العرب المسيحيون من هم؟ وما دورهم في النهضة العربية؟

د. سمير صارم

عنوان كبير لموضوع مهم ولا سيما في ظروف التحديات التي تواجهها أمتنا العربية وفي مقدمها محاولات نشر الفرقة والتعصب، وجعل الانتماء الطائفي والعشائري والقبلي يتعارض مع الانتماء الوطني أو القومي، أو يتقدم عليه على الأقل. وفي أقله أيضاً محاولة انتزاع بعض مكوّنات هذه الأمة من جذورها وأصولها وتاريخها ليزرعوا فيها حالة من الاغتراب عن محيطها، والإيحاء بأن أوطانها هي خارج حدود أمتها، كما يجري بالنسبة للمسيحيين العرب، لا سيما في لبنان، ومن ثم العراق، وأحياناً في مصر، ما دفع كثيرين منهم للهجرة، فتناقص عددهم في المنطقة العربية من نحو ستة عشر مليوناً عام 1516 إلى أقل من ثلاثة عشر مليوناً بحسب إحصاءات عام 2005.

إنّ المسيحيين هم أبناء هذه المنطقة. ولدوا وعاشوا فيها منذ أكثر من ألفي عام، وعروبة المسيحيين لا جدال فيها، ففي القدس بدأت المسيحية، والسيد المسيح عليه السلام هو الفلسطيني ابن مدينة الناصرة، وأول الكنائس بنيت في حلب وحوران وأنطاكيا، والمسيحيون هم العرب الغساسنة في حوران والمناذرة في العراق.

– منهم قبائل تنوخ وبكر وربيعة وبنو تميم وطي وبنو كلب.

– كان لهم دورهم في إقامة الدولة العربية الأولى الأموية ، كما كانت لهم مساهماتهم في عصور النهضة العربية، وأصابهم ما أصاب العرب المسلمين خلال عصور الانحطاط.

– نبغوا في الشعر والحكمة والخطابة، ونقلوا علوم اليونان وحكمتهم إلى العربية، وكان لهم شأنهم الكبير في العصر الحديث ولا سيما في الصحافة والأدب والفكر والشعر.

– أصدروا أوائل الصحف باللغة العربية في الأستانة ومصر وبلاد الاغتراب.

– أسسوا حركات للتحرر الوطني في سورية ولبنان وفلسطين، وساهموا في بلورة الفكر القومي ونشره.

مع ذلك نجد في هذا البلد العربي أو ذاك من يحاول زرع بذور الفتنة والشقاق والكراهية وتسميم التعايش بين أبناء الوطن الواحد. ونجد من يشكك بأصولهم العربية ودورهم في النهضة العربية التي تحققت!

– فمن هم المسيحيون العرب أو العرب المسيحيون؟ وإلى أين تمتد جذورهم العربية، وهل عروبة المسيحيين لا جدال فيها؟

– كيف نقرأ دورهم في بدايات الفتح الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية؟

– ما دورهم في النهضة العربية المتحققة أوائل العصر الوسيط وفي العصر الحديث؟

– ما مدى مساهمتهم في نشر بذور الفكر الوطني والقومي؟

– ما الغايات التي يرمي إليها من ينكر عليهم عروبتهم ويوحي لهم بمشاريع أوطان بديلة، أو كانتونات في أوطان قائمة؟ ولمصلحة من يتم تسميم هذا التعايش؟

المسيحيون العرب هم الغساسنة والمناذرة وأحفاد قبائل بكر وتغلب وربيعة ونصر وتنوخ

لكن لماذا هذا الموضوع اليوم؟ هل لأننا أو لأن بعضنا يشكك بالأصول العربية للمسيحيين؟! بالتأكيد لا فهم: الغساسنة والمناذرة وهم أحفاد قبائل بكر وتغلب وربيعة ونصر وتنوخ. وقد بنوا أولى كنائسهم في حوران وحلب وأنطاكية، وفي القدس بدأت المسيحية، والسيد المسيح عليه السلام ابن فلسطين، وفلسطين جزء من سورية الكبرى، ودائماً كان تاريخ المسيحيين في المشرق العربي هو تاريخ العرب قبل الإسلام.

إذن لا جدال في الأصول العربية للمسيحيين. لكن ومرة أخرى لماذا نناقش هذا الأمر البديهي؟ على هذا التساؤل نجيب أن هنالك من يحاول أن يزرع بذور الفرقة والشقاق ويوحي للمسيحيين أن هذه الأوطان ليست أوطانهم لغايات سياسية معادية لهذه الأمة وللأسف نجحوا إلى حد كبير ربما في ذلك ودليلنا التراجع في أعداد المسيحيين في هذه المنطقة من نحو ستة عشر مليوناً مطلع القرن السادس عشر إلى نحو ثلاثة عشر مليوناً فقط عام 2005 بدل أن يتضاعف هذا العدد مرات ومرات.

أيضاً عندما نتحدث عن دور المسيحيين في النهضة العربية وكانوا من روادها على مر العصور في الفكر والفلسفة والنهوض القومي، ليس للتشكيك بذلك بل للتأكيد أيضاً، أنهم كانوا دائماً جزءاً من هذه الأمة بآلامها وآمالها وطموحاتها وتطلعاتها، غير أن هناك من يحاول أن يغرس في النفوس غير ذلك، ومرة أخرى لغايات سياسية معادية لهذه الأمة هدفها نشر بذور الفرقة والشقاق وتقسيم الوطن الواحد إلى كانتونات متقاتلة والأسرة الواحدة إلى أسر متناحرة.

وعندما نقول العرب المسيحيين فهو لتمييزهم عن المسيحيين غير العرب كما عندما نقول العرب المسلمين إذ يوجد مسلمون غير عرب.

الجذور العربية للمسيحيين العرب

المسيحية العربية راسخة وأصيلة في بلاد الشام، علينا أن نتذكر أننا نعني أولاً بأرض العرب الوطن العربي الذي سكنه العرب منذ فجر التاريخ، ولا نعني بالعرب فقط سكان الجزيرة العربية أو منطقة الحجاز، هي الأرض الممتدة من موريتانيا إلى الكويت.

والمسيحية العربية قديمة وعريقة، ويجب أن نتذكر أن السيد المسيح هو عربي سوري، ولا يمكن فهمه بغير هذه الطريقة، فعائلة النبي يعقوب هي عائلة عربية كانت في هذه الأرض ومنها كانت خاتمة الأنبياء.

والسيد المسيح بالانتساب من أمه مريم بنت عمران العذراء، وبهذا المعنى السيد المسيح عربي سوري أصيل ولا يمكن فهمه إلا هكذا إذا كنا مؤمنين أن العرب أصحاب هذه الأرض وتاريخ هذه الأرض، بالتالي نشعر بالحيرة عندما يقدم السيد المسيح في كثير من الأيقونات على أنه شاب شبيه بصفاته الشكلية بشاب اسكتلندي سويدي بشعره الأشقر أو غير ذلك، فنحن نحب أن أرى السيد المسيح بوجهه الفلسطيني العربي، بزنده الأسمر الذي ينبت الأرض زرعا وبناء.

إذا بدأنا بالسيد المسيح فنحن نبدأ من الأرض العربية والمدن العربية في الناصرة وبيت لحم والقدس التي سكنتها عائلة يعقوب، وهذا التمهيد ضروري للفصل بين اليهودية كدين، التي يمكن أن تمتد إلى الخزر والأرجنتين وبني يعقوب أو بني إسرائيل كعائلة عربية لها لهجتها العبرية وهي ليست إلا لهجة من اللهجات العربية شأنها شأن الآرامية والسريانية، بعد ذلك فإن عطاء السيد المسيح وصل إلى مكة وإلى المدينة وكان يعلم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بداية تعرفه إلى السماء كان هناك معلم مهم في حياته وهو ورقة بن نوفل الذي توجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليشرح له عجائب ما تلقى من الوحي، وكانت صلته بالوجود المسيحي العربي مؤكدة وواضحة.

وكان للنبي في المدينة المنورة اتصال بعدد من الأحبار المسيحيين، ومن البديهي أن نقول إن المسيحية كانت لها صداقة حقيقية مع الإسلام في حين أن اليهودية كانت مؤسسة عدوانية منذ البداية، ولذلك نص القرآن الكريم: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا ليهود والذين أشركوا، ولتجدن أشدهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك لأن منهم قسيسين ورهبانا لأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا من الشاهدين».

واتصال النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنصارى نجران في جزيرة العرب، وبنصارى الحبشة التي لم تكن آنذاك إلا امتداداً للسودان.

هذه المؤشرات كلها مهدت الطريق لعلاقات صحيحة بين الإسلام والمسيحية، واكتملت يوم أصرّ البطريرك فير نيوس على تسليم مفاتيح بيت المقدس لعمر بن الخطاب، فهذا الطقس الاحتفالي الذي جرى في القدس عام 635 ميلادي ليس إلا دلالة واضحة إضافة لكونه يشكل حدثاً كبيراً بكل المقاييس لبدء التعاون بين أبناء الديانتين، وهناك أيضاً مؤشرات في العهد الجديد لما سيحصل في أرض القدس، وقد اعتز المسيحيون في بيت المقدس بالعهدة العمرية التي كتبت مع مطلع وصول عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس، ومنذ ذلك التاريخ كانت كنيسة المهد مجاورة للمسجد الأقصى ويستمران كذلك حتى الآن، وبالرغم من آلام الاحتلال، بالتالي إذا أردنا التحدث عن الإخاء فإننا نعانق الكنائس القديمة ونمسح الحزن عن المساجد ونقدم مدينة القدس مدينة الصلاة، مدينة يلتقي فيها أبناء محمد مع أبناء المسيح.

دور المسيحيين في إقامة الدولة الأموية

وهناك من يقول عن أصول السيد المسيح، أنه كان يهودياً وولد في بيئة يهودية وعاش كيهودي لكنه قلب الأمور كلها رأساً على عقب، فحرر اليهود وحرر العالم من مفاهيم تتعلق بالله والناس، كانت مشحونة بالعنصرية والعدوانية تجاه كل من ليس بيهودي.

من المعروف أن الإسلام عندما دخل دمشق كان ذلك وفق اتفاق شبيه بالعهدة العمرية بحيث كان المسيحيون متعاونين مع الفاتحين المسلمين. كانت الدولة قائمة لكن البيزنطيين دحروا، فتسلم الأمور المسلمون من العرب المسيحيين، وتركوهم في وظائفهم، ومعهم بنو الدولة الأموية، وهذا غير مستغرب فالمسيحيون العرب استقبلوا الفاتحين المسلمين استقبال العبد الذي جاءه من يحرره من نير البيزنطيين، مع أن المسيحيين في دمشق كانوا من دين واحد مع البيزنطيين، وإن كانوا على خلاف معهم في العقيدة، فالبيزنطينيون أرهقوا المسيحيين في سورية بالضرائب.

وأول من تعاون معهم هو من فاوضهم على فتح دمشق، وهو والد القديس يوحنا الدمشقي ابن سيروم، وتولى مراكز كبيرة في الخلافة الأموية ثم تسلم ابنه يوحنا الذي رحل في ما بعد إلى دير بالقرب من بيت لحم وأصبح راهباً وما ينطبق على يوحنا الدمشقي ووالده ينطبق على كل الموظفين والعاملين في الدوائر البيزنطية القائمة قبل الفتح العربي، من هنا كان دور المسيحيين في مساعدة المسلمين على بناء الدولة الأولى التي سرعان ما انتشرت.

ومن يقول بعروبة السيد المسيح أو سوريته، يبنون رأيهم على أن الشعوب التي أقامت على أرض العرب تاريخياً هي شعوب عربية، ولا يتحدثون عن الاعتقاد بأن السيد المسيح في البداية ولد يهودياً وهم لا يتحدثون عن النسب فهو ابن يعقوب ويعقوب ابن اسحق واسحق ابن إبراهيم بالتالي يعتقدون أن إبراهيم هو جد العرب.

في حين لا يرى آخرون أهمية كبيرة لذلك، فما إذا كان السيد المسيح عربياً أو أرمنياً أو يهودياً، فنحن الآن نعيش في عصر العولمة والانفتاح الثقافي في العالم، فالسيد المسيح رفض اليهودية بسبب سلوك اليهود، حيث قلب الطاولة في هيكل سليمان ضدهم لأنهم لا يفعلون ما يجب أن يكون، بالتالي يجب أن نعيد العلاقة بين الإسلام والمسيحية إلى جوهر الدينين الحنيفين، فلو فهم المسيحيون دينهم بجوهره، ولو فهم المسلمون دينهم بجوهره لما كان هناك خلاف بهم الطرفين.

ثم نحن نعيش في مرحلة العصرنة، في مرحلة غير الدولة الدينية، الآن جميع دول العالم غير دينية على رغم أن شعوباً تدين بالإسلام وبالمسحية، فلماذا نفكر بهذا الأمر؟ نحن نعتقد أن السيد المسيح صلب على الخشبة افتداءً للناس، فداء لبني البشر، الإسلام يقولون إنه شبه به تكريماً له، والمسيحيون يقولون إن معرفة السيد المسيح للسلوك اليهودي وادعاء بني «إسرائيل» أنهم شعب الله المختار هو الذي جعله يدفع هذا الثمن.

في كل الأحوال لا يهم كثيراً إن كان السيد المسيح عربياً أم لم يمكن، فعلينا أن نأخذ التاريخ كما هو، ليست بلاد العرب هي التي تمتد من موريتانيا إلى الكويت بالتأكيد، وليس المسيح عربياً بالتأكيد، نشأ في بلاد الشام نعم، يهودي وانشق عن اليهودية نعم، والشائع بين بعض العرب أن المسيحيين دخلاء على العروبة، وهذا ليس صحيحاً، قبل الإسلام كانت القبائل العربية تسكن سورية من خط دمشق حلب حتى غرب بغداد الحالية، تنوخ، تغلب، بكر، مضر، ديار بكر، الكلب، إضافة إلى مملكتي الغساسنة والمناذرة، بالتالي فوجودهم في بلاد الشام كان متحققاً.

وللعرب دور مهم في المسيحية، فمن قرأ الإنجيل يلاحظ مقولة: «عرب وكذا يسبحون بآيات الله» إذا كان هناك عرب في السنوات الأولى، والعرب المسيحيون انشقوا عن البيزنطية التي كانت تريد أن تفرض مذهب المالكانية على أهل الشرق لكنهم رفضوا ذلك، وانشقوا إلى طائفتين النساطرة، وطردوا إلى بلاد فارس لأن الزرادشتية حمتهم، واليعاقبة الذين هم الغساسنة والأقباط، وبقي المالكانيون التابعون للبيزنطيين، وكان هناك عداء مع من انشقوا عليهم، وقد يكون هناك تأثير سياسي لكنه أخذ طابعاً لاهوتياً.

السيد المسيح له طبيعة واحدة أو طبيعتان، الموقف من السيدة مريم العذراء هل هي مقدسة أم لا، كخلافات بين هذه التيارات، والأهم من هذا كله أن اليعاقبة من دمشق إلى مكة كانوا يبنون الأديرة، التي سميت في ما بعد خانات منها خان دنون وصولاً إلى الأردن، وعلى طريق مكة القديم يوجد العديد من الخانات أو الأديرة حيث كان الآباء والرهبان يستضيفون الناس الذين يقيمون يوماً أو يومين ويقدمون لهم الخدمات ويبشرون بالمسيحية.

وفرع آخر من المناذرة جنوب العراق حتى مكة وفرع منه حتى عمان وبقية الكنيسة في عمان ومعترف بها حتى عام 1200 ميلادي نظراً لعمق علاقة الناس بهذه الثقافة أو بهذا الدين.

إذن كان هناك وجود عربي حقيقي في بلاد الشام، ثم إن هؤلاء العرب لعبوا دوراً مهماً في الديانة المسيحية وفي تكوينها ولاهوتها وإعادة تشكيلها وتفسيرها ونشرها هنا وحتى الجزيرة العربية، فمثلاً ورقة بن نوفل هو من النساعدة وقسم آخر منهم نساطرة والأحناف ما هم إلا نساطرة.

وجميع الديانات تعيد الأنبياء إلى إبراهيم الخليل، وجميع الديانات التوحيدية عاصمتها القدس، وجميع الكتب تنطلق من كتاب بني إسرائيل فهو الأرضية سواء قيل عنه إنه مزور أو غير مزور.

ولهذا السبب، ولأن أصل المسيحيين يمتد إلى قبائل عربية منذ ما قبل الإسلام، ولأن المسيحيين ساهموا في الديانة المسيحية والثقافة المسيحية، وتعاون المسيحيون مع المسلمين ضد الدولة البيزنطية على رغم أنهم من أبناء جلدتهم، وتعاونوا في معركة اليرموك، وتعاونوا مع المناذرة في فتح بلاد فارس، وتعاونوا مع الدولة الأموية في القرن الثالث الهجري في النشر والترجمة والتعريب زمن عبد الملك بن مروان.

باختصار نرى أن على الجميع أن يعرف معنى أن يقول السيد المسيح الإنسان أخو الإنسان وأن يقول الرسول محمد ص الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، أو أن يقول الرسول العربي الكريم: «إنما الدين المعاملة»، والمسيح يقول: «أخوك من فعل الخير»، فعندما خرج على اليهودية والسلوك اليهودي، ذلك لأنها كانت تميز بين إنسان وإنسان، ثم كيف خاطب الله رسوله أو في القرآن الكريم يا أيها المؤمنون، بالتالي لا يرى كثير من المؤرخين والباحثين مبرراً للتمييز بين العرب المسيحيين والعرب المسلمين فهناك عربي وغير عربي فالعدو هو عدو القوميات، وهي تتلاشى قبل أن تصل إلينا نحن، فالعرب ساهموا في عصر النهضة من المسيحيين لأنهم كانوا أكثر ثقافة وتنوراً وانفتاحاً على العالم، والعقل المنفتح هو الذي يتعلم وهو الذي ينقل المعرفة، فالعرب المسيحيون عندما ساهموا في النشر والترجمة في الدولة الأموية، ذلك لأنه كانت لهم خبرة أكثر من سواهم.

نحن الآن نراجع في التاريخ لكي نثبت أن المسيحيين عرب، نحن مواطنون عرب ،ولا نرى ضرورة على تأكيد الأصل، وأدبياتنا تقول إن العربي هو من ولد في الأرض العربية وينتمي إلى الأمة العربية وليس له انتماء مخالف لها.

التاريخ لا يختفي وراء الأصبع. محللون لغويون يقولون إن علماء اللغة المسيحيين كانوا من ساهموا بعد القرآن الكريم في حفظ اللغة العربية وعدم موتها، وقواعد اللغة الحديثة موضوعة من قبل علماء لغة مسيحيين، لكن هل هذا يعني أن لهم فضل في ذلك؟ نعتقد أنه لا فضل لهم في ذلك. لأن على كل مواطن أن يخدم وطنه وأن يقدم معرفته إذا كان مسيحياً صحيحاً، فالسيد المسيح يقول ليضاء سراج ويوضع تحت مكيال، فمن وهبه الله موهبة وبخل بها على الآخرين كان خارجاً عن دينه وعن شعوره، الإمام علي قال: العالم الذي لا ينتفع بعلمه كالجاهل الذي لا يضار بجهله، فالمواطن عليه واجب وحقوق ولا يجب التقليص من حقوقه لأنه ينتمي إلى تاريخ معين وإلى شكل معين وعائلة معينة، ولا يجوز أن نعطه حقاً استناداً إلى نسبه، وإنما أصل الفتى ما قد فعل.

مساهمة المسيحيين العرب بالنهضة ونشر الفكر القومي

عندما نذكر عروبة السيد المسيح، فذلك لأنه لا يوجد تعارض بين الحديث عن العقيدة وبين الحديث عن النسب، واليهودية اعتقاد والعروبة انتساب فنحن نتحدث عن أشخاص عاشوا على الأرض العربية وتكلموا باللسان العربي والبعض مثلاً لا يعتبر الآرامية إلا لهجة عربية ينبغي أن تنتسب إلى العربية الأم.

نحن نؤمن بأن مشروع الفتح الإسلامي لم يكن بهدف إحضار العرب إلى الوطن العربي وإنما بهدف تصحيح واقع حقيقي لهذه الأرض التي كان قد اعتدى عليها البيزنطيون والرومان، لم يكن الفتح الإسلامي تغييراً ديمغرافياً للمنطقة، بقدر ما كان تصحيحاً لواقع المنطقة وطرداً للمحتل الغازي.

قال النبي ص لهرقل: «اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت إنما عليك إثم الأريسيين»، وهم أتباع آريوس من النصارى المضطهدين من البيزنطيين، فعندما وصل الفاتحون المسلمون كان هدفهم طرد المحتلين وبالتالي وجد المسيحيون أنفسهم في خدمة النهضة وخدمة المعرفة في أرض العرب. عائلة حنين بن اسحاق، عائلة يوحنا بن ماساوي، أي جبرائيل بن بختشوع. هذه كلها عوائل كانت في خدمة المشروع النهضوي العربي الأموي والعباسي، وهو نفس الدور الذي قاموا به في النهضة العربية الجديدة، حيث ساهموا بترجمة المعارف الأوروبية، كما كانوا رواد النهضة في عصر التنوير، وكان المسيحيون في الأرض العربية وفي ظل وجود الحكم الإسلامي يمثلون فرصاً كبيرة جداً للمبادرات العلمية والفكرية.

وهنا يجب التمييز بين الفقه الإسلامي الذي كتب قبل حرب الفرنجة وبعده، فقبلها كان يكتب بضياء القرآن والسنة، وقدم نماذج رائعة للتعامل مع المسيحية، فنحن نؤمن بأن المسيح هو رسول الله وكلمة الله وروح الله، والإسلام يدعو إلى الإيمان بالأنبياء، وعلوم الطب والكيمياء والرياضيات والصيدلة والترجمة، ظلت علوماً مسيحية نحو أربعة قرون، ولولا حروب الفرنجة لكان الواقع أكثر انسجاماً، فالمؤرخ العربي أسماها حروب الفرنجة ولم يرض بتسميتها الحروب الصليبية وظل يعتقد أن الصليب يجب أن يبقى رمز إلى المحبة ولا يمكن أن يكون رمز حرب، فمصطلح الحروب الصليبية كان من خلال الترجمات التي أتتنا من الغرب، وهذه الحروب أساءت للمسيحيين الشرقيين، كما أنهم دفعوا ثمناً باهظاً بسبب الأطماع البيزنطية.

لا يمكن للعرب المسيحيين أن يكونوا غير ذلك

بداية نتساءل: هل يمكن للمسيحيين العرب أن يكونوا غير ما هم عليه؟ فالمسيحي العربي الموجود هنا عندما ينطلق إلى بلد آخر يعرف بنفسه بأنه عربي مسيحي، والغربيون لا يصدقون أنه مسيحي عندما يسمعونه يقول أنه عربي، ففي إحدى المحاضرات في باريس عرف كاهن سوري وهو الأب الياس زحلاوي عن نفسه بأنه كاهن عربي فسأله أحدهم هل أنت مسلم؟ لذلك لا نعتقد أننا بحاجة لتقديم شهادة عن عروبة المسيحيين في هذا الشرق، وأجدادنا المسيحيون تصرفوا كعرب عندما أتى المسلمون فاتحين، هذا يضاف إلى أن عدداً كبيراً من المفكرين ساهموا بدور كبير في النهضة العربية مثل أنطون سعاده، ميشيل عفلق، جورج حبش، المطران كبوجي وكان أسقف القدس في المنفى، وهنا نتساءل ما الذي دفعه وهو في الثامنة والثمانين من عمره أن يمضي إلى غزة سوى انتمائه القومي العربي والإنساني مع أبناء وأخوة له في غزة وكل فلسطين، والمسيحي العربي يتفاعل مع الفلسطيني من دون النظر إلى انتمائه الديني، ولا ينظر إلى الآخر على أنه مسلم أو مسيحي فهو عربي مهدد في كيانه وكل عربي مهدد في كيانه، وهذا ما يدفع المسيحيين العرب إلى رفع الصلوات وإلقاء الندوات هنا وهناك لرفع الظلم عن ذواتهم ولكي يحاولوا المساهمة في بناء الشرق العربي الذي ينال احترام ذاته قبل أن ينال احترام الناس.

لقد كان للمسيحيين دور في النهضة الأولى في العصر الوسيط في القرن الثالث الهجري وما قبل ذلك في زمن الأمويين، والنهضة الحديثة في القرن التاسع عشر وفي المرتين ولأسباب موضوعية ولشروط موضوعية ساهموا في النهضة، فقبل الإسلام كانوا أبناء الدولة البيزنطية وتثقفوا بثقافتها وامتلكوا ناصية إدارتها وتعددت معرفتهم باللغات وعندما أتى المسلمون ساهموا في الترجمة والفلسفة والتعريب والحوار، لذلك ساهموا بالنهضة الأولى.

وفي النهضة الثانية الحديثة نشأت طبقة تجارية مسيحية في هذه البلاد في القرن الثامن والتاسع عشر وامتلكوا ناصية العلم وناصية الامتيازات بما فيها المطالبة بحقوق المواطن المطالبة بالحريات، وشكلوا الطبقة الوسطى، لذلك تهيأت لهم الشروط الموضوعية لقيادة النهضة العربية حيث قادوها بعدة أمور منها:

– أولا: في الصحافة والطباعة والنشر، فقد كان النشر والمطبعة ممنوعين في زمن العثمانيين حيث تأخر دخول المطبعة 300 سنة، لكن سمح للمسيحيين في أن يكون لهم مطبعة في دير قزحيا وفي حلب أيضاً.

– ثانيا: إن أول صحيفة والثانية والخامسة أسسها مسيحيون عرب، وأولها في الأستانة ومن ورائها فرح انطون والسبب يعود لكونهم تعلموا مبكرين في مدارس عدة. وطالبوا بالحرية اللامركزية وبإحياء اللغة العربية وتعليمها في المدارس، وفصل السلطات، أي أنهم طالبوا بدولة حديثة، وما أكثر ما ساهموا ومن ساهموا في مجال الصحافة.

– والأمر الآخر هو الجمعيات وإنشاؤها، وقد كان نصف أعضاء المؤتمر السوري في باريس عام 1913 م من المسيحيين، وطالبوا باللامركزية وكانوا متعصبين للقومية العربية إلى درجة العنصرية مثل أديب إسحق الذي نادى بالدم العربي ونقاء هذا الدم.

إسهام العرب المسيحيين في النهضة العربية الأولى والحديثة

أن الفقه الإسلامي الذي كتب قبل مجيء الفرنجة إلى المنطقة كان أقرب إلى هدي القرآن وأقرب إلى هدي السنة النبوية، وما نتحدث به اليوم هو عن إسهام العرب المسيحيين في النهضة العربية الأولى والحديثة هو أمر محقق ومؤكد وهذا الدور مارسه المسيحيون بسبب وجود روح التسامح التي سادت ما في ضياء القرآن والسنة النبوية.

وعندما أتت رئيسة الكونغرس الأميركي إلى دمشق عام 2010 نانسي بيلوسي سألها أحد المشايخ عن ما رأته في دمشق ولفت انتباهها فقالت المسجد الأموي، ذلك لأن قبر يوحنا المعمدان يقع في قلب الجامع الأموي، والناس يزورونه باحترام من الإسلام والمسيحيين، وهذا لا يمكن أن يوجد في أميركا، إذ لا يمكن أن نتصور وجود قديس بوذي في معبد مسيحي أو قديس إسلامي في معبد مسيحي.

وهنا قال لها الشيخ السائل إنه يوجد في إدلب قديس إسلامي في معبد مسيحي هو الخليفة الراشدي عمر بن عبدالعزيز الذي دفن في دير شرقي في إدلب وكانت هذه وصيته، فروح التسامح التي منحها ضياء القرآن وضياء السنة هي التي ساعدت المسيحيين في أن يكونوا فاعلين، فالإسلام ألغى ثقافة الناس على دين ملوكها ، فالناس على أديانهم ومهمة الدولة أن تخدم الجميع وأن توفر للجميع فرص العمل والعطاء وهذا بالضبط ما جرى في النهضتين.

هل نستطيع اقتلاع الصورة التي يزرعها الإعلام الغربي في عيون من يرى الصورة والواقع غير ذلك؟

أخيراً، من المهم أن نعمل على تعريف الناس إلى حياتنا وعيشنا المشترك هنا بأفضل ما يعرفون، ولكي نعرف الناس أكثر على ما يمكن أن نقوم به هنا، ليعرفوا حقيقتنا كما هي، لكي يأتوا إلينا ويعرفونا على ما نحن عليه، لعلنا نستطيع اقتلاع الصورة التي يزرعها في عيونهم الإعلام الغربي الذي تهيمن عليه الصهيونية، ولدينا الكثير لكي نقدمه للغرب ونحن لدينا الكثير من هذه الصور الجميلة لكي نقدمها، لكي نساعد الغرب بدوره في التحرر من شياطين العدوانية والهيمنة التي تسكنه.

وفي الزمن الذي نعيش فيه، وفي العصر الذي ينتقل فيه العالم من القومية إلى العولمة خير كلام يمكن أن نختم به هو الدين لله والوطن للجميع، وإذا لم نفعل هذا فإننا نهدر إمكانات كبيرة بسبب عوامل ليس لها مردود، فنحن لا نطلب من المسيحي أن يترك مسيحيته ولا المسلم أن يترك إسلامه، بل نطلب أن يعود كل منهما إلى دينه وأصله عندها لا تنتشر الأصولية الإسلامية التي تشوه صورة الإسلام المتسامح. والمسيحية استفادت من الإسلام بالانفتاح وكان يجب أن تعرف هذا مسبقاً، والمسيح قال: «مملكتي ليست من هذا العالم إنكم تبنون مجتمعكم بما لا يتعارض مع الإسلام».

عناوين:

1.المسيحية عربية وعريقة، والسيد المسيح عربي سوري بالأصل والانتماء.

2. المسيحيون العرب استقبلوا الفاتحين المسلمين كمحررين لهم من البيزنطيين.

3. العرب المسيحيون ساهموا في بناء الدولة الأموية وتقلدوا المناصب فيها.

4. للعرب دور مهم في المسيحية والأديرة المسيحية امتدت من دمشق وحتى مكة.

5. العرب المسيحيون ساهموا في حفظ اللغة العربية وعدم اندثارها.

6. عوائل عربية مسيحية قدمت الكثير للمشروع النهضوي العربي على مر العصور.

7. المسيحيون العرب ينشرون الفكر القومي من خلال الصحافة والجمعيات.

8. قديس مسيحي في جامع إسلامي، قديس إسلامي في دير مسيحي، مشاهد لا تجدها إلا في الشرق العربي.

9. يجب أن يتعرف الناس إلى حياتنا وعيشنا المشترك واقتلاع الصورة التي يعمّمها الإعلام الغربي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى