«درب الياسمين»… سلسلة مترابطة على طريق التحرير الكامل

عبير حمدان

يختلف عبق التراب حين يعانق انسكاب الشمس على أغصان شجر الليمون. كان الليل مزنّراً بوميض العيون الساهرة ذات زمنٍ. هناك عبروا، لم يفضحهم نسيم أيلول. فهذه الأرض لهم، ودرب النصر يشعّ بنور الساجدين على مشارف الروح.

في الخامس من أيلول 1997، وقعت كتيبة «كوماندوس إسرائيلية» في كمين للمقاومة في بلدة أنصارية الجنوبية. ولاحقاً، نشر التلفزيون الصهيوني تقريراً حول المذبحة التي وقعت في صفوف الكتيبة التي حاولت نصب كمين لمقاتلي حزب الله اللبناني عام 1997 في جنوب لبنان، فوقع نحو 40 من أفرادها بين قتيل وجريح .

كانت نقطة التحول في الفعل المقاوم، إذ انتقل الصراع إلى مرحلة متقدمة، وبدأت حرب الأدمغة لتنتصر المقاومة أيضاً.

رمزية عملية أنصارية شكّلت مادة درامية ترجمها الكاتب السوري الدكتور فتح الله عمر نصّاً بتوقيع المخرج إيلي فؤاد حبيب، ليأتي «درب الياسمين» دعوة تبشر بالمزيد من الانتصارات في ظل واقع عربيّ مأزوم.

للتسمية بُعداها الثقافي والسياسي، اللذان لا ينفصلان عما نعيشه من انقسام حول ماهية الوطنية وكيف تُقاس الحرية في زمن أضاع البعض البوصلة عن القضية المركزية.

تدور العدسة بين أشجار الليمون، وترنو العين إلى ملامسة فوهات البنادق. لا نعلم إذا ما كان بين الحاضرين رجالٌ عاهدوا الله وما بدّلوا تبديلا، ربما هم على مقربة منّا يبتسمون بصمت حين يصلهم حجم تساؤلنا عن سرّهم المكنون، عن مقدرتهم على العطاء حتى الرمق الأخير. ولعلهم يدركون مدى ولائنا حين يلمحون بريق النظرات المشبعة بالدهشة، وكأن السنوات عادت أعقابها حيث كمنوا وفازوا.

بعد «الغالبون»، قامت البنادق وفاض التراب بحبيبات الملح على الجبين، لنسير وقناة «المنار» في رمضان المقبل على «درب الياسمين». فهل نرفع الراية قريباً على أرض فلسطين لنكتب التاريخ كما هو، ونواجه نمطية الأعمال الدرامية التجارية الفارغة من المضمون بما نملكه من مخزون قادر على الإبداع، إذ يصبح الفن وجهاً آخر من وجوه المواجهة.

كارولس عازار: أعيش تجربة جديدة

تبدو ملامح كارولس عازار منسجمة مع طبيعة العمل، وكأنه آت من قلب الحدث بواقعيته، لا ناقلاً مشهدية درامية. «آكشن»، ويتكرر المشهد أكثر من مرة، فننتظر أن يخرج عازار من شخصية المقاوم ليخبرنا عن دوره في عمل يدور في فلك المقاومة وبيئتها فيقول: «في العمل ألعب دور الحاج محمود ضاهر، وهي شخصية ترتبط بالمقاومة بإطار رمزيّ، وليس بالضرورة أن تكون شخصية حقيقية، فنحن هنا لا نُجسّد سيرة ذاتية لمقاوم محدد. ما نقدمه في هذا المسلسل تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها أيّ مقاوم، فهو إنسان عادي كأقرانه، لديه عائلة وأولاد وعلاقات اجتماعية. والفرق بينه وبين ما سبقه من أعمال درامية تناولت بيئة المقاومة، أنه ابتعد بعض الشيء عن الحياة العسكرية. في الأعمال السابقة كان هناك كمّ كبير من العمليات العسكرية على حساب الخطوط الدرامية الأخرى. ولكن في هذا العمل، سيرى الجميع دراما اجتماعية فعلية، أضف إلى ذلك أن مخرج العمل لبنانيّ بعدما اعتدنا على تعاون الجهة المنتجة لهذه الأعمال مع مخرجين سوريين».

ويتابع في إطار متصل: «أجزم أنني أعيش تجربة جديدة، هذه التجربة لا تشبه كل ما قدّمته سابقاً. هنا حيّز مختلف متمثل بالحياة العسكرية، وطريقة التمثيل يجب أن تكون مختلفة وملتزمة في مكان ما».

إذاً هناك صعوبة؟ يجيب عازار: «بالطبع هناك صعوبة، وفي ذلك تحدٍ. ومن الجيد أن أخوضه».

لكن ألا يخشى عازار من «فيتو» محتمل لاحقاً كونه شارك في عمل من هذا النوع؟ يردّ: «أنا ممثل، إذا طلبوا مني تأديه دور التكفيريّ الداعشيّ فهل أصبح داعشياً مثلاً؟ وطبعاً لا مجال للمقارنة، فأنا هنا أجسد دور شخص من وطني دافع عن الأرض وحرّرها من المحتل، ولا يعنيني أي أحد قد يعترض، لأن من لا يتقبل من يختلف معه في الرؤية والتوجه لا يستحق العناء».

ويختم عازار من بلدة أنصارية حيث تمت العملية التي أطبق فيها المقاومون على فرقة الكوماندوس الصهيونية بالقول: «نصوّر اليوم عملية أنصارية، ومن جهتي أتعمق بدوري. ولكن الشعور الذي يعيشه المقاوم يختلف طبعاً، ومن الصعب بلوغه بدور تمثيلي. نحن الآن نحتفل بعيد النصر والتحرير، وعلى أرض الجنوب ومن درب الياسمين أبارك لكل اللبنانيين في هذا العيد».

إيلي حبيب والانتماء المقاوم

من ناحيته، يرى مخرج العمل إيلي فؤاد حبيب، أنه من البديهي أن يضع أي مخرج لبناني توقيعه على دراما تروي سيرة المقاومة. ولكن لماذا وقع الاختيار عليه دون سواه من قِبل الجهة المنتجة يجيب: «في الأعمال السابقة، كان هناك تعاون مع زملاء سوريين، ومع كامل تقديرنا لهم، إلا أنه من الطبيعي أن يحمل عمل مرتبط بالمقاومة توقيعَ مخرج لبناني. فهذه المقاومة لبنانية وتنتمي إلى بيئة لبنانية، والمخرج اللبناني يعرف تفاصيلها أكثر. أما لماذا اختاروني أنا تحديداً، فأظن أن الجواب سيأتي بشكل أفضل من الجهة المنتجة، ومن الصعب أن أتكلم عن نفسي في هذا الإطار. قد تتحدث أعمالي عني من جهة، ومن جهة ثانية أنا أنتمي إلى هذا الخط والنهج المقاوم، ومن هنا يمكنك القول أنه من الصعب على الجهة المنتجة أن تتعامل مع مخرج لا يعنيه مضمون العمل وروحيته، ولا تعنيه المقاومة».

لكن إلى أيّ مدى يمكن أن يتم تنفيد أعمال فنية ودرامية في الإطار المقاوم وتقديمها من دون الوقوع في فخّ التكرار أو كشف الأسرار العسكرية، يجيب حبيب: «في الشقّ العسكري أو الأمني، هناك قصص كثيرة تكلم عنها السيد حسن نصر الله ومنها عملية أنصارية التي سترونها في هذا العمل. أما في ما يتصل بالتكرار، فلا أظن أن الجهة المنتجة ستقع في هذا الفخ. هناك دائماً ما هو جديد، و«درب الياسمين» لا يكرر مشاهد ما سبقه من أعمال. في هذا العمل حالات إنسانية وخيوط درامية مختلفة، والحبّ أيضاً حالة موجودة في العمل».

وعن تعاطيه كمخرج مع الضوابط التي تتسم بها كافة هذه الأعمال لناحية تظهير حالات الحب بإطارها الطبيعي والمقنع يقول: «حين أعمل مع شاب ملتزم تربطه قصة حب بفتاة ملتزمة، فمن البديهي أن يكون تواصلهما ضمن الضوابط التي تفرضها هذه البيئة، فما الداعي كي يظهر عكس ذلك على الشاشة؟ أنا هنا أنقل الواقع، هكذا هي البيئة الملتزمة دينياً. الحبيب لا يمسك يده محبوبته إلا بإطار شرعيّ معلن، ويجب أن أنقل صورة البيئة كما هي».

أما عن مدى قدرة هذه الأعمال الملتزمة نهجاً محدّداً على منافسة باقي الإنتاجات الضخمة والمبهرة والفاخرة بقصورها، وتشريعها كل ما هو مباح فيقول حبيب: «هذه الأعمال قادرة على المنافسة إذا تمكنت الجهة المنتجة من العمل على تسويقها بالشكل الصحيح. أضيفي إلى ذلك اختيار الممثلين، فحين يأتي نجم من تلك الأعمال التي تتصف بإلابهار إلى دراما المقاومة، فإن جمهوره سيتابعه وبالتالي سيشاهد العمل، وأيضاً حين تكون القصة جيدة وجميلة وقادرة على جذب الجمهور. هناك قصص حبّ، وهنا أيضاً نرى الحبّ، والنجم الذي نحبه يقدم صورة مختلفة ونظيفة، أضيفي إلى ذلك أن هذا النمط من الأعمال يقدّم الصورة الحقيقية للمقاومة، ويمكن لمن لا يعرفها أن يتعرف إليها ليكتشف أنه كان مضلّلاً في مكان ما».

ونسأله عن رأيه كمشاهد ومؤيد للنهج المقاوم عن إمكانية أن يوصلنا هذا الدرب درب الياسمين إلى مدى أرحب، وأن نرى أعمالاً مماثلة على أرض فلسطين المحرّرة ليردّ: «أكيد، وأتمنّى أن تدور الكاميرا خاصّتي في فلسطين، الدراما والسينما ثقافة، وحين ننمّي ثقافة الناس على هذا النهج، ففي ذلك وطنية ومحفز للشعب وتكريس للحسّ الوطني، وبالتالي ستكبر الدائرة. ومن الطبيعي أن يكبر النصر حين تكون إرادة الشعب حاضرة وبقوّة».

ويختم إيلي حبيب، المخرج الذي كانت الاستشهادية سناء محيدلي تحبه وتشتري له الهدايا عندما كان طفلاً، بأنه ليس بالأمر المستغرب أن نراه لاحقاً على التخوم الشرقية، لأن ما يجري في القلمون يطاول جزءاً من أمته السورية، و«داعش» و«النصرة» الوجه الآخر للصهاينة.

أحمد زين الدين وسرّ التسمية

يؤكد أحمد زين الدين، مدير العلاقات العامة وعمليات الانتاج في «مركز بيروت»، أن «درب الياسمين» عمل اجتماعيّ عسكريّ، ويركز على مرحلة حرب الأدمغة بين المقاومة والعدو الصهيوني: كما اعتدنا، كلّ سنة نسعى إلى تقديم عمل يتناول بيئة المقاومة، بدءاً بـ«الغالبون» و«قيامة البنادق» و«ملح التراب»، وصولاً إلى «درب الياسمين». المختلف في هذا العمل أنه يركز على حرب الأدمغة بين المقاومة والعدو الصهيوني، وتحديداً عملية أنصارية لأنها كانت نقطة البداية في هذه الحرب. ونعلم جميعاً أن السيد حسن نصر الله أشار إلى كيف أن المقاومة تمكنت من اختراق التقنيات المتطورة عند الصهيوني في ما خصّ اختراق أنظمة طائرة «الامكا»، وسحب الداتا منها في اللحظة التي تصوّر فيها من الجو. خصوصية العملية تكمن في كيفية نجاح المقاومة في استدراج فرقة الكوماندوس وكيف كمنت لها. وكان المقاومون أسياد المعركة حينذاك. كما إنه يحكي عن التفاف الناس حول المقاومة، ووصلنا في المسلسل إلى أواخر عام 1999».

ويضيف في إطار متصل: «لا يكشف العمل أسراراً عسكرية، فحين تعلن قيادة المقاومة عن تفاصيل بعض العمليات العسكرية للناس تصبح هذه التفاصيل خارج إطار السرّية».

أما عن توقيع المخرج اللبناني بعد طول انتظار والكثير من التساؤلات حول هذا الأمر، فيقول زين الدين: «لا شك أن لدينا أساتذة في هذا المجال، ونحن نقدّر إبداع المخرجين اللبنانيين. جرت العادة أن نتعاون مع مخرجين سوريين ربما لأن لديهم باعاً أطول في هذا المجال، إضافة إلى العجلة الإنتاجية، والمؤسف أن المخرج اللبناني متّهم بالبطء في التنفيذ، ما لا يتناسب مع مصلحة الشركة المنتجة. أضيفي إلى ذلك التفاصيل الإخراجية والإنتاجية لدينا، والتي قد تتقاطع مع رؤية بعض المخرجين وطموحاتهم المادية، وأقول ذلك بكل محبة، ولا أخفي عليك أن من ينوي تنفيذ عمل مرتبط بالمقاومة يجب أن يملك هذا الحسّ المقاوم».

وعن تعاونهم المتكرر مع كاتب سوري يقول: «لدينا تجارب مع كتّاب لبنانيين ولكن الدكتور فتح الله عمر تمكن من الوصول إلى قلب الحالة الدرامية للبيئة المقاومة بشكل متقن، وهذا لا ينفي إمكانية التعاون مع كتّاب لبنانيين لاحقاً».

وفي ما يتصل بالتسمية، لا ينفي زين الدين البعد السياسي للعنوان المختار، وعن ذلك يقول: «العنوان ليس بالأمر الصغير، إنما هو دلالة لا تخلو من الرمزية. خطواتنا مدروسة بما في ذلك التسمية. درب المقاومين لم تكن خالية من الأشواك، ولكن الانتصارات التي حققتها المقاومة فرشت حولها وحولنا الياسمين فأصبح درب الياسمين الذي هو عبارة عن سلسلة مترابطة على طريق التحرير الكامل».

عبد الله فرحات والرمز التاريخي

يعبّر رئيس بلدية أنصارية عن فخره بالنصر التاريخيّ، وينتظر بفارغ الصبر متابعة المسلسل على قناة «المنار» ضمن باقة برامج رمضان المقبل فيقول: «في هذا البستان كمنت المقاومة للعدو وسحقته، وهذا فخر لنا. وقد أصبحت بلدتنا رمزاً تاريخياً ومزاراً لكل إنسان حرّ وشريف. ومن الجميل أن نستذكر ما حصل هنا في أيلول 1997 من خلال عمل دراميّ يضيء على الإنجاز العظيم الذي سجّلته المقاومة في بلدة أنصارية. وأثق أن المسلسل سينقل الواقع بأمانة وكما عشناه».

هنا عبرت المواكب

يأتي مسلسل «درب الياسمين» في زمن كثرت فيه الألغام الفنية والسياسية وأصبحت الخيانة وجهة نظر. قد يقول البعض إن العين سئمت دراما البطولات، والقلوب أصابها الإرهاق، فكل ما يحيط بنا يحترق، فلماذا لا نبحث عن قصص خفيفة وفيها الكثير من الخيال الجميل والوجه الحسن كي نرفّه عن أنفسنا. لكن هذا البعض يرفض الاعتراف بنظرية المؤامرة الساعية إلى تسطيح كل ما له قيمة وصولاً إلى قتل الأمل والوجود. المشهدية الفنية مرآة الشعوب بما تختزنه هذه الشعوب من ثقافة ووعي وأحياناً بساطة فطرية إنما مثمرة بإيقاعها وتنوّعها، وليس معيباً أن نبحث عن مساحة من الترفيه لبعض الوقت، لكنّ الكارثة تقع حين يصبح هذا الترفيه قاعدة، والأعمال المستمدة من الواقع شذوذاً.

منذ أدركنا النور في هذه البقعة من الشرق مشينا على طرقات مشوبة بالأشواك، وحملنا قضيتنا المركزية على أكتاف غضة، فكان الزيت المغلي وحجارة الأرض أولى استراتيجيات الردع إلى أن أنبتت سهولنا بنادق باركها الغيم والبحر والشجر والمطر وملائكة السماء. وحدهم أهل الأرض من يملك الحق بترجمة الحكاية فقد صبروا وقاوموا وانتصروا من دون مِنّة من أحد. حكايات النضال لا تحتاج إلى أموال مشبوهة كي تثمر، والنصر رايته بلون الشمس.

على «درب الياسمين» عبرت المواكب، بين أشجار الليمون جمهرة من الناس الطيبين ينتظرون لحظة الانفجار وكأنهم يعودون بالذاكرة إلى تلك الأمسية الخريفية، ويترقبون أن يخرج سيد المقاومة ليخبرهم كيف تمّت العملية بنجاح، لا تعنيهم توجيهات الفريق المرافق للمخرج ولا الكاميرات ووجوه الممثلين المموّهة، هم يبحثون عن ملامح «الغالبين» بين تفاصيل النصّ، هؤلاء هم جمهور الفن المقاوم، حماستهم وفرحهم يحثّانا على المتابعة، ويصبح الجمهور المنتظر لبرهة جزءاً من العمل. تلك هي الدراما التي تخرج من القلب لتدخل إلى كل بيت من دون تنميق ومبالغة، هي الياسمين المتكئ على سور عتيق، والصبية التي تخجل حين يبوح لها حبيبها بالحب. هي الأم التي تبلغ مرحلة الخشوع ويصبح دعاؤها حرزاً منيراً. تلك هي الدراما التي تشبهنا بعيداً عن واحة في سراب الصحراء وحريم في حضرة السلاطين.

يذكر أن العمل يضمّ نخبة من الممثلين، أبرزهم: عمار شلق وعلي سعد وباسم مغنية وكارولس عازار وآلين لحود وعايدة صبرا ونيكولا مزهر وسعيد بركات وزينة مكي وجان قسيس.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى