السياسة الخارجية المغربية بين المذهبي والسياسي: سياسة المغرب تجاه إيران نموذجاً ٢

صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

وهي إذ تتسع لمثل هذه الدراسات تبقى مجالاً مفتوحاً للحوار وطرح الإشكاليات الفكرية والسياسية وغيرها، تنشيطاً لدور الثقافة في الصيرورة الاجتماعية. علماً أن الآراء التي ترد على مساحة الصفحة تعبر عن أصحابها وليست بالضرورة مطابقة لقناعات الصحيفة.

إلا أنه انطلاقاً من القناعة الراسخة بضرورة خلق حوار فكري حول القضايا والإشكاليات كافة وما أكثرها، والتي تفرض نفسها على صاحب القرار والمثقف وقادة الرأي والمواطن في أي موقع كان، كانت صفحة الدراسات في «البناء» هي الترجمة العملية لهذه القناعة آملين أن تشكل هذه الصفحة مساحة فكرية ـ سياسية تعنى بهموم الوطن والمواطن، تدرس الحاضر لترسم المستقبل.

عبد الفتاح نعوم

خلاف سياسي؟

بالنسبة إلى الاحتجاج على المسّ بسيادة البحرين فإنه لم يُسجل للمغرب أنه احتج على الأمر المماثل الذي تكرر كثيراً أيام الشاه وبخصوص البحرين نفسها، بل لم يحتج المغرب على بسط الشاه سيطرته على جزر إماراتية سنة 1970، كما أن هذا ليس مبرراً كافياً لقطع العلاقات لا سيما أن الدولة صاحبة الشأن لم تقم بمثل ما قام به المغرب علاوة على الدول الخليجية الأخرى، عموماً قطع العلاقات سلوك تلجأ إليه الدبلوماسية المغربية غالباً من دون تبرير منطقي كما حدث مع إسبانيا سنة 2001 وسنة 2007، والسنغال وفنزويلا ومع سورية في الآونة الأخيرة على إثر تداعيات الأزمة السورية، وغالباً مثل هذه السلوكيات تكون نتيجة أمزجة وأهواء صاحب القرار وردود الفعل لديه، أو بحسب إملاءات خارجية تقتضيها ضرورات تسخين الأجواء لتحسين المواقع التفاوضية بمحاصرة الطرف الآخر، لأنه لا مبرر عقلانياً لمثل هذه الأفعال في الدبلوماسية.

يظهر أن لا خلاف حقيقياً بين المغرب وإيران، وفي حقيقة الأمر يتضح أن تلك التبريرات موروثة عن فترة الحسن الثاني، الذي كان ذا شخصية قوية وكانت لديه رغبة في لعب دور محوري في قيادة الدول العربية والقيام بالوساطة في مجمل القضايا الشرق أوسطية، وهو الموقع الذي كان مهدداً من طرف جمال عبد الناصر كما أصبح مهدداً من الخميني، وإذا كان الأول غريماً على الزعامة العربية فالثاني غريم على الزعامة الإسلامية. وقد كان الحسن الثاني يعتمد في إيجاد دور يليق به على الألق الذي يمنحه إياه موقع إمارة المؤمنين فاستشعر أن الهالة المحيطة بالخميني قد تسلبه هذا الموقع، واتفق في هذا مع السعودية التي خشيت أن تجمع إيران بين بريق الثورة والإسلام وشرعية الدفاع عن فلسطين ولبنان1، لا سيما أن إيران أظهرت توجهات معادية للولايات المتحدة وحلفائها.

وقد كان الحسن الثاني يريد أن يكون المغرب ركيزة أساسية للسياسات الغربية تجاه المنطقة، فإذا به يُفاجأ بأن الشاه الذي كان يقاسمه التطلعات والدور يغادر السلطة، والجزائر تتوسط في قضايا الرهائن الأميركيين، والمؤشران اللذان يؤكدان هذا التفسير هما حجم حضور المغرب منذ نهاية الستينات في القضايا الشائكة بالشرق الأوسط على رغم بعده الجغرافي منه، واضطلاع الحسن الثاني بقيادة مبادرات عربية عدة، وهو مخالف تماماً لما بعد وفاته، إذ سيتجه محمد السادس إلى تمتين العلاقات مع أوروبا وإهمال الدور العربي2. المؤشر الثاني مرتبط بطبيعة الدور الذي لعبه الحسن الثاني داخلياً، فقد وقف في وجه قيادات الحركة الوطنية الراغبين في إحقاق نظام برلماني وتحجيم موقع الملكية، الأمر المناقض لتطلعاته في القيادة ولعب أدوار محورية في صياغة السياسات داخل المغرب وخارجه، بما يتماشى مع الموقع الاقتصادي للملكية وشبكة المصالح المرتبطة بها.

لكن لا مبرر منطقياً لاستعادة هذا الصراع – بخلفياته ومبرراته التي يراد لها أن تكون مذهبية – إلا بصعود نجم حزب الله بعد أحداث تموز 2006، وزيادة بريق إيران بعد دعمها الواضح لحماس أثناء حرب غزة 2008، إذ ربما استند المغرب في تقييمه إلى وجهة النظر السعودية وتخوفاتها من التمدد الإيراني الذي تبرره رغبة إيران في لعب دور إقليمي يليق بحجمها، كما هو الشأن بالنسبة لتركيا ويسمح به انكماش عربي، المسؤول عنه حتماً هو العرب وعدم امتلاكهم مشروع سيادة إقليمياً موحداً.

وبالتالي، فقطع العلاقات المغربية ـ الإيرانية كان السياق الذي يحكمه هو سياق زيادة الحصار على إيران، وتحجيم دورها الإقليمي، وتظهيرها كدولة ذات مشروع طائفي، يسعى إلى التمدد على حسابات جغرافيا الثقافة والأديان للدول العربية، ولعل المغرب في هذا الإطار كان ينظر إلى العدد المتزايد من المغاربة المتشيعين الذين بلغوا 3000 فرد، زيادة على أن المغرب ينظر بعين الريبة إلى علاقة السلطات الإيرانية بالمغاربة الشيعة في الخارج3، وبالتالي فالتخوف من تلك العقيدة التي لها أهميتها السياسية في هؤلاء كمجموعة بشرية4، ومن ثم قدرتهم التنظيمية التي تدفع المغرب إلى التوجس من نواياهم ومن نوايا إيران من خلفهم، الأمر الذي دفع إلى الحد من علاقة المغرب بإيران بشكل يثير الاستغراب5.

ومن ناحية ثانية، فإن هذا المشروع صد التمدد الإيراني مشروع سعودي، إذ تخشى المملكة من التحولات الداخلية التي يمكن أن تدفع إيران إليها إذا تمكنت من مسك خيوط الداخل في الدول العربية والسعودية على الخصوص. وبالتالي كان قرار المغرب تضامناً مع مخاوف السعودية بحكم العلاقات التي تجمع الملكيتين منذ أيام الدولة السعودية الأولى، التي تم تأسيسها بواسطة التحالف بين حركة محمد بن عبد الوهاب وعبد الله بن سعود في أواسط القرن الثامن عشر في بلدة الدرعية في نجد6. وكان سلطان المغرب آنذاك المولى سليمان قد ألقى خطبة شهيرة يتماهى فيها مع مشروع محاربة البدع والضلالات الذي تبنته الدولة السعودية الأولى، وذلك بعد أن بعث وفداً للتأكد من الأخبار التي كانت تروجها في الأقطار الإسلامية الدولة العثمانية حول معتقدات ابن سعود وابن عبد الوهاب، وقد كان رد الملك السعودي على موفدي سلطان المغرب مُرضياً له، ما دفعه إلى نسج خطبة مشهورة في الموضوع7.

وقد استمرت العلاقات بين السعودية والمغرب أثناء قيام الدولتين السعوديتين الثانية والثالثة، وزاد من توطدها ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أفرزت تحالفاً بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وأفرزت أيضاً تبعية معظم الملكيات العربية للاستعمار الجديد/القديم، وذلك في مواجهة المد الشيوعي آنذاك. وبعده استمر التحالف في إطار تحصين مصالح الملكيتين من أي مخاطر محتملة، ومن بينها الخطر الذي تشكله إيران على السعودية، ولذلك فالوهابية ترسانة أسلحة مهمة تستخدمها السعودية من أجل محاصرة التمدد الشيعي الذي يعد حاملاً وناتجاً للبريق الذي شكلته إيران للشعوب المسلمة منذ «الثورة الإسلامية» ومروراً بالاشتباك الإيراني الأميركي، وانتهاء بالنمذجة الإسلامية للتطور والتقدم التقني.

ثالثاً: التحولات الراهنة وآفاق العلاقة بين المغرب وإيران

بدأ الصراع بجميع أوجهه بين إيران والحلف الذي تقوده الولايات المتحدة مباشرة بعد نجاح «الثورة الإيرانية» سنة 1979، وإقدام إيران على احتجاز رهائن أميركيين في السنة نفسها، وهو ما خلق سوء فهم بين الطرفين منذ تلك الفترة نتج منه لاحقاً جدال صاخب وسط الولايات المتحدة فحواه إمكان توجيه ضربات عسكرية أميركية لإيران، ووصل الأمر مداه مع وصول المحافظين الجدد إلى الحكم مع ولاية الرئيس بوش الابن8. ومنذ تلك الفترة أصبح النقاش الطائفي أكثر صخباً، وكان جماهير أهل السنة لم يعرفوا أن الغالبية الديمغرافية في إيران تنتمي إلى الشيعة إلا بعد نجاح الثورة، فتم استدعاء كل كم الصراعات المطمورة في حفر التاريخ، وإعادة نبشها من أجل إدانة الشيعة وشيطنتهم حصاراً للمشروع الوطني والإقليمي الإيراني، الذي كانت جل مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج والعالم العربي تراه مشروعاً للتحرر الوطني بأسلوب جديد، يتناغم مع الترويج للصحوات الدينية في وجه الشيوعية الذي تورطت فيه الولايات المتحدة نفسها.

لكن هناك سياق أوسع وأشمل بخصوص إثارة المشاعر الدينية ودفع الناس إلى الاصطفاف على أرضية الانتماء المذهبي والطائفي، وقد بدأ هذا السياق من داخل الولايات المتحدة نفسها، بحيث ظهر اتجاه فكري قاده ليو شتروس يرى أن الأزمة العامة للغرب هي أزمة في الفلسفة السياسية، الأمر الذي بناه على محنة تعيشها الحداثة تتمثل في فقدانها لهدف معين، وبالتالي سقوط الليبرالية في نزعة مادية مبتذلة، وعلى الصعيد العملي كان شتروس يرى أن المشكلة تكمن في صعوبة الدفاع عن هذه القيم أمام الأخطار الداخلية والخارجية 9. وقد وجد هذا الرأي صدى كبيراً في تلك الفترة وسيتبناه من سيعرفون في ما بعد بالمحافظين الجدد، خصوصاً أنه جرى في الإعلام في تلك الفترة تجييش للرأي العام الغربي والأميركي على الخصوص إزاء الخطر الشيوعي، في فترة كانت موجة الحريات الفردية في أعلى آمادها، فاستُثمر مناخ الحرية ذاك للترويج لما هو ضدها مضموناً.

والفكرة نفسها جرى تطبيقها لأول مرة حينما وصل زبيغينيو بريجينسكي10 لمنصب مستشار أمن قومي على عهد الرئيس جيمي كارتر، بحيث كان يرى أن عقائدية الجيش الأحمر في أفغانستان لا تمكن مواجهتها إلا بالرهان على عقائدية المجاهدين، وأصل الفكرة عند بريجينسكي في مؤلف كتبه سنة 1970، يركز فيه على أن منطقة الشرق الأوسط مكونة طائفياً وعرقياً وتنبغي إعادة فكها وتركيبها بما يتماشى مع مصالح الأمن القومي الأميركي11، وزاد من تكريس فكرة دور الدين في تغيير الخرائط كتابات كل من برنارد لويس وصامويل هنتنغتون، زيادة على تأثير مناخ نهاية الحرب الباردة. بالتالي بقدر ما كانت الحاجة إلى ذلك الخطاب في صد الشيوعية، كانت «الثورة الإسلامية» في إيران تعبيراً عن رفض الحداثة والديمقراطية الغربية12. وهو الأمر الذي رفضه ليو شتروس وغيره داخل الغرب نفسه، على اعتبار أنه أتى بالكارثة.

إذن يمكن القول أن تصاعد الخطابات العدائية الدينية بين السنة والشيعة جاء في سياق جيوبوليتيكي، استخدم الانتماء الهوياتي من أجل صد الشيوعية، وكان من آثاره الجانبية تصاعد الأصوليات، التي من نتائجها نجاح «ثورة إسلامية» في إيران، سهل هذا المناخ أيضاً استنبات خطاب عدائي لها من الإرث الوهابي المعادي للشيعة وعقائدهم والعقائد التي تقترب منهم، فحفلت المكتبات العربية باستنكار الأضرحة والمقامات والطرق الصوفية، واستهجان عقائد الأشاعرة والشيعة وغيرهم، زاد من ذلك ظهور الفضائيات ووسائط الاتصال. وبعد الحرب الأميركية على العراق وصل الاحتقان المذهبي أوجه، وأصبح بالإمكان رصد الظواهر النافرة من الجانبين كليهما شيعة وسنة، الأمر الذي أثر في وضع ومستقبل العراق13.

بقدر ما كانت تلك السياقات والظروف توفر مناخاً يبرر القطيعة بين المغرب وإيران، بقدر ما يلاحظ أيضاً أن هناك علاقات جانبية بين البلدين لا تزال موجودة على رغم القطيعة، بحيث يلتقي المسؤولون المغاربة مع الإيرانيين في مناسبات مختلفة وفي أماكن مختلفة. إلا أن العلاقات لا يمكن أن تتحسن راهناً بسبب ارتدادات الأزمة السورية والصخب المحيط بالملف النووي الإيراني. لكن لوحظ أنه منذ اتفاق الخطوة الأولى المبرم بين إيران والغرب عاد المسؤولون الإيرانيون والخليجيون إلى تبادل الزيارات على رغم عدم انسجام مواقف دول الخليج من الاتفاق، وبما أن المغرب يسترشد غالباً في الموضوع الإيراني بالمواقف الخليجية نظراً إلى العلاقة التي تربطه بها ومن بين تجلياتها الدعم السنوي، فمن الممكن أن يعود الدفء إلى العلاقات المغربية ـ الإيرانية لا سيما أن المغرب لم يكن يوماً ضد حق إيران في امتلاك مشروع نووي سلمي، فقط الأمر سيحتاج بعض الوقت لتجاوز التعقيدات البروتوكولية، و تسوية الأزمات الإقليمية.

لقد أدى وصول المحافظين الجدد إلى رئاسة الولايات المتحدة، وتطبيقهم لمشروع القرن الأميركي الجديد14، أدى إلى تكبد الولايات المتحدة خسائر ضخمة وحدوث تحولات مهمة داخل الرأي العام الأميركي مثلتها اتجاهات استهجان الحرب، والتي أفرزت توجهات فكرية مؤثرة في السياسة الخارجية الأميركية مثل صدور تقرير «مجموعة دراسة العراق»15، وقد كانت النقطة المحورية في هذا التقرير تتعلق بالربط بين الوضع المتدهور في العراق وبين ضرورة إشراك دول جوار العراق في الحل، وإقرار تسوية للقضية الفلسطينية. وهي الفكرة التي رفضها الحلف الذي تشكل من اللوبي المؤيد لـ»إسرائيل» والمحافظين الجدد16. وفي المقابل ظهر إلى العلن مشروع فريدريك كيغان الذي يرفض فتح حوار مع دول جوار العراق، ويطرح إمكان توسيع الوجود العسكري الأميركي في العراق17.

لكن التحولات الموضوعية التي تمثلت في نتائج حرب 2006 بلبنان، ووصول أوباما إلى الرئاسة في الولايات المتحدة بما يعني فشل مشروع القرن الأميركية الجديد. وترافق تلك التحولات مع تنامي الاتجاهات الفكرية الداعية إلى تحسين العلاقات الأميركية الشرق أوسطية18. وقد كان صدور تقرير غولديستون19 الذي يفصل في انتهاكات حقوق الإنسان في غزة على يد «إسرائيل». كان سبباً دفع هيلاري كلينتون سنة 2010 إلى الربط بين مضمونه والأزمة الموضوعية التي تجعل مستقبل «إسرائيل» على المحك، ومن ثمة ضرورة التسوية، وهو ما سيرفضه اليمين المتطرف في «إسرائيل»20. زيادة على ما تضمنه تقرير الأمن القومي الأميركي لسنة 2010 21.

فالنظام العالمي لما بعد الحرب الباردة لم يعد يقوى على وجود بؤر توتر عناوينها إيران والعراق وسورية وفلسطين وما يرتبط بها من مؤثرات ومتأثرات. لذلك ترى إدارة أوباما أن تسوية الملف الإيراني مدخل أساسي لتسوية باقي الملفات، ولذلك كله لا بد من السماح بولادة غير عسيرة لنظام عالمي جديد عنوانه سيادة قواعد القانون الدولي وحلحلة الملفات العالقة وبناء نظام علاقات دولية تعاونية، تجنب البشرية ويلات حروب مدمرة ومحتملة في ظل استمرار تعنت كل الأطراف. لذلك تعتبر التجاذبات التي ظهرت في مراكز القرار العالمي حول أحداث ما يعرف بــ»الربيع العربي» محاولة أخيرة لتغيير تلك المعادلات، لكن بات واضحاً أن المنطقة تتجه نحو تسوية تجعل من إيران فاعلاً إقليمياً محورياً، فالتفاهمات معقودة على آسيا22 بعد الانسحاب الأميركي منها. ولذلك يمكن أن تنضج التسوية الأميركية ـ الإيرانية بعد حدوث تلك التفاهمات، وتنتهي القطيعة بين المغرب وإيران حالما يتموضع الخليج من التحولات الإقليمية والدولية الجديدة23.

خاتمة:

التحولات التي يفرضها منطق التاريخ تذهب بالبلدين كليهما نحو مسارات محتومة. إيران تعيش على إيقاع التفاعلات بين التقليدي والحديث، والتحولات في قواعد السلوك الاجتماعي واتجاهات الرأي العام سائرة قدماً هي الأخرى داخل إيران، وهي كلها أمور ذات تأثير في نسق الحكم وصنع السياسة بمختلف مظاهرها ومستوياتها. أما المغرب فهو الأخر يأخذ موقعه ضمن التحولات التي يعرفها المحيط الإقليمي والدولي، ويعيش صراعاً بين الفساد الإداري والمالي وبين القوى الاجتماعية وتعبيراتها السياسية والنقابية.

ومن ناحية ثانية، فكل من إيران والمغرب يتجه نحو التخفيف من الهالة المحيطة بولاية الفقيه وإمارة المؤمنين، لا شك في أن التحولات العميقة تلك ستؤثر في هاتين الركيزتين. ومعهما ستضعف مركزة القرار الاستراتيجي في يد قمة الهرم، فالتحول نحو نظم برلمانية مكتملة أو نظم رئاسية مكتملة في المغرب وإيران هو الكفيل بأن يجعل قرار دولة من حجم المغرب مستقلاً وعقلانياً تجاه دولة من حجم إيران. ومهما كانت الجغرافيا تشكل عائقاً، إلا أن إيران تعني الكثير لبلد كالمغرب بالنظر لأهمية حلفها الإقليمي والدولي، وبالنظر لما تؤشر إليه الأحداث في المستقبل، فإيران وحلفاؤها سيساهمون بشكل محوري في صياغة عالم القرن الواحد والعشرين.

إن السياسة الخارجية شأنها شأن السياسة الداخلية وظيفتها تأمين المصالح التي نتجت هي من التعقيدات التي تفرضها تلك المصالح، وتتميز تلك السياسة بما يضفيه عليها أفق وفكر وخلفية أصحاب تلك المصالح. وبالتالي فالسياسة الخارجية المغربية وإن تحجج المغاربة بالعائق المذهبي ضمنها، إن كان ذلك صحيحاً، فإنه ليس مهماً بقدر ما مصالح المغرب مهمة، والحديث عن مصالح المغرب هو حديث عن مصالح النخب الاقتصادية المتنفذة، وهذه في الغالب غير منظمة على نحو يجعلها تستفيد من البحث الأكاديمي في السياسة الخارجية، من أجل بلورة تصورات تخدم مصالحها خارج المغرب من خلال دعم توجهات بعينها في السياسة الخارجية المغربية. فالمشكل يكمن أولاً في تمركز الثروة في يد النخبة الملكية، ثم في بعد النخب المنافسة عن بؤرة صنع القرار، وربما الدبلوماسية الاقتصادية تبقى هي المدخل الأنسب لذلك، لكن تأثيرها أقل أهمية إن لم تندرج ضمن توجهات كبرى تساهم هي في صياغتها. أما مصلحة الفرد البسيط فتأتي في سياق كل ذلك أو لا تأتي.

ما توصلنا إليه بخصوص سمات السياسة الخارجية نحو إيران، قد يكون دقيقاً إلى حد ما، لكن السؤال المطروح هو: هل تصلح هذه الخلاصة لتعميمها على السياسة الخارجية المغربية تجاه باقي مناطق العالم؟ ربما هذا موضوع دراسة أخرى.

باحث في سلك الدكتوراه في جامعة محمد الخامس بالرباط

Naoum.abdelfattah gmail.com

1. بعد الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان سنة 1982 انطلقت مقاومة شعبية دعمتها إيران بالمال والسلاح، وتشكل بعدها ما بات يعرف بمحور المقاومة من إيران إلى لبنان مروراً بسورية، والتي التحقت بحلف إيران بعد توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد، زيادة على الدعم الإيراني لفصائل المقاومة في فلسطين وأهمها دعم حماس.

2 تجدر الإشارة إلى أن محمد السادس حينما كان ولياً للعهد أنجز أطروحته في الدكتوراه حول: «التعاون بين السوق الأوروبية المشتركة واتحاد المغرب العربي»، بجامعة نيس صوفيا انتيلوليس، وقد كان ذلك سنة 1993 تزامناً مع تقديم المغرب لطلبه لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي. نقلاً عن جريدة «المساء»، بتاريخ 09-04-2012.

.3 www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html?cid=7266638

وهؤلاء ليس محسوماً أنهم كلهم متصالحون مع إيران، إذ لا يمكن التأكد من ذلك إلا بخصوص ما يعرف بـ «الخط الرسالي»، حيث في موقعهم الالكتروني الرسمي يظهرون ولاءهم لإيران ولحزب الله وعدم معاداتهم للسلطة، وهم قليلون للغاية، وأخيراً بعد تأسيس الباحث المغربي محمد ظريف لحزب «الديمقراطيين الجدد»، فإنه أقر بأن الحزب يفتح أبوابه علانية لأول للمتشيعين المغاربة.

4. عبد الله النفيسي، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، آفاق للتوزيع والنشر، الكويت، الطبعة الأولى، 2012، ص15. وتجدر الإشارة إلى أن السنة الذين يجرى تشييعهم في الغالب هم معارضون لإيران، حيث أن التيار «الرافضي الشيرازي» هو الذي يضع مسألة تشييع السنة كأولوية على أجندة عمله، في حين تراهن إيران على الشيعة التاريخيين كشيعة جنوب لبنان وزيدية اليمن وشيعة شرق الخليج العربي، وشيعة العراق، وهؤلاء كلهم يعاديهم التيار الشيرازي الرافضي.

.5 جميع البلدان التي تخشى من التشيع، هي تستحضر حراك الشيعة في بلدان خليجية كاليمن والسعودية والبحرين، فالسعودية مثلا تجد نفسها أمام حراك شعبي شيعي في الشرق، والعامل العقدي حاضر فيه ومحرك له بشكل كبير، بحيث يمتعض الشيعة كثيراً من التكفير الذي يلحقهم والذي يتم تدريسه للتلاميذ في مقررات السنوات الدراسية، وقد اظهر فيلم وثائقي أنجزته قناة bbc البريطانية لأول مرة طبيعة وأسباب حراك الشيعة في منطقتي القطيف والعوامية شرق السعودية.

.6 فاسيلييف، تاريخ العربية السعودية، ترجمة خيري الضامن وجلال الماشطة، نشر دار الفارابي، بيروت، طبعة 2011، ص100 وما بعدها.

.7 خطبة المولى سلميان، الانتصار للسنة ومحاربة بدع الطوائف الضالة، تقديم محمد تقي الدين الهلالي، دار الجيل للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2011، ص19 وما بعدها.

.8 راي تاكيه، إيران الخفية، دار الكتاب العربي، دمشق، الطبعة الأولى 2007، ص15-16.

.9 ناتان تاركوف وتوماس بانجل، ليو شتراوس وتاريخ الفلسفة السياسية، ضمن تاريخ الفلسفة السياسية، تحرير ليو شتروس وجوزيف كروبسي، الجزء الثاني، ترجمة محمود سيد أحمد، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2005، ص613/614.

.10 لا يوجد تأكيد حول مدى قناعته بمشروع ليو شتروس الفكري، لكن المهم أنه كان يرى الدين مدخلاً للحرب على الشيوعية.

11zbigniew brzezinski, between two age: america s role in the technetronic era,the viking press / new york, 1970.

.12 روجي غارودي، أصول الأصوليات، مكتبة الشروق، القاهرة، كانون الثاني 1996، ص36-37.

.13 بحسب اعتراف لواحد من خبراء الاستعمار الأميركي، بيتر جالبرايت: يراجع:

peter w. galbraith, the end of Iraq: how american incompetence created a war without end, publisher: simon schuster, july 2006

.14 يشار إليه اختصاراً بــpnac ، وهو مشروع كان محوره تثبيت الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، وترافق مع ذروة الصعود الأميركي بعد مرور العشرية الأولى على سقوط نظام الثنائية القطبية، يراجع التقرير الصادر عن مركز التفكير الذي أنشأه المحافظون الجدد:

a report of the project for the new american century september 2000.

.15 يشار إليها في الإعلام بــ: «تقرير بيكر-هاملتون»، نسبة إلى كل من الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب لي هاملتون ووزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، للاطلاع على التقرير كاملاً:

james a. baker, iii, andlee h. hamilton, co-chairs, t heiraq study group report, vintage books a division of random house, inc.new york, 2006.

.16 على سبيل المثال تمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الأسلوب الذي تناول به معهد واشنطن الموالي لـ»إسرائيل» اتفاق الخطوة الأولى بين إيران والولايات المتحدة، وتشبيه الربط بين الصراع السوري والملف النووي الإيراني بالربط بين القضايا في تقرير بيكر هاملتون، يراجع: ديفيد شينكر وويكلي ستاندرد، ربط الصراع السوري بالاتفاق النووي الإيراني، معهد واشنطن، 13 كانون الأول 2013.

17. فريديريك كيغان، اختيار النصر: خطة للنجاح في العراق، معهد المشروع الأميركي، ترجمة علي الحارس، شبكة مستقبل العراق، سلسلة ترجمات، 5 كانون الثاني 2007.

18. نقدم نماذج لتلك الاتجاهات، وهي كالتالي: ريتشارد هاس وراي تاكيه وجون ميرشايمر وستيفن والت إضافة إلى الزوجين هيلاري مان ليفيريت وفلنت ليفيريت، وغيرهم كثير من ذوي التأثير في الرأي العام الأميركي، وقد سمح السياق المذكور بتظهير تلك الأصوات في الإعلام كتعبير على ضرورة الانكفاء أمام التحولات الجديدة.

.19 تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة، حالة حقوق الإنسان في فلسطين في الأراضي العربية المحتلة الأخرى، منشورات الجمعية العامة، 23 أيلول 2009.

.20 يراجع خطاب هيلاري كلينتون أمام الإيباك سنة 2010، على الموقع الالكتروني للمنظمة.

.21 ركز التقرير على أن الولايات المتحدة الأميركية ينبغي عليها الانسحاب من المشاكل المرتبطة بتحولات النظام الدولي الراهن، وهو ما يمكن أن نعتبره تكريساً لكل تلك الوثائق المشار إليها، يراجع نص التقرير:

national security strategy ,may 2010.

.22 كتبت هيلاري كلينتون مقالاً بخصوص منطقة الباسيفيك مستفيضة في الحديث عن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يستدعي بحسب وجهة نظرها تأسيس حلف للباسيفيك كما تم تأسيس حلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان هذا الطرح مغايراً للتناول الاستراتيجي الأميركي الذي دأب عليه مفكرون وخبراء أمثال بريجينسكي من خلال تأكيد أن مصالح الأمن القومي الأميركي ترتبط بمنطقة أوراسيا، يراجع مقال هيلاري كلينتون:

Hillary clinton, america s pacific century, foreign policy, november 2011.

.23 جرى في الآونة الأخيرة توقيع اتفاق إطار في مدينة لوزان بين إيران ومجموعة الخمسة زائداً واحداً، والذي يعتبر تمهيداً لكتابة الاتفاق النهائي المرتقب صدوره في منتصف هذا العام الحالي، وتزامن ذلك مع تدخل سعودي/عربي عسكري في اليمن جرى تعليق عملياته بعد حوالى الشهر، وكلها احتدامات وإيقاعات متصاعدة تنذر بقرب الانفراج وتسوية ملفات المنطقة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى