حين يصبح التحرير حالة إنسانية تصنع الشمس

جهاد أيوب

في عيد التحرير والنصر كانت الصورة مختلفة عن صور العرب، علّمونا أن نخاف مغتصب أرضنا ومزوّر تاريخنا فكانت نتيجـة المقـاومـة عكس علومهم، درّسونا أنّ الدفاع ليس حقـاً بل الثرثرة هي الهدف والمطلب فاختصرت المقاومة القول بالفعل حتى خلعتهم من المنطق، أخبر الأعراب أصحاب الوجع على كبت الصوت والابتعاد عن اكتشاف معانيه فزرعت جهود أسـود الأرض رايـات مغايرة عما يرغب فيه أهل التعصّب والغدر ليصبح تحرير الكلمة والروح والأرض حالة إنسانيـة تختصر الوطن والإنسان وتصنع الشمس… نعم لم يعتـد الكثيـرون مـن حكامهـم، ولـم يكتـب شعراء بلاطهم، ولم ينحت نحات دجل فنونهم وأدبهم، ما حـدث فـي أصغـر بـلاد الأرض لبنان، ومعجزة الشرق جبل عامل، يومها أشرقت الشمس من الجنوب على كلّ الأرض، وتغيّرت مواعيد صلاة البطولات، والكلّ توضّأ من ترابـه حتـى تفاخـرت بواطـن الأرض بمـا حملت…!

في عيد التحرير أربكت خطوات من اتهم أهل المنابر وأصدقاء التلال وعشاق المرتفعات وكتاب القصائد بالمغامرة، وبأنهم يأخذون الوطن إلى المجهول… لم تكترث سواعد التواضع لخواء اتهاماتهم وأكملت المشوار حتى سقط الشهيد ونبتت شجرة العيد، زرعت أشجار التحرير من دماء النصر وكللت أغصانها بصور شباب آمن فقرّر أن يقاوم دون منة أو تحميل أهله الجميل، فمنهم من ثبتنا جراء شهادته في عمق الأرض، ومنهم مَن لا يزال يزرع الجذور كي نتصالح مع الطبيعة ونصل أعماق التراب.

لم يكن الإنسان هو المقاوم فقط بل كلّ شبر من بلادي جاهد وساند وحاول ان يواكب سيرة الأبطال، للسنديانة ظلال حمت أهل الهمم، وللسهول عطفها الفواح كأمّ تراقب حفيدها كي يكبر أمام ناظريها، ولصخور شكلت ثنائية مع جسد تلامست أنفاسه مع رائحة الأرض حتى غدا منها… وللماء عنفوانها وصوتها الهادر الحرّ بعد انكسار وسجن أحياء يعرفون قيمة الريّ والزرع، هناك حيث الطيور هجرت المكان عادت محمّلة بوشاح النصر مع خطوات أقدام لا تعرف الهزيمة، هناك بكت الأسطورة لأنها أصبحت من لحم ودماء فعانقت الواقع بسلاح الفعل والحقيقة…

نعم لكلّ دوره في فعل أهل التواضع حيث التحرير… نعم لحبة التراب تغريده الشوق لأقدام هادرة من نبع أهلها، كانوا يسيرون على طرقات وعرة كصغار حفاة لا يهابون الشوك ويحلمون بالإنسان الحر، واليوم يحمونها بنعال تشرّفنا وببنادق من نور تغرس فينا الآمال، هرولوا سعداء لتراكم فينا حكاية كادت أن تندحر وتنتحر لكن نظرات قاسية وحنون من جنود المقاومة قلبت الهرم وتفوّقت على تاريخ حفر بحبر من ذهب على أجساد شباب حمل بندقية صنعها من تراب حقولنا، وحقولنا من لحم مقاومينا، ومقاومينا من طين الرب وعنفوان الحق…

فقراء ساروا إليها كأنهم أغنياء دون خجل أو قلق أو خوف منهم لأنّ الروح تعرفهم جيداً، وعوائل مؤمنة عاشرت الصبر والصمت منتظرة ظلالهم كي تصبح الفصل المكتوب ومتشوّقة لأحضانهم الكبيرة والدافئة، لم تبخل الأرض على رجالها فبادروها بالحماية بعيداً عن الاستخفاف أو الجبروت، لذلك لم تهجرها الذاكرة التي رسمتهم فيها، فسارعت واحتضنت أجسادهم المعطرة بدمائهم تاركة لأرواحهم الزكية الطاهرة حصارنا وحماية حدودنا… وكلما سقط عطرهم على الأرض كلما نبتت أشجار الأرز والزيتون والتين والسنديان وتواضع وهج الشمس انحناء لهم، وكلما سقط المطر تفوح رائحة الأرض بعطر مجاهدينا لتنتشر في كلّ مكان اشتاق إليهم، وكلما ضاقت الدنيا بأفعال نابية من عدو حاقد لاحت سواعد سمراء لا تعرف التعب ولا الغدر كزخات ماء على تربة شربتها حتى تبخرت وصعدت إلى السماء وعاودت بالهطول فرحة متسامحة، حينها تعطرت زهورنا بعد أن أنهكت من تعب انتظار أجدادنا…

وهناك… في ذاك اليوم لاحت السماء بنسمة هواء منشدة الصلاة والركوع على أقدام المقاومين… لقد اختلفت حكاية جدتي، وروايات الكتاب، ظهر عنفوان الأمكنة على غير عنفه حاملاً البخور لأكفان الشهداء، وطارت النسور عالية ترفرف براية المقاومة، وكانت أم الشهيد تراقب حتى أطلّ ابنها من قبس السماء يطلب منها الرقص وتغريده فرح العرس، وأخذ جدّي المسنّ بعصاه متحدّياً الزمان والجبال والصخور رامياً عجز نظراته التي توضّحت مشاهدها بعد صبر سيجارته التي لم تعرف الانكفاء، وسار مع الشباب بدراية العارف بأسرار الانتصارات، أما طفلي المبتسم والمندفع إلى حياة كريمة وهنية عانق كلّ سلاح لم يعد يخيفه، وطفلتي روت الورود وحديقة بقايا الدار بعد طول غياب، وسكنت عمتي تحت شجرة بلادي تحيك الظلّ، وتكتب بدم الخوف أبجدية المقاومة في الكون، أما خالتي التي انتظرت عريسها المرابط بين البحر والنهر والسهل والجبل ارتدت فستان عرسها، والتفّت بشال حلم حملته إليها أم شهيد، أم أهدت ابنها السلاح وحافظت عليه بعد الاستشهاد، وفتاة درست في صفوف الأيام تصلي كي يعود الحبيب المقاوم فالتقت به عريساً وبيده وردة تزيّن عرسهما يوم التحرير…

عودي يا أمي إلى عرين طفولتنا، لقد رضعنا حليب النصر فلم يعد يخيفنا إنْ جف حليبك، عودي يا جدتي إلى أريكة السنون وطرّزي لنا من حكايات رجال الله العبر والدهشة والانتصارات وطيب معادن الرجال، وتذكر يا جدّي أنك سلّمت الراية لمن هو أهلها في 25 أيار حيث عيد التحرير والنصر، عيد كرامة الأوطان، وروح الأحرار في زمن تكالبت فيه خيانات الأعراب وغاب عنه عدل الإنسان في الغرب والشرق، وحاول تشويهه صهاينة الزمان… في 25 أيار حيث نحن…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى