»، بدأت أولى تلك التغيّرات في اكتشاف واستثمار الاحتياطات الهائلة في النفط الصخري في الولايات المتحدة الأميركية، ومعها باتت أكثر قرباً من كسر الهيمنة السعودية على سوق النفط العالمي بحلول العام 2017، إضافة إلى حصول تغيّرات في بنية النسق الدولي متمثلة في إعادة تشكيل هذا النسق لتصبح معه روسيا ومن خلفها الصين قوة ثانية في النظام الدولي، مستفيدة من موقفها من الأزمة السورية بداية، ومن استعادة شبه جزيرة القرم لاحقاً، ومن حصول تغيّرات جيوبوليتيكية في الممرات المائية العالمية كقناة نيكاراغوا الجديدة وكرا والقناة القطبية الشمالية، الأمر الذي بدأ يهدّد القيادة الأحادية للنظام الدولي، وأعطى حرية تجارية أكبر لكلّ من روسيا والصين…

أجرت الولايات المتحدة تقييماً لوضعها في «الشرق الأوسط»، وقررت نقل مركز الثقل في السياسة الخارجية الأميركية باتجاه الشرق والوسط الأسيويين، وكان لزاماً عليها تصفية الملفات المأزومة في «الشرق الأوسط»، وبدأت تتخذ الحوار وسيلة لحلّ مشاكلها العالقة، فكان الاتفاق الكيميائي السوري في العام 2013، وهو نتيجة مباشرة للحوار الروسي – الأميركي، والحوار وسيلة لحلّ الملف النووي الإيراني متجسّداً في «جنيف 1» الإيراني، ثم مفاوضات لوزان المستمرّة حتى الآن وسيلة لإنجاز الاتفاق…

هنا استشعرت مملكة آل سعود الخطر، فبدأت تتصرّف بتوتر في العلاقة مع الحليف الأميركي، في محاولة لجعله يرضخ ليس تحدياً بل محاولة لتوريطه أكثر في «الشرق الأوسط»، حيث يشكل الوجود الأميركي حجر الأساس في ضمان أمن الممالك الخليجية، فعمدت إلى خفض سعر البترول إلى ما دون 55 دولاراً، في محاولة منها لوقف الإنتاج الأميركي في النفط الصخري، والذي ترتفع تكاليف إنتاجه إلى أعلى من هذا الرقم، مما يعيد الاعتمادية الأميركية على المملكة من الناحية النفطية، وفي الوقت نفسه هو ضربة موجهة إلى الاقتصاد الروسي لإقناع الإدارة الأميركية بأنها حليف استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه، أيّ كنوع من تقديم أوراق الاعتماد مجدداً، هذه السياسة وإنْ حققت أهدافاً ضدّ روسيا، إلا أنها أنعشت اقتصاد الصين بما يزيد الضغوط على الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأقصى… وبدأت المملكة في محاولة إجهاض كلّ التسويات في المنطقة بدءاً من جنيف السوري وجنيف الإيراني وانجاز انتخابات الرئاسة اللبنانية والحوار الليبي… وباتت سياساتها تهدّد المصالح الأميركية على المستوى الاستراتيجي، فاستمرار الغرق في أزمات «الشرق الأوسط» سيفقد الولايات المتحدة السيطرة على أماكن باتت أكثر حيوية بالنسبة إليها، نتيجة الظهور الروسي ـ الصيني القوي على المستوى الجيوبوليتيكي العالمي… فبدأت الولايات المتحدة تعيد تقييم الدور السعودي الجديد في المنطقة، وقرّرت اتباع استراتيجية مزدوجة تنهي معها حالة التوتر السعودي، وفي الوقت نفسه تكبّل المملكة بأثقال الصراعات بما يستنزف المملكة ومعها دول النفط العربية، لصالح العوائد الاقتصادية المرجوّة، فقرّرت العودة إلى سياسة الاحتواء المزدوج لأطراف الصراع، في سيناريو مشابه لحرب الخليج الأولى، فعمدت إلى سحب القوات الأميركية من قاعدة «العند» الجوية وتسليمها إلى حركة «أنصار الله» في إشارة ضمنية إلى موافقة أميركا على إسقاط الرئيس عبد ربه منصور هادي، وهو سيناريو كانت قد اتبعته الولايات المتحدة إبان غزو نظام صدام حسين للكويت، حيث أعلنت السفارة الأميركية في العراق آنذاك عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للبلدين، ما نتج عنه لاحقاً الغزو الأميركي للعراق، وبالتزامن مع هذا الكلام قامت الولايات المتحدة بالتنسيق لوجستياً واستخباراتياً مع المملكة السعودية لضرب اليمن في محاولة منها تحقيق جملة من الأهداف…

أولاً: رفع أسعار النفط العالمية الناتج عن التهديد الحوثي المزعوم بالسيطرة على باب المندب، والقلق الدولي من تطوّر المعارك في المملكة، وإمكانية نقل المعركة إلى الداخل السعودي، محققة بذلك عودة نجم النفط الصخري مجدّداً، وتقليل الاعتمادية الأميركية على النفط السعودي، ورفع الاعتمادية العربية الخليجية على واردات السلاح الأميركي، وهو ما حدث فعلاً… ففي اليوم الأول للضربات الجوية قفزت أسعار النفط 5 في المئة.

ثانياً: رفع مستوى التوتر السني – الشيعي في المنطقة بما يضع المصالح الإيرانية في «الشرق الأوسط» في مواجهة حلف عربي ـ إقليمي «سني»، تكون معه تلك المصالح في خطر دائم، ومعه تكون المزايا الاقتصادية المقدّمة من أميركا إلى إيران في آسيا الوسطى أكثر منفعة، بذلك تحاول الولايات المتحدة إبعاد إيران عن الحليف الروسي ومحققة استراتيجتيها في آسيا لوسطى، وهو ما سنرى دلالاته المباشرة في أفغانستان…

ثالثاً: ومع بداية حرب الخليج الرابعة أضحت القضية الفلسطينية أجندة متأخرة على أولويات العرب، ومعها تصبح «التسوية» مع «إسرائيل» أقلّ تكلفة وأكثر جدوى لـ«إسرائيل» في ظلّ الاستراتيجية الأميركية التي عبّر عنها أوباما بقوله إنّ أمن «إسرائيل» في تحقيق السلام.

رابعاً: خلق بؤرة للصراع تكون ساحة جديدة لتجميع إرهابيّي العالم إذا ما تمّ التوافق الروسي ـ الأميركي مستقبلاً على حلّ ما للأزمة السورية.

طبعاً هذه السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة يمكن تسميتها بـ«العبثية المنظمة»، وهي ليست استمراراً لاستراتيجية «الفوضى البناءة»، لأنها لا تعتمد على خطط لبناء كيانات جديدة، منبثقة عن نتيجة محتملة للصراعات، بل استمرار بؤر الصراع على فترات زمنية طويلة، بما يضمن الاستنزاف المستمرّ لدول تلك المنطقة… ويمنع قوى دولية من الاستفادة مما تبقى من ثروات في دول هذه المنطقة، ومعه تبقى «إسرائيل» في مأمن من أيّ خطر وجوديّ، بل من المحتمل تحوّلها إلى وكيل السلاح الأميركي… وحليف جديد لـ«التحالف العربي» في حرب الخليج الرابعة، في مقابل تهديد مزعوم لإيران نووية تكون «إسرائيل «في مواجهتها، وعلينا ألا نستغرب هذا الكلام فالانحطاط العربي وصل إلى مرحلة لا نستطيع معها رفض أيّ سيناريو مستقبلي.

باحث بدرجة الدكتوراه

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى