الاتفاقات الخاصة حول اقتسام مياه أنهار الهلال الخصيب بين التنازع والتكامل والحق الطبيعي

صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

وهي إذ تتسع لمثل هذه الدراسات تبقى مجالاً مفتوحاً للحوار وطرح الإشكاليات الفكرية والسياسية وغيرها، تنشيطاً لدور الثقافة في الصيرورة الاجتماعية. علماً أن الآراء التي ترد على مساحة الصفحة تعبر عن أصحابها وليست بالضرورة مطابقة لقناعات الصحيفة.

إلا أنه انطلاقاً من القناعة الراسخة بضرورة خلق حوار فكري حول القضايا والإشكاليات كافة وما أكثرها، والتي تفرض نفسها على صاحب القرار والمثقف وقادة الرأي والمواطن في أي موقع كان، كانت صفحة الدراسات في «البناء» هي الترجمة العملية لهذه القناعة آملين أن تشكل هذه الصفحة مساحة فكرية ـ سياسية تعنى بهموم الوطن والمواطن، تدرس الحاضر لترسم المستقبل.

خليل خيرالله

المياه مصدر أساس للحياة على كوكب الأرض، حيث توفرت استقر الإنسان وبنى حضاراته. وكثيراً ما استخدمت المياه سلاحاً وأداة ضغط في الحرب والسلم، وبقصد امتلاكها قامت حروب ونزاعات وأبرمت معاهدات.

ترتبط المياه دائماً بمسألة أمن الأرض. فجميع الأطراف المعنية تشعر بأنها مضطرة للسيطرة على الأرض التي تجري المياه فوقها أو تحتها1. وهذا واقع تعاني منه منطقة الهلال الخصيب، موضوع دراستنا هذه.

الهلال السوري الخصيب2 ذو حدود جغرافية طبيعية تميزه عما سواه، تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي، حاضنة خليج الاسكندرون ومدينتي أطنة ومرسين، وجبال البختياري زوقروس في الشمال الشرقي، حاضنة منطقة الأهواز والخليج العربي في الجنوب الشرقي إلى قوس الصحراء العربية وخليج العقبة شاملةً شبه جزيرة سيناء، ومن البحر الأبيض المتوسط في الغرب شاملةً جزيرة قبرص.

هذه البيئة الممتازة ذات الحدود الواضحة، تدين بخصبها إلى شبكة الأنهار التي تنحدر من قوس جبالها الشمالية والشرقية وسلسلة جبالها الموازية للبحر الأبيض المتوسط غرباً: في المنحنى الكبير ما بين البختياري وطوروس ينبع النهران العظيمان دجلة والفرات ويسيلان حتى الخليج العربي فيرويان القسم الشرقي والأوسط من الهلال الخصيب. ومن البختياري في الجنوب الشرقي يسيل نهر القارون ويصب في شط العرب. وفي الشمال الغربي نهران آخران هما جيحون وسيحون يرويان الأراضي الخصبة ما بين أفسس ومرعش وأطنة وطرسوس ومرسين. ومن جبال لبنان تتفجر الأنهار التي تروي الأودية والسهول وأهمها نهر العاصي الذي يروي سهول الغرب الشمالية ماراً بحمص وحماه إلى أنطاكيا، ثم نهر الأردن الذي يسقي الجنوب في اتجاهه نحو البحر الميت.

في مطلع القرن العشرين دخلت منطقة الهلال السوري الخصيب دائرة الأطماع الدولية وشملها الاحتلال الفرنسي – البريطاني تحت عنوان الانتداب، فاقتسمتها هذه الدول بموجب معاهدة سايكس-بيكو عام 1916، وعنها نشأت دول أصبح لكل منها مصالحه وسياساته.

وهكذا ظهرت دولة الكويت ومملكة العراق وإمارة شرق الأردن من النفوذ الإنكليزي وأصبح لفلسطين وضع خاص تحت الانتداب الإنكليزي مهّد لإقامة دولة «إسرائيل». ومن النفوذ الفرنسي ظهرت دولة لبنان الكبير والجمهورية السورية بعد أن فشل مخطط إنشاء كيانات طائفية صغيرة فيها دولة العلويين ودولة جبل الدروز ودولة حلب ودولة دمشق . وفي معاهدة سيفر 20 تشرين الأول 1921 تنازلت فرنسا لمصطفى كمال تركيا عن كل أراضي كيليكيا الخصبة الواقعة شمال وشرق الاسكندرون وكل الأراضي الواقعة أسفل طوروس لتعود وتتخلى له عام 1939 عن لواء الاسكندرون.

وقد شهد عام 1948 قيام دولة «إسرائيل» برعاية بريطانية واعتراف الدول العظمى بها كما واعتراف الدول الإقليمية إيران وتركيا منذ قيام هذه الدولة.

وسبق ضياع الأهواز السورية في معاهدة القسطنطينية عام 1913-1914، تثبيت لاتفاق أرضروم الثانية عام 1847 بين السلطنة العثمانية وإيران وبضغوط من بريطانيا لتحقيق مصالحها في النفط والنقل3. وبعدها كان ضياع سيناء عام 1892 وقد كرسته بريطانيا عبر تهديدها السلطان العثماني وإنذاره بسحب فرقه العسكرية من طابا عام 1906 4، فضمتها إلى نفوذها في مصر لحماية قناة السويس.

وبفعل الواقع السياسي الحاضر الناتج من تقسيم الهلال السوري الخصيب ونشوء الدول فيه والتنازل عن أجزاء من أرضه إلى الدول المجاورة، أصبحت أنهاره الكبرى، التي تشكل مصدر خصبه وأساس وحدة أرضه وشعبه، «أنهاراً دولية» أي أنها أصبحت تفصل بين أراضي دول مختلفة أو تنبع في دولة وتجري أو تصب في دولة أخرى، ما جعلها مصدر أطماع ونزاعات بين دوله ودول الجوار. هذا الواقع الجديد الذي لم تعرفه المنطقة من قبل، جعل من تاريخ المياه في هذه المنطقة في المئة سنة الأخيرة تاريخاً من النزاعات والاتفاقات الخاصة بين دولها والتعاملات التي لم ترقَ إلى معاهدة عامة دائمة بين بلدانها تنظم المشاركة في أنهارها «المتعددة الجنسيات»، مع تصميم كل دولة على ادعاء الملكية والاحتفاظ بالسيطرة الحصرية على مياه النهر الذي يمرّ بأراضيها. وهذا ما يظهر مدى أهمية الاتفاق على اقتسام المياه في حياة منطقة شبه جافة لولا أنهارها لما صمدت أمام زحف الصحراء.

إن تقطيع أوصال الأمة ذات الدورة الحياتية الواحدة وجعل التنازع والقلق قاعدة تعاملاتنا بدل التفاعل والتعاون ألحق بنا، وبحقوقنا الطبيعية الأساسية، خسارة لا تعوّض. وأصبحت قضية أمننا المائي «قضية استراتيجية محورية، قضية تمتد من جنوب لبنان إلى سورية والعراق، إلى نهر الأردن…5. ويبقى السؤال: ما هي الأسباب العميقة وراء النزاعات حول اقتسام مياه أنهارنا؟ وهل استطاعت الاتفاقات الخاصة أن تحلّ المشكلة أم أن الأمر يحتاح إلى عامل مساعد آخر، يقرن النص بالنية السليمة المبنية أقله على تطبيق قواعد القانون الدولي وأفضله على المصالح الحقيقية الواحدة والمشتركة؟

تتناول هذه الدراسة مسألة الاتفاقات الخاصة بين دول الهلال الخصيب حول اقتسام مياه أنهارها وكيف تسري على استثمارها مبادئ التنازع أو التعاون والاقتسام المنصف على ضوء المبادئ القانونية الدولية.

ستتم الإجابة على هذه الأسئلة عبر مدخل الإطار القانوني الدولي لهذه الأنهار ومحورين هما الاتفاقات المتعلقة بنهري دجلة والفرات أولاً والاتفاقات المتعلقة بالعاصي والنهر الكبير الجنوبي والأردن ثانياً .

مدخل: الإطار القانوني الدولي لأنهار الهلال السوري الخصيب:

نورد أولاً لمحة عن القانون الدولي العام لجهة مفهوم النهر الدولي ثم نستعرض تطور مبادئ الاستفادة من مياه الأنهار الدولية.

القانون الدولي العام:

تطور مفهوم النهر الدولي في القانون الدولي العام، وهي تسمية وضعت قيد التداول بعد نشوء الدول ومفهوم السيادة. وقد ارتبط هذا المفهوم بمعيار الملاحة في معاهدة باريس للسلام في 30/5/1814 وفي الصك النهائي لمؤتمر فيينا في 9/6/1815 الذي نصّ في المواد 108 166 على «حرية الملاحة النهرية»، وبقي لمدة قرن من الزمن ميثاقاً للقانون النهري الدولي6.

مع مؤتمر برشلونة في 20/4/1921 تراجع معيار الملاحة إلا إذا شكلت الوظيفة الاقتصادية الأساسية للنهر. ثم تطور مفهوم النهر الدولي إلى فكرة الحوض الهيدروغرافي معهد القانون الدولي سالزبورغ 1961 أو فكرة حوض الصرف جمعية القانون الدولي دوبروفنيك عام 1956 وهكذا نرى أن نظرية الحوض النهري، بدأت تتفوق شيئاً فشيئاً على المفهوم التقليدي للنهر الدولي، وهذا ما سوف يجسده اتفاق الأمم المتحدة لعام 1997 7. فقد ظهر أخيراً مصطلح المجاري المائية الدولية في اتفاق الأمم المتحدة تاريخ 21/5/1997، فحددته المادة الثانية «إنه المجرى المائي الذي تقع أجزاؤه في دول مختلفة، والذي تشكل مياهه السطحية والجوفية، بحكم علاقاتها الطبيعية المتداخلة، كلاً واحداً، والذي تتدفق مياهه صوب نقطة وصول مشتركة»8. وهذا المفهوم يشمل الامتداد الفيزيائي للحوض النهري والبحيرات والأقنية والمياه الجوفية المتصلة.

هذا الاتفاق هو اتفاق إطاري نص على مبادئ أساسية لتقاسم الموارد المائية للمجاري الدولية. بعض مواده يعتبر عرفاً دولياً تلتزم الدول احترامه والعمل به، «وقد كانت أول مرة تتفق فيها الدول بالإجماع على معاهدة تتعلق بالمياه»9. وقد أعطى هذا الاتفاق فرصة للدول الأطراف التي عقدت اتفاقيات خاصة حول المياه أن يعيدوا النظر، إذا شاؤوا، بهذه الاتفاقات كي تتوافق مع القواعد العامة الواردة فيها.

تطور نظريات ومبادئ الاستفادة من مياه الأنهار الدولية:

ظهرت تاريخياً نظرية السيادة الإقليمية المطلقة نظرية هارمون 1895 وتعني استخدام مياه الأنهار العابرة استخداماً منفرداً إلى أقصى الحدود من دون اعتبار الضرر الحاصل جرّاء ذلك للدول الأخرى. ثم ظهرت نظرية السيادة الإقليمية المقيدة، وهي تسمح للدولة باستخدام المياه الجارية في أراضيها بحرية شرط عدم الإضرار بمصالح دول متشاطئة أخرى بيان ستوكهولم 1961… ولجنة القانون الدولي 1994 . كما ظهرت نظرية الانتفاع المشترك بالمياه الدولية وهي تعني تساوي الحقوق وتكاملها من دون انفراد.

أما النظرية الأخيرة، نظرية المنافع المتوازية، فترتكز إلى مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للانتفاع والمشاركة في مياه المجاري الدولية. وعلى الدول التزام واجب التعاون ومبدأ عدم إلحاق أضرار ملموسة بالدول المتشاطئة الأخرى مادة 7 بند 1 من اتفاق 1997 وواجب إخطار الدولة المشاطئة للنهر قبل ستة أشهر من إجراء استعمالات جديدة، فاسحةً بذلك مجال الاعتراض10. هذه المبادئ استقرت عليها الاتفاقات الدولية والأعراف قبل أن يؤكدها اتفاق الأمم المتحدة لعام 1997 الذي نأمل إدخاله حيز التنفيذ باكتمال المصادقة عليه.

ما هي هذه الاتفاقات؟ وهل كانت تعبيراً عن المبادئ التي أوجدتها وكرستها الاتفاقات الدولية والأعراف التي تولدت من الممارسة الدولية وأهمها التعاون؟ ثم هل أعادت دول الهلال الخصيب النظر في هذه الاتفاقات على ضوء اتفاق 1997 وما تضمنه من مبادئ التعاون والتواصل؟ ندرس ما تعلق بهذه الأنهار من اتفاقات مبتدئين من شرق الهلال الخصيب أولاً حتى غربه ثانياً .

أولا: الاتفاقات المتعلقة بنهري دجلة والفرات:

دجلة والفرات هما أكبر أنهار الهلال السوري الخصيب، و»لولا التقسيم الاستعماري الذي شهدته منطقتنا العربية، لكان النهران عربيين مئة في المئة، إذ كانت حدود سورية الطبيعية تمتد حتى جبال طوروس، وبالتالي كان منبعهما عربياً خالصاً11». أما الدول التي تشترك اليوم بمياههما منبعاً ومصباً فهي تركيا والجمهورية السورية والعراق وإيران كما تشترك السعودية في المياه الجوفية للحوض الجنوبي الغربي للفرات بنسبة 15 في المئة منه.

أما ما يميز الاتفاقات المعقودة حول هذه الأنهار، فهي كونها ثنائية تتم بين الدول المتجاورة من دون الدول الأخرى، وغالباً ما تركزت على حق الحصول على المياه. وينكر كل من تركيا وإيران وهما دولتا منبع، صفة هذه الأنهار الدولية وتدعيان حقاً مطلقاً على مياههما التي تمر أولاً في أراضيهما.

سنعمد أولاً لدراسة الاتفاقات المتعلقة بالحوض الشرقي لنهر الفرات والتي تمت بين إيران والعراق أثناء الاحتلال العثماني وبعده، ثم ندرس الاتفاقات الحاصلة مع تركيا حول الحوضين الشماليين لكل من النهرين.

الاتفاقات المتعلقة بحوض دجلة الشرقي بين العراق وإيران: مسألة شط العرب

إن المشكلة بين العراق وإيران حدودية على الأرض في الشمال والوسط وحدودية أيضاً على المياه في جنوب شرقي العراق. ويطاول النزاع مسألة مياه الأنهار وبخاصة شط العرب كأحد اسباب النزاع الرئيسة بين الدولتين. فمن أصل 25 نهراً صغيراً تنبع من سلسلة جبال زغروس على امتداد الحدود من الشمال إلى الجنوب وتصب في روافد دجلة وتمثل 12 في المئة من موارد العراق المائية، يتناول النزاع عشر أنهار منها ومرده إلى قيام إيران بتحويل هذه الأنهار أو إنشاء سدود وخزانات وأقنية تمنع المياه من التدفق باتجاه الأراضي العراقية12.

أكثر هذه الأنهار أهمية هو نهر قارون كارون الذي يروي الأحواز ويزود شط العرب بحوالى 27 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، وتتحكم إيران بمياهه منذ أن أنشأت عليه السدود منذ عام 1962 وبعد عام 1972، ما أدى إلى انخفاض كمية مياهه التي تصل إلى شط العرب. وقد أدى ذلك، إضافة إلى المشاريع التركية في أعلى نهري دجلة والفرات ومن دون إهمال السياسات العراقية غير الرشيدة، إلى التأثير في منسوب المياه في الشط وظهور الملوحة فيه.

يبدأ شط العرب، وهو ذو أهمية استراتيجية كبيرة، من التقاء نهري دجلة والفرات على بعد 75 كم شمال البصرة. ويبلغ طوله 204كم ويتراوح عرضه بين 350 و1250 متراً ويصل إلى 2000 متر عند المصب قرب الفاو في الخليج العربي، وهو اليوم وسيلة للمواصلات والملاحة للعراق وإيران، وحوله دارت مشاكل عديدة بين البلدين، أخطرها كانت الحرب الأخيرة في ثمانينات القرن العشرين. وكونه ممراً للملاحة فهو مهم للعراق أكثر مما هو لإيران كونه المنفذ الوحيد للعراق على الخليج العربي، بينما تملك هي منافذ عديدة في الشمال والجنوب.

منذ احتلال السلطان العثماني سليم لكامل سورية الطبيعية في عام 1516 نشأ نزاع حدودي مع إيران بعد معركة كالديران عام 1514 فتم عقد اتفاق زهاب قصر شيرين بين الترك والفرس عام 1639. بعد قرنين من المشاكل الحدودية وقيام حرب بين الجانبين عقد اتفاق أرضروم 1823 ثم تلاه اتفاق أرضروم الثاني في 31 أيار 1847 بوساطة بريطانية ـ روسية، بعدما أدركت بريطانيا أهمية منطقة شط العرب لتأمين مواصلاتها، وفيها اعترفت السلطنة العثمانية بسيادة إيران على مدينة المحمرة ومينائها وجزيرة خضر عبدان والمرسى والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية من شط العرب مع الاعتراف بكامل مياهه للعراق العثماني. وفي عام 1913 وقع بروتوكول القسطنطينية حول الحدود تحت إشراف بريطانيا، بعد ظهور النفط في منطقة الأهواز، ويؤكد هذا الاتفاق الاتفاق السابق. وفي عام 1937 وقع اتفاق جديد بضغط بريطاني أعطى لإيران حقوقاً في شط العرب، ومكاسب جديدة منها حرية الملاحة للبلدين في الشط أمام عبدان لتأمين تحرك ناقلات النفط الإيرانية من مصافيها، وحصول إيران على بعض الجزر، وبقيت السيادة على الشط للعراق. استمرت الحال على ما هي عليه بيد أن العلاقات بين البلدين لم تكن على ما يرام في الفترة اللاحقة لاتفاق 1937 حتى عام 1969 عندما أعلن الشاه محمد رضا بهلوي إلغاء اتفاق 1937 للحدود وطالب باتفاق جديد. وفي عام 1975 تم اتفاق في الجزائر حصلت بموجبه إيران على مكاسب جديدة، وكان الاتفاق أشبه بالصفقة بين الطرفين، وقد أراد العراق من خلالها حلّ مشاكله مع إيران لمهاجمة الأكراد في شمال العراق ووضع حد لمساعدة إيران لهم.

وهكذا، فإننا نرى عدم استقرار العمل بهذه الاتفاقات، بينما نلاحظ غلبة الجانب السياسي في اتفاق 1975 على الجانب الفني والحقوق الجغرافية الحدودية، فلم تكن حلاً لمشاكل حدودية وإنما تلبية لرغبة عراقية في إخماد الصراع الكردي المسلح بقيادة مصطفى البرزاني المدعوم آنذاك من الشاه محمد رضا بهلوي، فتم ترسيم الحدود وفقاً لما تريده إيران، أي وفق بروتوكول 1913. وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1978 ساءت العلاقات بين البلدين وبتاريخ 17/9/1980 أعلن العراق إلغاء اتفاق الجزائر وقامت الحرب العراقية ـ الإيرانية الأخيرة 1980 1988، ما يعني أن الوضع القانوني لشط العرب بقي على ما هو عليه في الاتفاقات السابقة.

الاتفاقيات المتعلقة بحوضي دجلة والفرات الشماليين بين العراق والجمهورية السورية وتركيا:

ينبع كل من دجلة والفرات من هضبة أرمينيا شرق تركيا الحالية في سلسلة طوروس الشرقية، وبالتحديد في المنحنى الذي يلتقي فيه طوروس مع زغروس ويسيلان جنوباً ليشكلا ما يعرف تاريخياً وجغرافياً ببلاد ما بين النهرين. يبلغ طول دجلة حوالى 1850كم، يقطع منها 400كم في تركيا الحالية ويشكل الحدود بينها وبين الجمهورية السورية لمسافة 32 كم ثم يدخل الأراضي العراقية مسافة 1418كم مشكّلاً بذلك حوضاً يبلغ 875 ألف كم مربع. ومنسوبه الوسطي 1400 متر مكعب في الثانية.

أما الفرات فيبلغ طوله 2330كم يمر 420 كم منه في تركيا و680كم في الجمهورية السورية و1235 في العراق، مشكلاً حوضاً مساحته 444 ألف كم مربع، وتجدر الملاحظة أن 88،7 في المئة من إيرادات هذا النهر تأتي من تركيا وتساهم الجمهورية السورية بنسبة 11،5 في المئة منه ولا يساهم العراق في أية كمية منه.

وغني عن الإشارة أن بلاد ما بين النهرين عرفت خصبها وحضاراتها في التاريخ بفضل المياه المتدفقة من هذين النهرين، والعلاقة التي ربطت إنسانها بالمياه وبهذا المحيط الإقليمي هي التي صنعت تاريخه ولا تنفك تصنع سياساته.

أما العلاقات التركية مع جيرانها في العراق والجمهورية السورية، والتي طبعت كامل القرن العشرين، فهي أساساً علاقات تنافر متبادل مرتكز إلى عدم ثقة وحذر تاريخيين. أما النزاعات على اقتسام مياه دجلة والفرات فهي تطاول حق دول أسفل النهرين بكمية كافية من المياه وهي حقوق تنكرها تركيا بذرائع قانونية متعددة، منها أن هذه أنهار عابرة للحدود وليست أنهاراً دولية، وبالتالي فهي أنهار وطنية تمتلكها ويحق لها استثمار مياهها كما تشاء، وأن النهرين يشكلان حوضاً واحداً وأن دولتي أسفل النهرين لا يحسنان إدارة المياه التي تصلهما. محققة بذلك معادلة «عالية النهر تحكم سافلته». ولم نلمح حتى الآن، على رغم إيجابية العلاقة بين هذه الدول منذ بدايات القرن الحالي، ما يبدل في هذه الاعتبارات.

نستطيع تمييز ثلاث حقبات من الاتفاقات بين تركيا والجمهورية السورية والعراق: الحقبة الأولى، إثر نهاية الحرب العالمية الأولى عكسها اتفاق سايكس بيكو في مرحلة الانتداب الفرنسي البريطاني. والحقبة الثانية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى مطلع السبعينات، وهي مرحلة بدء الاهتمام بالتعاون وإجراء المفاوضات. وأخيراً الحقبة الحالية وتميزت بالتفرد في إنشاء السدود الضخمة من الجهة التركية والاستثمار الأقصى للموارد المائية.

ويبدو أن من المهم دراسة الإطار التنظيمي الذي وضعته هذه الاتفاقات وأرست فيه مبادئ عامة تشدد على حقوق أسفل الأنهار.

مرحلة الانتداب الفرنسي البريطاني:

إن تقسيم وتقاسم سورية الطبيعية أوجد على أراضيها دولاً وتخلى عن أجزاء من شمالها إلى تركيا، حيث توجد أعالي أنهارها العظيمة، فأوجد بذلك تضارباً في المصالح والحقوق وتنازعاً حول الموارد. وكان على دول الانتداب أن تتفق مع تركيا وفي ما بينها لضمان حقوق معينة بالمياه، وهذا ما ورثته دولنا وما يقلقها الآن وحتى أجيال لم تولد بعد. وأهم هذه الاتفاقات:

اتفاق سايكس – بيكو 16 أيار 1916 ، لحظ بنداً يتناول «ضمان كمية محددة من مياه نهري دجلة والفرات من المنطقة أ إلى المنطقة ب» البند 4/2 .

اتفاق باريس تاريخ 23 كانون الأول 1920 بين فرنسا الدولة المنتدبة على سورية وبريطانيا الدولة المنتدبة على العراق حول استعمال المياه في ما بين النهرين، وترتكز إلى مبدأ التفاهم المشترك وحماية حقوق بلدان أسفل النهر. ولحظ الاتفاق إنشاء لجنة خبراء مسبقاً لتقييم تأثير أي مشروع ري محتمل تقوم به فرنسا كدولة منتدبة على سورية ومن شأنه أن ينقص بشكل ملموس مياه دجلة والفرات لدى وصولها إلى منطقة الانتداب البريطاني. وهذا الاتفاق ورثه العراق والجمهورية السورية بعد استقلالهما13.

اتفاق 20 تشرين الأول 1921 واتفاق أنغورا تاريخ 30 أيار 1926.

اتفاق 20 تشرين الأول 1921 أو اتفاق فرانكلين بويونغ يوسف كمال وقع في أنغورا أنقرة اليوم وهو يتعلق بتأمين احتياج مدينة حلب من مياه نهر قويق رافد لنهر الفرات وبإمكان جر مياه الفرات. والهدف من الاتفاق إقامة حدود جديدة شمال حلب بحيث لا تحرم المدينة من حاجتها للمياه. ونصت المادة 13 على «تقسيم مياه قويق بين مدينة حلب ومدينة الشمال ومنطقتها والتي بقيت تركية، وذلك بطريقة ترضي الطرفين كليهما بشكل متساو».

اتفاق أنغورا تاريخ 30 أيار 1926 عالج «الصداقة وعلاقات حسن الجوار بين تركيا وسورية في ظل الانتداب الفرنسي». وقد نصّ على أنه «من أجل تلبية حاجات المناطق التي تروى حالياً من مياه نهر قويق وحاجات مدينة حلب، على تركيا أن تزيد من صبيب نهر قويق أو حتى، تسمح… بقناة لاستجرار مياه الفرات أو لربما لجمع الطريقتين معاً»14.

لكن ما يمكن تسجيله أن هذه الاتفاقات حول مياه نهر قويق الذي يمر قرب حلب ويضيع في مناطق السبخات جنوب المدينة، قد نقضتها تركيا ولم تنفذ وعودها منذ عام 1940، إذ لم تعد المياه تصل إلى حلب. ثم عمدت في مطلع الستينات إلى تحويل مجرى النهر، وفي مطلع السبعينات لاقى نهر عفرين المار في وسط حلب المصير ذاته.

معاهدة لوزان 1923: طالب هذه الاتفاق المادة 109 منه بضرورة تشكيل لجنة مختلطة من دول المنطقة الثلاث، المكلفة بإدارة النزاعات التي يمكن ان تنشأ من المشاريع الهيدروليكية15. وقد أرست تفاهماً بين الدول المعنية من شأنه أن يحفظ المصالح والحقوق المكتسبة من كل منها في ما يتعلق بأنظمة الريّ والأقنية والفياضانات والتجفيف وغيرها. وفي ذلك الوقت كانت دول أسفل النهر الجمهورية السورية والعراق هي التي تستغل مياه دجلة والفرات وكانت بنود المعاهدة موجهة لحماية موقعهما. وقد اشترطت المعاهدة أن تعمد تركيا إلى استشارة العراق قبل إقامتها أية منشأة هيدروليكية.

اتفاق أنغورا 22 حزيران 1929 تحديد الحدود بين نصيبين وجزيرة ابن عمر وفيها قررت فرنسا أخذ مطالب تركيا بعين الاعتبار، بحيث تتجه الحدود نحو بابيل لتصل حتى دجلة، تاركةً لتركيا عدداً من القرى وطرق المواصلات.

البروتوكول النهائي 3 أيار 1930، الذي صادق على اتفاقات أنغورا التي سبق توقيعها بين فرنسا وتركية 1921-1926-1929 والتي عالجت القضايا التي أثارتها الملكية المشتركة لنهر دجلة تخطيط الحدود السورية ـ التركية .

د. في الحقوق

1 بيتر روجرز وبيتر ليدون، المياه في العالم العربي آفاق واحتمالات، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ترجمة شوقي جلال، أبو ظبي 1997 ص. 415 – 416

2 الهلال الخصيب تعبير أطلقه عالم الآثار الأميركي بريستد في أوائل القرن العشرين على المنطقة الحضارية الممتدة على شكل حدوة حصان أو هالة تتوج بالخصب أطراف البادية السورية بادية الشام شاملةً فلسطين ولبنان وسورية وسهول ما بين النهرين… هذا الموقع يعطيه أهمية متقدمة في التاريخ فهو قلب الشرق كونه يربط بين مصر وإيران كالقوس ويلامس الأناضول بين البحر والجبل والبادية مع منافذ على الغرب عبر البحر المتوسط، وعلى الهند والشرق الأقصى عبر الخليج الفارسي.

Croissant fertile, encyclop die universalis, http: //www.universalis.fr/encyclopedie/croissant-fertile consultation juin 2010

3 Schofield, Richard N., old boundaries for a new state: the creation of Irac eastern question. SAIS Review volume 26, n.1, Winter Spring 2006, pp. 27 39.

4 Ren e Neher Bernheim, Frontieres de Sina , un si cle de diplomatie au moyen orient , 1840-1948, politique trangere, year 1971,v.36,issue2 pp. 147- 164

5 جريدة «نداء الوطن»، الأربعاء 23 حزيران 1993.

6 محمد المجذوب، القانون الدولي العام، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الخامسة، 2004 ص.350

7 Patrick Daillier, Mathias Forteau, Alain Pellet, Droit international public, LGDJ Point Delta, 8 e edition 2009 pp1374

8 محمد المجذوب المرجع السابق ص.356

9 مروى داوودي، لقاء قانوني في جامعة بير زيت «القانون الدولي والصراع حول المياه بين الفلسطينيين والإسرائيليين» نشرة القدس 27/5/2010، www.alkuds.com/print/261732 استشارة 16 حزيران 2010

10Patrick Daillier, ibid n. 715 pp. 1374

11 د. صبحي العادلي، مفهوم النهر الدولي وواقع بعض أنهار المشرق العربي،2007. .syrleb.org/reports/2004committies2004 3.aspتاريخ الاسترجاع تموز 2010

12 أوردت جريدة الحياة اليومية الصادرة في لندن أنه تأكيداً لأهمية موضوع المياه بين إيران والعراق، فإن من بين ما بحثه علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيران في زيارته الأخيرة إلى العراق، إنشاء لجنة فنية لبحث موضوع المياه وتم إعلان أن ملف نهري القارون والكرخة، وكل الأنهار التي تنبع من إيران كانت من ضمن جدول أعمال المحادثات ، الحياة ، أين المياه في الـ تسونامي الإيجابي التركي؟ الجمعة 11 كانون الأول 2009.

13 Societ des nations, Recueil des traits, volume 22 trait n.564 p.353 373

14 Societ des nations, Recueil des trait s , volume 54 traite n. 1284. 1926 1927, p.177 229 Asie Francaise xx1, nov. 1921, p. 416 418.

15 AYEB HABIB , L eau au proche orient. La guerre n aura pas lieu, op.cit. p.105

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى