الطريق إلى «أمل دنقل»

تحكي عبلة ـ زوجة الشاعر الراحل أمل دنقل ـ عن بدايات التعرّف إليه، في كتاب خصّصته لهذا الغرض وعنوانه «الجنوبي»، ننشر بعضاً منه للقراء في ذكرى وفاة «ساكن الغرفة 8».

تقول عبلة الرويني: كان «مقهى ريش» بداية الطريق إلى أمل دنقل، إنه الملامح والمكان والهوية الذي بدأت منه رحلة البحث عن شاعر، لا أعرف ملامح وجهه.

الزمان تشرين الأول 1975.

عندما فكرت ـ خلال فترة التدريب الأولي في جريدة «الأخبار»، وقبل أن أعيَّن ـ في كسر الإشارات الحمراء والخضراء والصفراء، وإجراء حوار مع الشاعر أمل دنقل. قال لي أحد المحرّرين السياسيين في جريدة «أخبار اليوم»: ستجدين صعوبة في نشر اللقاء، فأمل شاعر يساريّ، لن تسمح الجريدة بنشر حوار معه، لكن ربما يمكنهم نشره في طبعة «أخبار اليوم» العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربياً، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر!

أصابتني كلماته بصاعقة فجّرت مساحات التحدّي داخلي، وأطلقت لأفكار مثالية أبعد من سياسة الجريدة عنان الحركة، فلماذا تأخذ الجريدة موقفاً من شاعر؟ لا بل كيف تأخذ الجريدة موقفاً من عقل الصحافيّ؟ سأجري الحوار!

ضحك ساخراً: إذن حذار منه، ستجدينه سليط اللسان، شديد القبح مثل كل الشيوعيين تشمين رائحتهم عن بعد.

رحت أبحث عن «مقهى ريش» في الزمان الذي أعرفه صباحاً، مررت أمام مقاهي «طلعت حرب» أسأل مقهى مقهى حتى وصلت. لم يكن «ريش» يختلف كثيراً من حيث الشكل عن باقي مقاهي القاهرة، بل إن شكله الخارجي لم ينمّ عن كونه ملتقى الأدباء، أو حتى عنواناً أنيقاً لشاعر.

أسأل النادل: الشاعر أمل دنقل؟

ـ غير موجود

ترددت أكثر من مرة على المقهى، وفي كل مرة كان الزمان صباحاً، وفي كل مرة لا أجد أمل دنقل.

رفق بي نادل: الأستاذ أمل لا يأتي إلا في المساء.

ولأنني أسكن في منطقة مصر الجديدة البعيدة، فقد كان من الصعب عليّ العودة مرة أخرى في المساء، فتركت رسالة صغيرة: الأستاذ أمل دنقل، يبدو أن العثور عليك مستحيل، يسعدني الاتصال بي في جريدة «الأخبار»، ويشرّفني أكثر حضورك.

اكتفى الشاعر بإسعادي، متصلاً صباحاً بالجريدة ومحدّداً موعداً للقاء، الثامنة مساء في دار الأدباء في شارع القصر العيني.

في ما بعد، أدركت أن اتصال أمل بي وفي جريدة «الأخبار» صباحاً يعتبر حدثاً في حياته من الصعب تكراره، ولعلها رقة سطور الرسالة التي تركتها ـ كما قال لي ـ ولعله القدر الذي يرسم صورة مستقبل قادم، ويحتّم اللقاء بهذا المحارب الفرعوني القديم.

في الثامنة تماماً كنت في دار الأدباء، المكان شديد الازدحام بجمهور الأمسية الأدبية، فاليوم الأربعاء، موعد ندوة الدار الأسبوعية.

صارت الساعة الثامنة والنصف، وأنا لا أعرف ملامح وجه أمل، أسأل فيقال لي لم يأتِ بعد، بعد قليل همس شاب: الأستاذ أمل هو ذلك الجالس في نهاية الصفوف، اقتربت من الصف الأخير حيث يجلس شخصان: الأستاذ أمل دنقل؟

تفحّصني أحدهما بهدوء ثم قال: سعادتي! لم يستفزّني الردّ، بقدر ما أعجبتني تلك المحاولة للغرور، فابتسمت. طلب لي فنجاناً من القهوة، ورحت أحدّثه عن سبب اللقاء ورغبتي في إجراء حوار معه، فوافق بسهولة عكس ما قيل لي.

قلت: كنت أظنك أكبر قليلاً!

ضحك بصوت مرتفع: يبدو أن عندك عقدة إلكترا!

ولم استفزّ أيضاً، بل ابتسمت: اطمئن لن أحبك!

كان الانطباع الأول الذي كوّنته سريعاً، أن هذا الشخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى، يسلك سلوكاً آخر، لا بل يحس أحاسيس أخرى. منذ اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والادّعاءات والأقنعة، وبدا لي وجه صديق أعرفه من زمن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى