حركة التنوير الفرنسية وحال مسخّفي «ثوراتنا»!

نظام مارديني

أحدثت التحولات الحاصلة في الهلال السوري الخصيب خللاً واضحاً في المعادلات التي رسمت معالم الثقافة فيه، وقد تبلورت صُور المثقف وتمثيلاته في حوار مع تجارب ثقافات أخرى ومع كتابات نموذجية عن المثقف الذي شارك وكان له دور كبير في حركة التنوير التي ظهرت ما بعد الثورة الفرنسية.

يُمكننا أن نرى في النماذج الحديثة للمثقف السوري طبعاً نقصد السوري نسبة للهلال الخصيب الذي من المفترض أنه ثار من أجل الإصلاح والتغيير، فانتهى به المطاف بمساعدة قوى إقليمية ودولية في تدمير وطنه على رغم أنه حاول أن يظهر ذلك التوتّر البنيوي بينه وبين السلطة ـ أيّ سلطة.

كان المفترض أن يكون المثقف السوري نتاج ما تراكم من صور للمثقف عالمياً ونتاج تجاربه الوطنية في لبنان وسورية وفلسطين والعراق والأردن وغيرها من أقطار العالم العربي، أن يكون على خط المواجهة مع منحَيَين، داخلي نحو بناء وطن المواطنة، وخارجي في مواجهة كل محاولة لاستعمار وطنه والحد من استقلاله وحريته. ولكن أن يكون في خطابه مع التغيير في وطنه ويتعامل مع الخارج لتدميره وتقسيمه، فذلك سقوط في وحل الخيانة التي سأل عنها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، قائلاً: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون. أيخون إنسان بلاده؟ من خان منع أن يكون… فكيف يمكن أن يكون؟».

ولكن ما العمل الآن ما دامت كل القراءات لإنتاج صورة المثقف السوري «الثوروي» قد صارت منهارة؟ ماذا تبقى من صورته لحظة أسقط داعموه الخارجيون «ثورته» بدأت مشبوهة، ويمكن النظر إلى داعميها من يساريين وإسلاميين من الذين صفقوا للاحتلال الأميركي للعراق في أحضان آلهة التكفير؟

من هنا، أمكننا أن نفهم انقلاب «مثقفين» على شعوبهم وخياراتها الراهنة أو انتصارهم للرجعية البدوية الخليجية المتصحرة أو تهليل بعضهم لاحتلال وطنهم. ونماذجهم عديدة تبدأ من برهان غليون وميشيل كيلو وعبد الباسط سيدا وجورج صبرا وتنتهي بأحمد الجربا، كانوا قد حملوا شعار ما يسمى بـ«الثورة» ولكن تبين أنهم نتاج ذلك المصنوع الصانع والمفعول الفاعل في جدلية أريد لها أن تكون خلاّقة، ولكن؟!

يحيلنا هذا على المواقف التي يتخذها المثقف في الهلال الخصيب، بأنها في طابعها العام مواقف آنية تتبع المصلحة الشخصية للمثقف لا الرؤية المفتقدة أو المصلحة العامة. فحيناً تراه يتغنى بالعلمانية والحرية وحيناً آخر يتحالف مع رموز التكفير، ولعلنا نتساءل هنا عن سبب إرسال بندر بن سلطان طائرته الخاصة لتقلّ المدعو ميشيل كيلو، فهل كان السبب هو إجراء حوار حول الفلسفة مثلاً أو حركات التنوير التي ستخرج بها «الثورة» المزعومة بعد إسقاط دول الهلال الخصيب؟

وفي مقاربة بسيطة بين «ثورة» ما يسمى «الربيع العربي» والثورة الفرنسية العظيمة التي جاءت نتيجة تكبيل العقل الفرنسي بالأغلال والأوهام والأساطير، إذ كانت السلطتان الكنسية والملكية، فضلاً عن هيمنتهما على مقدرات العامة المادية والروحية لحماية مصالحهما، تحجبان عن الناس التزوّد بالمعرفة الحقة غير المدنسة بالخرافات والأساطير والأفكار المتخلفة مثل عصمة البابوات، وصكوك الغفران، والثراء الهائل لرجال الكنيسة أو نظريات الحق الإلهي التي تصادر حقهم بالعقل والحرية، وتوهمهم بأن رجال الدين يكفلون لهم الجنة، وأن للطبقة الحاكمة حقاً إلهياً بحكمهم على نحو أبدي.

لذلك استعان المفكرون الفرنسيون وهم يمهدون للثورة بكل الذخائر الفكرية والفلسفية والعلمية الإنسانية لكي يتحرروا من سيطرة لاهوت القرون الوسطى واستبداد الملكية، معتمدين على إعمال العقل والفكر النقدي في معالجاتهم الفكرية والحياتية، ومتحدّين بنحو صارم كل مقولات الفكر الدوغماتي المتخلف، لقد خاضوا سلسلة من الحروب الفكرية والحربية ضد الملكية ورجال الدين امتدت لعقود بعد الثورة حتى حققوا النصر الحاسم الذي حول مفهوم التنوير ليشمل كل النشاطات الفكرية في كل فروع وأصناف المعرفة.

لقد كانت حروب الثوار والمفكرين مع السلطتين الملكية والكنسية دامية ومرعبة إلى درجة جعلت أحد أبرز التنويريين الفرنسيين وهو دينيز ديدرو يقول: «لن يتحرر البشر إلا عندما يتم خنق آخر مَلِكٍ بأحشاء آخر رجل دين».

فالمثقفون الأوروبيون عانوا الأمرّين من عسف الكنيسة في حقبتها وسؤددها، بخاصة عندما خاضوا معها في الموروث المقدّس موضوع اختصاصها واحتكارها.

أما «مثقفو الثورة» عندنا فكانوا ينتقلون من ضفة إلى أخرى بحسب جهات التمويل. كانوا صورة من الوعاظ يبيعون الكلام من غرف فنادق الخمس نجوم ويتلونون: كيساريين تارة، رأسماليين تارة، إسلاميين تارة، وتكفيريين تارة، وظيفتهم أن يجمّلوا صورة ممولهم.

عندما يعمل السياسي باسم المقدس، يصبح هدف الغش والخداع سامياً، وهو حماية الإسلام المحمدي. وباسم هذا الهدف ستحول الدولة إلى آلة أخلاقية لتحقيق الفضيلة ومراقبة الناس، كيف يتصرفون منذ الولادة وحتى الموت. وهنا سيرتفع منسوب النفاق عندما تلتحق «الثورة» بأغراض السلطة والمال، وعندما يمارس الموقع الإداري والسياسي دوراً لصوصياً. أما عندما يصبح النفاق عادة فإن مرتشياً يتظاهر بالبراءة ينجح في الظهور بمظهر الورِع كمسخّفي «الثورة»، ولعلنا نأخذ غليون وكيلو وصبرا وسيدا والجربا وغلمانهم الموزعين مثل الفطر السام مثالاً لحال «الثوار» في هلالنا الخصيب.

في ضوء ذلك أسست عقائد هؤلاء المتلونين في الفراغ، بعدما تعطلت عن إجراء أي فعل حقيقي في أوطانها، بل لم يتركوا سوى أحلام شاحبة، أو ضحايا سرعان ما تحولوا للأسف إلى صور عالقة على جدران الساحات والشوارع والمنازل العائلية.

ما نراه اليوم وسط هذه العتمة يضعنا أمام رعب السؤال الثقافي، كيف للمثقف أن يكون فاعلاً وسط عطالة فكرية وعقلية؟ وكيف له أن يضع خطابه بمستوى تحديات المرحلة وإشكالاتها المعقدة؟ وكيف سيجد هذا المثقف المُستلب دوره وسط أدوار مجاورة ومضللة وضاغطة؟

ما جرى ويجري في المشهد الثقافي يثير الكثير من الجدال البيزنطي، والكثير من الشجن، فالكل مختلفون في النظر إلى علاقة الثقافة بالسياسة، وإلى قدرة الخطاب الثقافي على ملامسة أسئلتنا الفاجعة، وإلى التعبير عن لحظة وعي حقيقية مع الحداثة والتنوير والإصلاح، إذ ما نراه اليوم هو مظاهر مكررة، وهشاشة في التعبير عن تحولات الفكر والتغيير، وعن رؤية ما يجري في خبايا الفوضى، وزحمة التنافس على الوهم!

أما المثقف الذي تجاوز هويته الفردية وذاته «الجماعية»، وتنظيراته وقصيدته وعقيدته وبقي يناضل داخل بلاده، فقد نجا فعلاً وهو المؤهّل أكثر من غيره لتحمّل عبء أسئلة الراهن والمستقبل. فهو صاحب الصورة التي تحتفظ بماء الوجه والحيوية اللازمة للشروع في البناء من جديد بعد خراب «البصرتين»!

وحتى ذلك الحين سنردد مع الممثل الشامي الكبير أيمن زيدان: «لا أريد أن أصدق أنّ وطن الياسمين يمكن له أن يصير في نهاية المطاف، وطناً للرصاص».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى