المرض وعوارضه… والمادة الملعونة

د. نسيب أبوضرغم

تشكل دراسة البنية السوسيولوجية للمجموع اللبناني مدخلاً حتمياً لفهم الأزمات كافة التي عصفت بكيان الدولة ومجموع اللبنانيين، وعلى الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية كلّها. أحد هذه العوارض هو انشطارية المجموع اللبناني، وتكاد تكون حول كلّ المسائل الأساسية، إذ ظهر هذا الانشطار وكأنه جزء من شروط كينونة اللبنانيين.

ثمة بنية سوسيولوجية للبنانيين معيوبة، ولقد غاصت جذور هذه البنية عميقاً في حياة اللبنانيين، فمسختها بصورة تشبهها، وأقفلت عليها كلّ إمكانات التحوّل إلى أية صيغة وحدوية.

يضخ لنا المرض كلّ يوم كمّاً من الأعراض، فتغرق مؤسساتنا الدستورية والنظامية والأهلية بمعالجة هذا العارض، والمصيبة ليست عند حدّ الغرق في العارض، بل باعتباره المرض الأساس، وهذا ما يغيّب حقيقة المرض الأساس عن العقول والحلول.

كثيرون هم اللبنانيون الذين يعتبرون أنّ المنتدب الفرنسي هو المسؤول أساساً ومبدئياً عن هذا الانشطار الطوائفي المذهبي القاتل لكلّ وحدة مجتمعية لبنانية، وأنا شخصياً كنت واحداً منهم. إلا أنّ الحقيقة التاريخية تقول عكس ذلك تماماً، ذلك أنّ المنتدب الفرنسي حاول مرتين أن يضع قانوناً للأحوال الشخصية مدنياً على مثال القانون الفرنسي، ولكنه فشل في ذلك. ونظراً إلى كون هذا الموضوع يشكل أساساً أولياً لجميع مآسينا الوطنية، وأعني به، الانشطار العمودي الطائفي – المذهبي، لا بدّ من وضع الحقيقة والمادة العلمية المتعلقة بهذا الأمر، وذلك، وضعاً للأمور في نصابها، وإضاءةً على حقيقة مأساتنا.

إنّ النص القانوني الذي ينظم الأحوال الشخصية في لبنان هو القرار الصادر عن المندوبية الفرنسية رقم 60/L.R تاريخ 13 آذار 1936، والذي أدخلت عليه تعديلات مهمة بالقرار رقم 146 تاريخ 18 تشرين الثاني 1938، وهما قراران موقعان بإمضاء الكونت دو مارتيل، المندوب السامي للجمهورية الفرنسية في سورية ولبنان. وللأمانة العلمية، فإنّ هذين القرارين، كانا قد صدرا لتنظيم أوضاع الطوائف المسيحية، فضلاً عن أنّ الطوائف الإسلامية التي صدرت بشأنها نصوص خاصة منذ الاستقلال، لم تخرج روح القرار 60/L.R المشار إليه، لجهة اعتبار الطوائف والمذاهب مكوّنات قضائية قائمة بنفسها، لها نظامها القضائي المستقلّ في ما يتعلق بأحوالها الشخصية.

المهمّ في الأمر، معرفة المقدّمات التي وقعت قبل إصدار القرار 60/ L.R. إنّ عملاً إعدادياً جدياً حصل قبل صدور القرار المذكور عام 1936 وتعديله عام 1938. فمنذ 1924 كان الجنرال ويغان قد كلف لجنة مؤلفة من بعض مستشاري المندوب السامي، بإعداد مشروع قانون مشترك للأحوال الشخصية. فوضعت اللجنة مشروعاً أولياً عُرض على ممثلي الطوائف الذين أجمعوا على رفضه بحجة أنه يحدّ إلى حدّ كبير من «الحصانات والامتيازات»، التي تتمتع بها الطوائف منذ قديم الزمان صحيح أنها امتيازات وحصانات لزعماء الطوائف الدينيين وليس للطوائف .

«ثمّ كان هناك مشروع آخر، في عهد المندوب السامي هنري دو جوفنيل صدر بقرار رقم 261 تاريخ 28 آذار 1926، وكان هذا المشروع يعهد إلى المحاكم المدنية أمر البت بالنزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية، ويجعل صلاحيات المحاكم المذهبية، بما فيها المحاكم الشرعية، وقفاً على الأمور المتعلقة بالزواج من عقد ونفقة وفسخ وكان من المفترض أن يستكمل هذا الإصلاح بتقنين عام للقوانين الطائفية، عبر وضع تشريع مدني للأحوال الشخصية ولمؤسسة الزواج المدني، ولكن الاحتجاجات التي صدرت عن جميع الطوائف، كانت من الشدّة بمكان بحيث اضطر ممثل الانتداب إلى إلغاء القرار بفترة وجيزة من صدوره1».

أوردنا النص كاملاً، ليدرك شباب لبنان، أنّ مكمن العلة هي في نفوس الذين يفرضون أنفسهم على اللبنانيين، ويصادرون أحوالهم الشخصية، ويدّعون النطق باسمهم، تماماً كما ادّعوا أمام المندوب السامي الفرنسي.

الذي يتمعّن بقراءة النص، يدرك أنّ ما قرّره المندوب السامي سواء ويغان أم دو جوفنيل، كان صمّام أمن لوحدة المجتمع اللبناني، وبالتالي مانعاً أساسياً لكثير من المصائب والمآسي التي نزلت باللبنانيين على مدى تاريخهم الحديث. من دون أن يعني ذلك اعتبارنا للانتداب أنه حالة مطلوبة لنتصوّر المندوب السامي، يصرّ على وضع تشريع مدني للأحوال الشخصية، ولمؤسسة الزواج المدني، فيواجه من مغتصبي الحقوق المدنية الأحوال الشخصية للبنانيين، وأعني بهم القيّمين على المؤسسات القضائية المذهبية المتعلقة بالأحوال الشخصية.

لنتصوّر ذلك، ونرى واقعنا بعد مرور واحد وتسعين عاماً على قرار المندوب السامي ويغان، لنرى كيف أننا، وبعد هذا الوقت يقارب قرناً بحاجة إلى أنهار من الدماء، ولن نكون متأكدين من الوصول إلى القاعدة المدنية التي وصفها ويغان ودو جوفنيل.

إنّ تشقق الوحدة الاجتماعية لدى اللبنانيين، أساسها ذلك القرار 60/L.A، الذي رسّخ عيباً اجتماعياً – نفسياً في المجموع اللبناني، وكانت لرسو هذا العيب نتائج خطيرة، حيث أصبح بحدّ ذاته قاعدة مسلّماً بها وأساساً لا نقاش حوله لكن البنيان اللبناني، سواء منه التربوي أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، والأخطر في الخيارات السياسية ذات العلاقة مع الخارج.

منذ تسعين سنة، ونحن نتخبّط بعوارض المرضى، منذ ذلك الوقت وضع بيننا وبين الخروج من وطأة قرار الموت 60/L.R ، محرّمات وممنوعات لها حراسها والمدافعون عنها، ولكن المهمّ الإشارة إلى أنّ أشرس هؤلاء الحراس هم حفنة من اللبنانيين، يجمعهم تحالف حيوي يساوي وجودهم يتمثل بالإقطاع المالي والسياسي من جهة والمرجعيات الطائفية والمذهبية من جهة ثانية. تحالف، ضحيته هذا الوطن الجميل لبنان، وهذا الشعب المحقون بمخدّر المذهب والطائفة والمُغيّب عن الوعي الوطني والفكر المدني.

كفى، صار من الحيوي جداً، أن تخرج القوى المدنية والعلمانية كافة من أصفادها، وتنهض من قعودها، فثمة مخطوف، ومضى عليه ما يقارب القرن وهو مخطوف لدى هذا التحالف البشع. كفى، فقد آن الأوان لإزالة الغشاوة عن أعين الشباب اللبناني، وإسقاط هذه الأقنعة التي ما انفكّت تخدعنا منذ قرن من الزمن.

مندوب سام بعد أربع سنوات من إعلان «دولة لبنان الكبير» 1924، وآخر بعد ست سنوات، يقرّران إخراجنا من دائرة المرض، و»حكومة استقلالية» في أول بيان وزاري لها، تفخخ الدستور، وتمسخ روحه المدنية – العلمانية وتدسّ فيه كمّاً من السمّ… المادة 95 لتسمّم كامل حياتنا الوطنية ولتؤسّس لكلّ المحن والحروب والأزمات التي مرّت على هذا البلد المنكوب.

هل سجل التاريخ مرة، أنّ المستعمر كان أرحم بالشعب المُستَعْمَر من «أبطال استقلاله» لنعلن جميعاً المادة 95 من الدستور مادة ملعونة.

1.د. إدمون رباط التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري الجزء الأول ص 165-

منشورات الجامعة اللبنانية بيروت 2002

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى