مختصر مفيد … اليمن يكتب تاريخ العرب

ليست أحجام الدول التي تقرّر مكانتها في كتابة التاريخ، بل حجم تأثيرها في صناعة الأحداث الكبرى التي يصنع تراكمها الخط البياني المعبّر، عن اتجاه التاريخ. والقصد هنا ليس موقعها الموضوعي أي ما تشهده من تطوّرات كبرى، بل ما تصنعه بفعلها الذاتيّ، الواعي الخاضع لسيطرة قيادة ورؤيتها، قيادة تحمل مشروعاً وتملك مصادر قوّة لوضعه تحت الضوء.

كتب لبنان مرّتين تاريخاً جديداً للمنطقة والعرب، يوم التحرير عام 2000، وفي يوم النصر عام 2006. وكتبت سورية ومصر تاريخ العرب والمنطقة عام 1973. وكتبت سورية بصمودها تاريخ العرب، بإسقاط ثلاثة مشاريع معاً أو تباعاً، مشروع الأخونة، ومشروع التفتيت، ومشروع الإخضاع. وفتحت الباب للتاريخ مرّة أخرى ليكتبه اليمنيون بإسقاطهم الحقبة السعودية.

أسقط حزب الله الحقبة «الإسرائيلية»، بإكماله المسيرة التي بدأها المقاومون العرب خصوصاً في فلسطين ولبنان، وبإكمال مسيرته بحلقتيها، إسقاط «إسرائيل الكبرى» القائمة على التوسّع والاحتلال، ثمّ بإسقاط «إسرائيل العظمى» القائمة على الردع ومقايضة الأمن بالنفوذين الاقتصادي والسياسي. وأسقطت سورية الحقبةَ العثمانية، بمواجهتها المفتوحة مع مشاريع التسلل من البوابة التركية، مشروع الاستتباع للهمينة الأميركية وإطاحة القرار الوطني المستقل للدولة السورية، ومشروع تنصيب معارضات تحت الإبط التركي مقيمة في اسطنبول بقوّة التدخلات الأجنبية والمال والاستخبارات والقتل والتدمير والفتن. ومشروع «داعش» و«النصرة» بمرجعيتهما التركية، ورهان الفوضى وصولاً إلى وضع اليد. إنما بقيت السعودية، التي كانت من وصف المقاومة بالمغامِرة، التي يجب أن تدفع الثمن على مغامرتها في حرب تموز 2006، ومن وضع كلّ ثقل ماله واستخباراته وقدرته على تجنيد تنظيم «القاعدة» لإسقاط سورية، حتى صارت قضية سورية قضية حياة أو موت بالنسبة إلى الأسرة الحاكمة في السعودية.

كان كل شيء يقول في المنطقة إنّ العرب لن يدخلوا الاستقرار، ولن يعرفوا فرصاً حقيقية لبناء دولهم الوطنية، من دون أن يتلقى حكام السعودية صفعة تهزّ كيانهم، وتضعهم في الحجم الذي يتناسب مع ما يمثلون من حجم في الاستراتيجيات والجغرافيا السياسية، لا بحجم المال الذي يقدرون على إنفاقه. خصوصاً في الكواليس السوداء لشراء قدرات دول عظمى كفرنسا وبريطانيا وتجييرها لتخديم سياساتهم، فكان اليمن.

في اليمن كان كل شيء يقول إن المعركة الفاصلة ستدور رحاها هناك، وهناك سيتقرّر مصير الحقبة السعودية، التي أفسدت الثقافة والإعلام والسياسة والدين، وحوّلت النخب إلى مرتزقة، من رتب قادة جيوش وما دون ورؤساء دول وما دون، وأئمة وقادة الفقه، ورؤساء أحزاب وأصحاب مؤسسات الإعلام، وأصحاب الأقلام.

كان العالم يتهيّأ لملاقاة التفاهم النووي الإيراني، وكان لحلف الخاسرين رهان مزدوج، ماذا ستفعل «إسرائيل» وماذا ستفعل السعودية؟ فعلت «إسرائيل» ما بيدها، فكانت غارة القنيطرة، وكانت عملية مزارع شبعا، وفرض ميزان الردع الموسع، لتطاول مظلته الجبهتين اللبنانية والسورية. وجاء دور السعودية، فأعلنت «عاصفة الحزم»، ولأنها امبراطورية مال ونفط لا ينضبان، جهّزت حملة امبراطورية، لا تتناسب مع الهدف، اليمن المسكين، ودارت رحى الحرب. وتلقى اليمنيون بأجسادهم النحيلة نيران القنابل الفوسفورية والفراغية، وقرّروا الموت لا المذلّة، وهيهات منّا الذلة، فكان النصر حليفهم، وأُعلِن فشل العاصفة.

اليمن يُنهي أسوأ حقبة سوداء في تاريخ العرب. فزمن التسويات الآتي، سيحمل الوقائع التي تجعل فرص الشعوب في سورية والعراق ولبنان ترسم بأيديها معادلاتها. وقد ولّى زمن الوصاية والهيمنة، ولو بقي التابعون تابعين، ولا يريدون تصديق أنّ ما تغيّر قد تغيّر، وما كُتب قد كُتب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى