تقاطعات مصالح ومواقف حيال الحرب في اليمن… محورها موسكو

خضر سعاده خرّوبي

تبدو فضاءات المنطقة مشبعة عن آخرها بخطاب الشحن الأيديولوجي الطائفي والقومي، وقد ساهمت حرب السعودية على اليمن في إذكاء مناخات التصعيد بين محاور المنطقة المتصارعة أكثر فأكثر، على رغم إعلان قيادة التحالف الذي تتزعمه السعودية إنهاء «عاصفة الحزم» بزعم تحقيق العملية لأهدافها. ولم يكن غريباً في حالة اليمن، كما هي الحال في كثير من الحالات المماثلة، سكوت المجتمع الدولي عما يحدث هناك من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وللقواعد القانونية الدولية التي تحكم النزاعات المسلحة، وكان مستغرباً، وفق متابعين، امتناع روسيا عن التصويت على مشروع قرار خليجي في مجلس الأمن وجد طريقه إلى النفاذ تحت الرقم2216 مشرعاً تلك الانتهاكات.

في المنطقة، هناك ميل لدى البعض إلى تناول الموقف الروسي بالنقد والاستهجان واضعين إياه في خانة «بيع وشراء مواقف» وغزل مستجد بين الرياض وموسكو، بعد مضي أسابيع على هجوم وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل على مواقف روسيا التي أرسل رئيسها فلاديمير بوتين رسالة عرضت خلال القمة العربية الأخيرة في مدينة شرم الشيخ. وفي موسكو، لهجة ومنطق يولي الصداقة حقها ولا يقلل من شأن توازنات المصالح و«البراغماتية السياسية». ليس ثمة من ينكر أن ّمحدّدات الدور الروسي الراهن تقرأ بفهم بالغ لغة العصر وتنطلق في أحيان كثيرة، لا سيما في منطقة ملأى بحقول الألغام السياسية كالمنطقة العربية بما تستدعيه من حذر رست عليه «بريسترويكا بوتين» منذ عام 2008، من اعتبارات قد تتعدّى مجرد الصداقة أو الدعاية الأيديولوجية كما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة.

فسياسة موسكو الشرق أوسطية الراهنة، على نحو ما تذهب إليه المعلقة السياسية في وكالة «نوفوستي الروسية ماريانا بيلينكايا، «لا تعدو عن كونها وسيطًا لبقًا بين أطراف متنازعة، وإنّ غايتها ليست المواجهة مع أي طرف من أطراف الصراع، وإنما تحقيق الاستقرار هناك، وهي سياسة تختلف تماماً عما يدور في خلد دول المنطقة». ووفقاً لأوساط دبلوماسية متابعة، من غير المستبعد أن يكون الموقف الروسي بالامتناع عن التصويت جزءاً من بوادر «تخريجة حلّ»، وقد عبر نائب وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان، بدوره، عن أمله بالاقتراب منها قبل ساعات قليلة من إعلان قيادة تحالف «عاصفة الحزم» عن ذلك.

وتعيد تلك الأوساط إلى الأذهان تجربة صيف 2013 حيال ملف «الكيماوي السوري». من هذا المنطلق، واستناداً إلى عِبر «الدرس الليبي»، يرفض محللون روس أي كلام عن دور روسيا «التعطيلي» على صعيد ملفات منطقة الشرق الأوسط من خلال استخدامها لحقّ النقض «الفيتو» الذي امتدح وزير الخارجية الروسي لافروف «محاسنه» قبل أيام في رسم ملامح أولية لحلّ سياسي في سورية.

ومن راقب حركة الديبلوماسية الروسية مؤخراً التي تتقاطع عندها مصالح محاور متصارعة، يدرك حجم الدور المنوط بموسكو في التوصل إلى حلّ لمعضلة «اليمن السعيد». فعلى امتداد الأسابيع الماضية، أرسلت عاصمة القياصرة إشارات طمأنة في كلّ الاتجاهات، فأفرجت عن صفقة صواريخ S- 300 للدفاع الجوي المجمّدة منذ عام 2010، وسهّل موقفها «الممتنع» تمرير مشروع القرار الخليجي في مجلس الأمن، فضلاً عن جملة اتصالات وزيارات على خط موسكو وعواصم إقليمية مختلفة كطهران والقاهرة.

في هذا السياق، تأتي أهمية المبادرة السعودية في التواصل مع القيادة الروسية وشكر موقفها في خصوص الوضع في اليمن، وهو ما انتهزه الكرملين لدعوة العاهل السعودي لزيارة موسكو. تفاعل المواقف هذا سبقته قبل يوم من التصويت على مشروع القرار الخليجي في مجلس الأمن تأكيد الرياض استعدادها للمساهمة في إعادة الاستقرار إلى سوق النفط بمشاركة الدول الرئيسية المصدرة له وتحسين أسعاره وأنها لا تستخدم البترول لأغراض سياسية.

وكما بات معلوماً، فإنّ روسيا المولعة بإبقاء درجات الحرارة دون مستوى الانفجار في الشرق الأوسط الحيوي لها، لا تتردّد في لحظة ما تشتد فيها المخاطر على هذا الصعيد في الابتعاد عن «كباش» الاصطفافات الحادة والاقتراب خطوة في اتجاه الطرف المقابل. وهذا ما تبدّى في مجلس الأمن عشية استصدار القرار 2216، والشواهد على ذلك ماثلة في الحالتين السورية والإيرانية. وفي حين تذهب بعض التحليلات إلى القول بمرتبتين من الحروب: فهناك الحروب الإقليمية التي تنطوي على مواقع للنفوذ الاستراتيجي والمصالح، فيما تندرج الأخرى تحت مسمّى الحروب الموضعية التي تقبل التعايش مع درجة محتملة من التهديد للنفوذ والمصالح. فإنه، وبالنسبة إلى الروس، قد يعبر النموذج الأول عن واقع الحال في سوريا ذات الخصوصية الفائقة لهم، فيما يأتي الوضع في اليمن تحت خانة النموذج الثاني من الحروب بما يعنيه هذا البلد على خارطة السياسة الخارجية لكلّ دولة من الدول الإقليمية والكبرى انطلاقاً مما تمثله الديمغرافيا والجغرافيا اليمنيتان من خانة اهتمام عالمي معقدة محكومة بتعايش الأضداد.

مع كلّ ذلك، تستمر فصول «الحرب الباردة» بين طهران وواشنطن، سواء عبر التصريحات، أو عبر تحريك القطع البحرية باتجاه بحر العرب ومضيق باب المندب على مقربة من السواحل اليمنية، بينما تضطلع روسيا بدورها على خطوط التماس. إيران تحذر الرياض من تبعات «حزمها»، وواشنطن تلعب دور «البطل الخفي» في الحرب ويتراوح موقفها بين «الصمت المتواطئ» وبين اتهام إيران بالتدخل في شؤون اليمن. ومع بلوغ مشروع القرار الخليجي في مجلس الأمن «سكة السلامة» داخل أروقة المنظمة الدولية، خرجت مبادرة إيرانية إلى النور أيدتها روسيا، وبدأ الغمز واللمز حول اسم العاصمة المقترحة أو «القابلة القانونية» المخولة توطيد وتوثيق التفاهم بين اليمنيين.

حتى الآن، وفي ظلّ انسداد الأفق الميداني والسياسي أمام حربها على اليمن، لا تجد السعودية بديلاً من استكمال تصعيدها هناك إلا بالمزيد منه. التطور البارز، عبّر عنه المتحدث باسم حركة «أنصار الله» الذي حذر جيشي باكستان ومصر من التدخل البري في بلاده، وهدّد بالردّ عسكرياً في حال استمرت غارات تحالف «عاصفة الحزم» هناك. وبعيداً من الإعلام، فإنّ الشعور بالمرارة سعودياً لا يمكن إخفاؤه، إذ أنه بدا واضحاً أنّ حسابات الرياض لدى إعلان «عاصفتها» تختلف عما هي عليه الآن في ضوء ما تراه تردّداً أو خذلاناً من قبل من راهنت عليهم «وقت الشدة». وهي، من هذا المنطلق، لا شك تبحث عن سبيل ينجح في إنزالها عن شجرة مواقفها المكابرة، وهذا ما كان متوقعاً في أعقاب إصدار مجلس الأمن للقرار 2216. بانتظار ما ستتكشف عنه المساعي والاتصالات الجارية في هذا الخصوص، فالرهان المنطقي يبقى في إنضاج حلّ سياسي بثمن مقبول لدى الأطراف الإقليمية والمحلية المتصارعة ببعد دولي، وإلا فإنّ المنطقة مقبلة على تصعيد خطير، والآتي أعظم. نأمل بألا تذهب المنطقة إلى جحيم من بوابة اليمن. أمام موسكو مهمّة صعبة، وهي ما زالت تتلمس الطريق إلى الحلّ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى