حلول عملية للحدّ من الشهية

فادي عبّود

كنا قد ذكرنا مراراً بأنّ حيتان المال ليسوا وحدهم في سوق النخاسة اللبناني، نعم هم أصحاب الاحتكارات المتوارثة من أيام العثمانيين، وأصحاب الألقاب التي سخى عليهم بها المحتلّ، ولكن الحاقد الاقتصادي كان دائماً يغضّ النظر عن «بيرانا» المال، أيّ آلاف المرتشين منهم في القطاع العام، ومنهم كثر أيضاً في القطاع الخاص من أصحاب الاحتكارات على أشكالها وأنواعها. ويركز الحاقد فقط على الحيتان، وعلى ذكر البيرانا… مرفأ بيروت على البحر والبيرانا لا تعيش إلا في المياه وتسبح بأعداد كبيرة تسمح «بنتش» جسد خلال بضع دقائق وتحوّله إلى هيكل عظمي.

معالي وزير المالية وككلّ الوزراء السابقين لاحظ حجم المشكلة، ولكن تميّز عن بعض الوزراء السابقين بأنه يحاول جاهداً إصلاح الأمور ووضع حدّ للبيرانا، ربما تحضيراً لدواء ما زلنا نعمل جاهدين لاكتشافه في لبنان كسمّ الفئران، لتسميم معشر البيرانا، وإن شاء لله الحيتان «بضهر البيعة» والقضاء على هذه الآفة التي تأكل المجتمع كما يفعل حيتان المال وربما أكثر.

حصة البيرانا استيراداً وتصديراً هو بمعدل 300 دولار على المستوعب، «وعدّ ولحقني» أيّ300 دولار ضرب 1.200000 مستوعب يساوي 360 مليون دولار، هذا عدا الصفقات لتسهيل التهريب. وبالطبع لن ننسى الحيتان المشغولة بلزوم ما لا يلزم من طمر أحواض ولجان موقتة تسرح وتمرح في إدارة مرفق عام بفضل الحيتان.

أحد الأمور الذي تمّ طرحه لمعالجة أوضاع الاستيراد هو زيادة على الـTVA والاستغناء عن الرسوم الجمركية، اقتراح من دون شك قابل للدرس ولكن نسي أو تناسى أصحاب الاقتراح بأنّ الموضوع لا يقتصر فقط على الرسوم الجمركية لأنه توجد عدة رسوم قديمة وجديدة لها فعل الرسوم الجمركية، أي الضريبة السيادية، فرضت على المواطن بطرق أقلّ ما يُقال فيها إنها احتيالية لأنها استغنت عن إصدار قانون في مجلس النواب.

ولكن لا بدّ من التذكير بأنّ من يستطيع أن «يزعبر» في الرسوم الجمركية يستطيع أن يفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى الـTVA باعتماد فواتير مخفّضة، وفي الواقع أن بيت القصيد هنا هو أن الاستمرار بالسماح للمستوردين أن يستوردوا بكميات تجارية من دون أن تكون الشركة مسجلة في TVA، والجميع يعلم أن هذا الباب هو الأسرع للتهرّب من TVA والجمارك، هذا حق الدولة المسلوب، ولكن اللافت هنا هو الآلية المتبعة بما يسمّى رسم مرفأ، وهو في الواقع رسم جمركي متستر تحت اسم رسم مرفأ لأنه بحسب نوع البضاعة وليس قيمتها، والفرق أن هذا الرسم لا يدخل مباشرة إلى مالية الدولة. وهذه الآلية غير قابلة للتزوير فيكون رسم المرفأ هو الوحيد الذي لا يعتمد على استنسابية الكشّاف أو غيره، فإذا كانت المحاولة جدية لإقفال باب الاستنساب والتهريب فليعود رسم المرفأ إلى الدولة ولتتمّ زيادته ليتناسب مع حماية الصناعة والبضائع الاستهلاكية ورفعه على غيرها.

من هذا المنطلق علينا أن ننظر إلى تبسيط العمليات الضريبية وإعادة النظر في كلّ ما يُسمّى رسوماً لحصر التشريع الضريبي بمجلس النواب فقط لا غير، وإقفال كلّ الدكاكين التي سمح لها بجباية ضرائب من المواطنين لحسابها الخاص.

أيّ بكلام آخر، يجب التوقف عن التلاعب بالتسميات بين رسوم وضرائب وفتح دكاكين على مثال اللجنة الموقتة لإدارة مرفأ بيروت، أو وزارة الاتصالات أو غيرها من المؤسسات، فحتى مؤسسات مثل المعهد الوطني للبحوث الصناعية والذي كما يوحي اسمه فإنّ دوره الأساسي هو القيام بالأبحاث تحوّل إلى مختبر خاص والأسوأ يقبض ضرائب احتكارية من الناس ويصرفها كما يشاء ولا تدخل إلى مالية الدولة. مثله مثل المرفأ وحتى النفايات تمارس نفس المخالفات وما زلنا خاصة في مجلس الوزراء نتكلم عن شمولية الموازنة، كلّ شمولية وأنتم بخير حتى الموازنة دخلت أبواب الحصحصة وتقاسم الغنائم.

كلّ هذه الممارسات يجب أن تتوقف، وتجدر الإشارة إلى أنّ من شروط الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، هو أن تذهب الضرائب إلى المالية العامة، وهنا أجد نفسي مضطراً أن أذكّر بالضرائب المدفوعة للنقابات والتي تذهب إلى صناديق خاصة.

لا بدّ أن تبدأ عملية الإصلاح الضريبي في لبنان، وهي عملية ليست معقدة مع وجود عدة نماذج من بلدان أوروبية أو غيرها اعتمدت سياسة ضريبية ناجحة ساهمت بتطوّر بلدانها.

أتذكّر منذ أكثر من عشرين عاماً عندما بدأت المالية بالترويج لفكرة الـTVA وجاء هذا الترويج ليروّج لنظرية حصر الـTVA بنسبة واحدة، أي نسبة واحدة تطاول كلّ البضائع، نحن لا نعتقد أبداً أنّ هذا هو الحلّ الوحيد والأفضل للبنان لا سيما أننا نتجه الآن إلى إلغاء الجمارك، وبالتالي من الممكن دراسة نسبة أكبر على الكماليات، ونسبة أقلّ على الصناعة المحلية لأنّ الاستغناء كلياً عن الرسوم الجمركية من دون الأخذ في الاعتبار حماية الصناعة ستكون نتائجها كرصاصة الرحمة على قطاع يعاني أصلاً. أو الانتقال من خلال الرسوم النوعية كما حال ما يُسمى زوراً رسوم مرفأ وهذه كما ذكرنا غير قابلة «للزعبرة».

الخلاصة فإنّ البيرانا لا يزدهر إلا في ظلّ أنظمة ضريبية جمركية أو عقارية معقدة تسمح للسماسرة بأن يكون لهم دور أساسي وأن يكونوا المفتاح الأساسي، وكما يعلم الجميع أن وراء البيرانا حيتاناً أيضاً لهم حصصهم من غلاّت البيرانا.

وأخيراً كم كنت أتمنى أن تقتنع معي أكثرية الشعب اللبناني بأنّ الاحتكار شرّ مطلق، فمثلاً لنتخيّل أننا فتحنا الباب أمام كل من يريد أن يؤسّس شركة نفايات بشروط بيئية عالمية واضحة المعالم وغير مطرّزة لتناسب شركات معينة ونترك الخيار لأي بلدية بأن تعالج نفاياتها بالطريقة الأنسب، وعن طريق أي شركة من الشركات، وذلك بوضوح وشفافية وبإعلان الأسعار للجميع. أما التركيبة المقترحة اليوم فهي لنقل الاحتكارات من أيد إلى أيد أخرى، وما يصحّ بالنسبة إلى النفايات يصحّ بالنسبة للميكانيك، كلّ الشركات أو الكاراجات التي تريد إعطاء شهادة ميكانيك عليها طلب الترخيص بحسب الأصول وبعدها نستطيع إجراء فحص للمركبة وإعطاء شهادة، وإذا تبيّن أن الشهادة غير دقيقة تخسر الشركة حقها وتدفع غرامات، وأيضاً وأيضاً في ظلّ حفلة التمديد للخليوي، لماذا لا نكسر هذه الحلقة ونفتح باب التنافس في قطاع الخليوي ونفتح السوق لعشرات الشركات مع الحفاظ على النسبة الضريبية التي تتقاضاها الدولة، مما يؤمّن مداخيل للدولة من جهة ويؤمّن خدمة أفضل وأسعار تنافسية للمستهلك، فننتهي من الطوابير والمحسوبيات وفي الحالتين الأخيرتين «بينضبّو» حيتان المال لأنه لا يجوز أن ننهي مقالتنا بالكلام عن البيرانا وننسى الحيتان.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى