المسيحيون بلا مرجعية ورئاسة الجمهورية «فراغ من واقع»

روزانا رمّال

لم يستطع لبنان ولا لمرة واحدة انتخاب رئيس للجمهورية بصيغة لبنانية لبنانية خالصة منذ الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، الذي سُمّي انتداباً ربما للتخفيف من مستوى حالة التعدّي السائدة التي يسعى الغرب الى تجميلها دوماً أينما يحلّ بصفته حامي حقوق الانسان وراعي الإنسانية، تماماً مثل محاولات الغرب اليوم اعتبار تدخله العسكري في العراق قتالاً لـ«داعش» ومكافحة للإرهاب وخدمة لأهله، واعتبار التدخلات السياسية وحشد المؤتمرات الدولية الاقتصادية والسياسية الخاصة بليبيا وتونس وسورية واليمن والعراق وغيرها، خدمات من أجل مستوى سياسي ديمقراطي أكثر تمثيلاً في العالم.

فرنسا التي أصبحت في ما بعد بأذهان بعض اللبنانيين والعرب الأم الحنون لهذا البلد الصغير، فانقلبت العلاقة من الاحتلال الى الودّ بنوع من الوصاية المقبولة نوعاً ما في أذهان اللبنانيين الذين اعتادوا تقبّل التدخلات الأجنبية السياسية من دون تحسّس وتطبيع العلاقات مع تلك الدول كما حصل مع فرنسا بعد خروجها من لبنان على عكس ما جرى أيام ما عُرف بإسم الوصاية السورية في لبنان، الى ان حوربت سورية حتى بعد خروجها منه.

تحوّلت الوصاية الفرنسية الى نفوذ سياسي داخل لبنان أسهم أكثر من مرة بانتخاب رئيس للجمهورية بمساع انطلقت من حماية المسيحيين حينها بغضّ النظر عما إذا كان هذا الكلام صحيحاً ام لا، إلا انّ اللبنانيين يكتشفون اليوم انّ مشهداً آخر يرخي بظلاله على الواقع المسيحي في لبنان، ومعه المنطقة التي تعاني من فراغ واضح في الجهات المرجعية او الوصائية، التي ليس ضرورياً ان تكون مقبولة من الناحية السيادية إلا أنّ هذا الغياب يخالف الواقع السياسي اللبناني الذي يتوزّع على السلطات التشريعية والتنفيذية ويترجم بعلاقات خارجية تدعم وتعطل وتنفذ سياسات ومشاريع تؤكد على نفوذها في لبنان من خلال هذه المرجعيات، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية التي تعتبر انّ لبنان جزءاً أساسياً من نفوذها في المنطقة، والتي استشعرت أهمية لبنان بالنسبة اليها كملف سياسي تناور فيه بتسويات المنطقة، فكان الرئيس رفيق الحريري أحد أنجح مشاريع السعودية في هذا البلد.

يقف المسيحيون اليوم على الرغم من اختلاف تياراتهم او أحزابهم وبشكل خاص التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب وغيرهم على مسافة واحدة من أمرين أساسين:

الأول: ان لا مرجعية سياسية أو دينية قادرة على توحيدهم من أجل حماية حقوقهم في لبنان، واللجوء إليها في حال تلمّس أيّ خلل او استشعار الخطر المحدق قبل حدوثه، والأخطر إدراكهم انه لا توجد إرادة حتى في أن يكون لمسيحيّي لبنان دولة أو جهة راعية.

ثانياً: انهم مهما اختلفوا واصطفوا تارة مع حزب الله وطوراً مع تيار المستقبل فليس لهم نفوذ قادر على قلب الموازين في ايّ دولة من الدول، وكأنّ وجودهم في المنطقة العربية لا يقتصر سوى على العيش بسكوت وهدوء، وبعض الدول الخليجية منعتهم من بناء كنائس ليمارسوا طقوسهم وشعائرهم الدينية، على الرغم من سكنهم فيها كنوع من الشعور بالفضل والجميل من دون ايّ إحساس بالانتماء الى وطن عربي جامع.

الربيع العربي أفرز واقعاً استخدمته «إسرائيل» حجة لتهجير المسيحيين من المنطقة كي تستفرد بتسويق كيانها العنصري، ففتحت فرنسا أبوابها نحو هجرة سهلة لهم بعد ان كانت تحمي حقوقهم في لبنان وسورية، ومعها المانيا وغيرها من الدول، حتى أصبح السوريون المسيحيون يعرفون انّ حظوظهم على سبيل المثال بالحصول على موافقة للهجرة الى المانيا أوفر حظاً من المسلمين.

في لبنان مصير الرئاسة اللبنانية موضوع بيد المسلمين بامتياز، وهو قرار اقليمي واضح، فاليد الغربية بعيدة عن هذا الملف اليوم وقد ازدادت ابتعاداً منذ الازمة السورية، اليوم لا مبادرات فرنسية أو روسية مجدية ولا فاتيكانية واعدة بأيّ حلّ، والسبب هو انّ الدول هذه تعرف جيداً انّ الورقة المسيحية في لبنان ضعيفة لأسباب سعت الدول ذاتها الى جعلها بهذا الواقع المؤسف.

الورقة المسيحية اللبنانية لا تشكل إغراء ولا مادة جذب لأيّ من الدول النافذة في المنطقة، وقد نجحت الدول الداعمة للتيارات الإسلامية في لبنان بجعلها طائفة تابعة سياسياً بشكل واضح إليها مالياً ومعنوياً، حتى يكاد الزعيم المسيحي يطلق تصريحات داعمة ومدافعة عن حليفه المسلم كتابع واضح من دون إحراج، بالإضافة الى سروره الكبير اذا تشرّف بالحصول على دعوة لزيارة دولة راعية لحليفه.

العماد ميشال عون اليوم يجهد لضمان موقع مستقلّ وخاص للمسيحيين او بالأحرى هو الزعيم المسيحي الوحيد الذي يتكلم من هذا المنطلق، فهو لا يخجل من اعتبار كرسي الرئاسة اللبنانية حق للمسيحيين، ولا يخجل من محاولات إبعاد التدخل بهذا المنصب وفكه عن الشركاء المسلمين في البلاد حتى انّ دعوته إلى الاستفاء هي جزء أساسي من سعيه هذا.

في المعيار الوطني يبدو خطيرا تقبّل الكلام عن حقوق طوائف مستقلة عن حقوق الوطن، لكن في زمن التفتت والخطط الموضوعة لتهجير المسيحيين العرب فإنّ رئيس لبنان المسيحي القوي رسالة رفض لمشاريع التفتيت والتهجير لأنّ لبنان هو الضمانة الأخيرة لمسيحيّي المشرق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى