الدولة القطرية وتداعيات «الربيع العربي» ٤/٤

ورقة قدمت إلى المؤتمر القومي العربي الدورة 26 المنعقدة في بيروت في 2-3 حزيران 2015

د. ساسين عساف

تحركات شبابية وشعبية بلا قيادة موحّدة ولا برنامج ولا خطة استراتيجية ولا إيديولوجيا ثورية أو انقلابية، مكتفية بإطلاق بعض الشعارات المتبدّلة وعسكرة التحرّك بالإرادة المسبقة أو بالوقوع في فخّ الاستدراج، قادت بعض المجتمعات العربية إلى الفوضى ودولها إلى الفشل في ضبط الساحات وأظهرت ضعف مؤسسات المجتمع المدني لا بل تلاشيها كما ضعف وهشاشة مؤسسات الدولة بما فيها، في بعض الدول، المؤسسة العسكرية والأمنية حال اليمن وليبيا التي هي المؤسّسة الأقوى، لا بل عليها قامت واستمرّت لعقود الدولة القطرية.

طاقة الشباب العربي الثوري الديمقراطي بدّدتها حركات الإسلام السياسي كما الجهادي وأطبقت عليها مجاميع مصلحية ووصولية كانت جزءاً من الأنظمة الحاكمة واحتوتها مؤسّسة الجيش بشعار حماية الثورة.

من «أخونة» الحراك الشعبي إلى «أخونة الدولة» في مصر هو المسار الذي سلكه الإخوان المسلمون معتمدين نهج الإقصاء والتفرّد في قيادة الدولة والمجتمع، ما كاد أن يذهب بمصر إلى حروب أهلية لو لم تقع أحداث 30 يونيو بعنوان الثورة المضادّة التي قادتها الجماهير ووضعتها أمانة بيد الجيش المصري. فمصر، والحالة هذه، فضلاً عن إعلان قيام ما يسمّى بـ»ولاية سيناء» الموالية لـ»داعش» والأعمال الإرهابية التي تقوم بها بعض الحركات الإسلامية في الداخل المصري ما زالت الدولة قويّة وقادرة على حماية وحدتها.

من حركة احتجاج سلمية في سورية إلى تكوين ائتلاف معارض في الخارج لا إسناد شعبياً لبعض أطرافه ومنه إلى «داعش» و «النصرة» وسائر التنظيمات الإسلامية المسلّحة فضلاً عن تدفّق المسلّحين الأجانب هو المسار الذي فقدت فيه الحركة الاحتجاجية السورية فاعليتها باستثناء ما يعرف بمعارضة الداخل المؤمنة والعاملة للحلّ السلمي والرافضة منذ البداية لاستخدام السلاح والمناهضة للتدخّل الأجنبي والمقيّدة بعاملين اثنين: استعصاء إسقاط النظام وعدم قدرة النظام على تحقيق انتصار عسكري حاسم في المدى المنظور فتكتفي بالتجاوب مع المبادرات المطروحة للحلّ السلمي والتي حتى الساعة لم تؤشّر فعلياً إلى إمكان استعادة وحدة الأرض والمجتمع. فسورية، والحالة هذه، فضلاً عن «طموحات» الأكراد في الشمال السوري ما زالت مهدّدة بوحدة الأرض والشعب والدولة.

أمّا اليمن فوضعه يبدو أشدّ سوءاً ممّا كان عليه قبل اشتداد قوّة الحوثيين وتحالفهم مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح وسيطرتهم على العاصمة صنعاء وفرضهم لواقع جيو-سياسي جديد. يقابله واقع آخر تسيطر عليه «القاعدة» وواقع آخر في الجنوب أوجده عبد ربه منصور هادي بعد لجوئه إليه ومغادرته إلى الرياض، فاليمن، والحالة هذه، فضلاً عن الحراك الجنوبي الذي ما زالت بعض قواه السياسية تطالب بالانفصال وبعضها الآخر يعترف لعبد ربّه منصور هادي بشرعية رئاسته على كلّ اليمن، وفضلاً عن المشروع الفيدرالي الذي كانت قد توافقت عليه معظم القوى السياسية اليمنية والقاضي بتقسيم اليمن إلى ستّ فدراليات، زد إلى ذلك الحرب التي يشنّها عليه تحالف عربي واسع بقيادة المملكة العربية السعودية، ما زال آخذاً دربه إلى التفكّك والانهيار.

ليبيا كما يبدو من ظاهر الحال وباطنه بفضل حروبها المركّبة خصوصاً القبلية و»الداعشية» منها وعدم قدرة شعبها على إقامة سلطة فيها ائتلافية ومستقرّة فضلاً عن التدخّل الأطلسي المكشوف وأطماع دوله بالثروات باتت مصنّفة كالصومال في عداد الدول الفاشلة.

أمّا العراق ومنذ الاحتلال الأميركي وقانون بريمر وسياسة الحكومات المتتالية فقد نشأت فيه مقاومة عراقية كان لها إسهام قوي في طرد الاحتلال وفي رفض نتائجه وقوانينه ورفض ما سمّي بالعملية السياسية برمّتها. جاءت ممارسات الإقصاء واللاّعدالة بين المناطق والمكوّنات العراقية وتدخّلات الجوارين الإيراني والسعودي لتسهم إلى عوامل خارجية أخرى في خلق «داعش» التي باتت القوّة الأساسية المسيطرة على مساحات واسعة من أراضي العراق والمزيلة للحدود امتدادا في اتّجاه سورية فضلاً عن تمدّدها السريع صوب الحدود الأردنية والسعودية والتي تعدّ من أخطر ما يهدّد أقلّه راهناً وحدة العراق وسورية. فكيف للعراق أن يستعيد وحدة أرضه وشعبه ما دام وضعه كما هو باد على يد «داعش» فضلاً عمّا هو عليه وضع كردستان العراق وواقع التدخّلات الخارجية الإقليمية والدولية؟!

لبنان بدوره ليس بعيداً من هذا السيناريو التفكيكي. فبلاد الشام مقبلة وفق تدحرج الأوضاع في العراق وسورية وفلسطين المحتلّة على وضع جيوسياسي جديد: إمّا أن ينتصر محور المقاومة وفي ذلك ترتيب جيو-سياسي وحدوي مختلف عمّا هو قائم. وإمّا أن ينتصر المحور الأميركي-الصهيوني وفي ذلك ترتيب جيو-سياسي تفكيكي وتفتيتي مختلف عن الاثنين معاً. وفي الحالين يبدو أنّ دول سايكس- بيكو ذاهبة إلى ترسيمات وخرائط جيو-سياسية جديدة.

هذا هو الواقع الجيو-سياسي في بعض الدول العربية الناتج عن تداعيات «الربيع العربي» ما يشرّع الكلام على مخاطر تفكّك الدولة القطرية وتداعياته على مشروع الوحدة العربية.

ما بعد «الدولة الإسلامية في العراق والشام»

بعيداً من نظرية المؤامرة في إيجاد داعش وإظهارها بهذه القوّة للقيام بوظائف إقليمية متعدّدة، وبعيداً من سردية الأسباب التي كانت في أساس قيام هذه «الدولة» ومقارباتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجهادية، ومن منظور آخر، طبيعة البحث تقتضي مسألة أخرى:

تنظيم القاعدة لم يطلق عمله في العراق كما ادّعت زوراً الإدارة الأميركية في زمن بوش الابن ووزير خارجيته كولن باول واختلاقاً لسبب إضافي لتدمير الدولة العراقية، بل إنّ تنظيم القاعدة بدأ ينشط مع انهيار الدولة العراقية على يد الاحتلال الأميركي. انهيار الدولة العراقية إذاً كان مخطّطاً أميركياً مدروساً كمقدّمة لتنفيذ مؤامرة «الفوضى البنّاءة» واستجلاب مقاتلي القاعدة أتى في هذا السياق.

على النحو الذي انتهى في أفغانستان بدأ تنظيم القاعدة بمقاتلة جيش الاحتلال ثمّ انخرط في الحرب الأهلية بقيادة أبو مصعب الزرقاوي في مواجهة مفتوحة مع «قوات بدر» و»الصحوات». تنظيم القاعدة وسّع حركة نشاطه بدءاً بجيش الاحتلال وانتهاء بأطراف العملية السياسية سنّة وشيعة ما أشعل مسلسل الحروب الداخلية. والهدف هو الإمعان في تدمير الدولة العراقية.

هذه الحروب بلغت حدّها الأقصى في عهد المالكي الذي لم يتمكنّ من إقامة حكم متوازن بين مكوّنات الشعب العراقي في نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية.

عدم إقامة حكم متوازن أسهم في المزيد من الانهيارات في مؤسسات الدولة خصوصاً المؤسسة العسكرية ما مكّن التنظيم من الاحتلال السريع لعدد من المحافظات حتى إزالة الحدود مع سورية ودخولها ووصوله إلى الحدود التركية والأردنية والسعودية.

تنظيم القاعدة بمسمياته المتعدّدة لم يطلق أعماله في سورية إلّا بعد توسّعه في العراق وبعد نجاح الجيش العربي السوري في استرجاع العديد من المواقع من أيدي التنظيمات العسكرية المسلّحة، وبالسرعة نفسها تمكّن من السيطرة على مساحات واسعة من سورية فأعاد التوازن إلى الميدان وهو توازن مراقب ومحفوظ إقليمياً تركيا وإسرائيل ودولياً قوات التحالف . والهدف تدمير الدولة السورية.

هذا التمدّد السريع في العراق وفي سورية أنتج معطيات تفكيكية وتفتيتية إضافية عمّا كان موجوداً في أصل البنية العراقية والسورية. فالسلطات المركزية لم تعد قادرة على بسط سيادتها الوطنية على كامل ترابها الوطني فضلاً عن طموحات استقلالية لدى الأكراد وجدت فرصتها التاريخية في تعزيز استقلاليتها عن حكومات مركزية عاجزة عن حمايتها فلجأت إلى وسائل حماية خاصة عسكرية وسياسية فلاقت دعماً إقليمياً ودولياً ما جعلها تنتصر في أمّ المعارك «كوباني» وفي مواجهات أخرى في الشمال العراقي.

فشلت العملية السياسية في استيعاب السنّة بالرغم من أنّ نظام الاحتلال قام على المحاصصة الطائفية/الإتنية ما قدّم فرصة ذهبية لإعادة تكوين التنظيم فتمكّن من استجماع قواه العسكرية مضافاً إليها قوى مسلّحة نشأت في مناطق سنّية ساءها تصرّف حكومة المالكي فضلاً عن قيادات عسكرية عليا من الجيش العراقي السابق.

هذه المكوّنات عملت تحت عنوان: «تنظيم الدولة» وتمكّنت خلال أيام من احتلال ما يقارب الستين بالمئة من مساحة العراق وبدأت تشكّل خطراً حقيقياً على بغداد وإقليم كردستان العراق.

بعد تمدّده في العراق وفي مناطق سورية كانت خارج سيطرة الجيش العربي السوري تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من إزالة الحدود بين العراق وسورية وإحداث خروقات واسعة في الداخل حيث وجد له بيئات حاضنة. وفي سياق الحرب على سورية وفيها لقي التنظيم دعماً واضحاً من تركيا.

ضربات التحالف حدّت من توسّع التنظيم لا بل ساعدت في انتزاع مناطق منه في العراق وساعدت الأكراد في طرده من كوباني وحصر امتداده وحربها معه يبدو أنّها ستمتدّ لسنوات ما يعني أنّ الدولة السورية والدولة العراقية ذاهبتان إلى مزيد من التفكّك ما لم يستطع الجيشان السوري والعراقي من تحقيق انتصارات حاسمة على المدى المنظور.

الأكراد حسموا مصير كركوك من جانب واحد وحدّدوا الأراضي الكردية وأعلنوا البيشمركة جيشاً للدفاع عن سيادتهم عليها.

الأزيديون بعد تحرير جبال سنجار لم يتأخّروا في إعلانها منطقة أزيدية.

المسيحيون وأقليات أخرى هجّروا إلى دول مجاورة وبعيدة.

هذا في العراق أمّا في سورية فالأكراد استعادوا كوباني ويقاتلون على جبهات الحسكة.

دخل العراق منذ احتلاله في عام 2003 مرحلة الانفجار بين مكوّناته ففقد هويته الوطنية وتنازعته الهويات الطائفية والإتنية فانفتح على المجهول:

العملية السياسية التي ترعى مسيرتها أميركا وإيران معرّضة للانهيار في لحظة افتراق أو خلاف أميركي/إيراني على مدى النفوذ. عامل «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يحظى باهتمام الفريقين لجهة توظيفه في الضغط والضغط المضاد. حدود تمدّده لن تتجاوز حدود المصالح الأميركية. ومن المحلّلين من يذهب إلى أنّ وظيفته لن تتجاوز سنوات معدودات بدأت بعشر لتنخفض إلى ثلاث كما جاء على ألسنة مسؤولين أميركيين .

عامل الدولة الإسلامية في العراق والشام يشكّل عبئاً على إيران ويهدّد مصالحها في عراق وجدت في الاحتلال الأميركي فرصة تاريخية لإدخاله في حيّزها الجيو-سياسي. فمهما كان الموقف على وفاق أو على خلاف مع أميركا فالحرب على تنظيم الدولة في العراق وسورية بدعم إيراني مباشر وغير مباشر مستمرّ.

هذا الواقع الميداني في حال استمراره بين كرّ وفرّ بين دعم خارجي وتردّد ثمّ توجيه ضربات مدروسة تقوم بها قوى التحالف لهذا الطرف وذاك وفق مقتضيات المصالح ينذر بأن بلاد الشام كلّها باتت في فوهة بركان لن يوفّر في حال استمراره دول الخليج العربي ودولتي الجوار تركيا وإيران فضلاً عن دولة الكيان الصهيوني.

تمدّد الدولة الإسلامية داخل العراق وسورية، فضلاً عن وجوده في مناطق من ليبيا والجزائر وتونس ومصر واليمن، يجعل مستقبل الدولة القطرية موضع تساؤل. فتداعيات هذين التمدّد والوجود السياسية والدينية ستتعدّى الحيّز الجغرافي لكلّ من هذه الأقطار إلى مساحة الوطن العربي كلّه، بكلّ تأكيد، وربّما إلى دول الجوار الآسيوي والأفريقي والأوروبي.

لقد أحدثت الدولة الإسلامية بركاناً سياسياً ودينياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لن يهدأ ما لم تنفّذ المخططات الأميركية في إشعال حروب ثابتة ومتنقّلة هدفها تفكيك الدولة القطرية وإنهاء التفكير بمشروع الوحدة العربية.

مآل الدولة القطرية: من النموذج الوحدوي الاستبدادي إلى الفيدرالي التقسيمي

نظام الحكم الوحدوي الاستبدادي في معظم الدول العربية يبقى واحداً ولو تعدّدت تسمياته. وظيفته ضبط مكوّنات المجتمع وإدامة السلطة بيد الحاكم. يحافظ على وحدة الكيان القطري ويسلب من المواطنين، أفراداً وجماعات، حرّياتهم الأساسية ولكنّ الكيان مهما اشتدّت قبضة الاستبداد يبقى مفتوحاً على التشظّي.

نظام الحكم الفيدرالي التقسيمي وظيفته توزيع السلطات المركزية والمحلّية محاصصة على مكوّنات المجتمع وإدامة السلطة رهن التجاذبات والتقاطعات المصلحية ويفتح على تعميق التناقضات حتى حدود الانفصال. يحافظ على حرية المكوّنات ولكنه يفرّط بوحدة الكيان القطري.

في المشهد السياسي الراهن يبدو أن الدول العربية التي تجتاحها نار الفتن والحروب الداخلية ذاهبة إلى نظام الحكم الفيدرالي التقسيمي العراق، ليبيا، اليمن، سورية، لبنان..

بين هذين النموذجين يسجّل غياب النموذج الديمقراطي ضامن وحدة المجتمع والدولة وحريات المواطنين.

معظم مجتمعات الدولة القطرية تتّصف بالتعدّدية التي كان من الطبيعي عبر التدرّج التاريخي والوعي المصلحي أن تعبّر عن نفسها بأنظمة ديمقراطية وأن تكسر أطواق انتماءاتها الفرعية لتأخذ المواطنة هوية أصلية واحدة ولكن أنظمة الاستبداد الفئوي بمسمّياته كافة أدخل المجتمعات في حروب «الهويات القاتلة».

هذه الحروب القاتلة فعلاً ليس فقط لأبنائها ومجتمعاتها ودولها القطرية فقط بل لأيّ إمكان مفتوح لإنجاح مشروع الوحدة العربية المتطلّع إلى بناء الدولة الوطنية بشروطها التامة عبوراً منها إلى الدولة القومية بدستورها الاتّحادي. الولايات المتّحدة العربية أو الاتحاد العربي .

انهيار الدولة القطرية وإشكالية الدولة/الأمّة في مشروع الوحدة العربية

من بديهيات الفكر القومي حتمية قيام الوحدة العربية استناداً إلى وحدة الأمّة.

انهيار الدولة القطرية بسبب التفاعلات الضدّية بين مكوّنات المجتمع يدعو إلى مراجعة بديهيات الفكر القومي المترسّبة في الأذهان والحائلة دون التفكير الواقعي والموضوعي ودراسة المعطيات الاجتماعية والثقافية باعتماد مناهج العلوم الحديثة في الاجتماع التركيب المجتمعي والحضارة والثقافة التكوين الجمعي أو تكوين الأمّة والبيئة والتاريخ المكان والزمان والاقتصاد التنمية والإناسة الإتنولوجيا أو علم الأقوام كي يتكوّن لدينا بناء فكري متماسك بشأن الوحدة العربية. إنّ مناهج العلوم الحديثة تعيد البديهيات والمسلّمات إلى نصابها التاريخي وتخضعها لتدقيق علمي يكشف العوامل المؤاتية وغير المؤاتية لوضعها أو عدم وضعها في مصاف الحقائق الثابتة ولحتمية تحوّلها أو إمكان تحوّلها إلى وقائع.

فكرة الوحدة العربية لها في «ثقافة الأمّة» الثقافة من حيث هي تجسيد لما هو معنوي في الأمّة من المقوّمات ما يعزّز إمكان تحوّلها إلى واقع. ولها في «حال الأمّة» الحال من حيث هي تجسيد لما هو مادي في الأمّة من الأدلّة ما يعزّز عدم إمكان تحوّلها إلى واقع.

هذه هي إشكالية الوحدة العربية المعبّر عنها بالمشروع أي بما ينبغي أن يقوم أو يحقّق أو ينجز. إنّها إشكالية العلاقة بين «معنويات الأمّة» و»مادياتها»، بين «ثقافتها» و»حالها».

انهيار الدولة القطرية مظهر من مظاهر حال الأمّة… وهو مظهر تفكيكي.

اللغة أو الدين أو التاريخ والتراث من مقوّمات ثقافة الأمّة. وهي مقوّمات توحيدية.

إذا كانت «معنويات الأمّة» هي البنية الفوقية للمجتمعات العربية فإنّ «مادّياتها» هي بنيتها التحتية. جدلية التكوين والتأثّر والتأثير بينهما تخضع مشروع الوحدة العربية لتناقضاتها الحادّة. والمشروع لن يجد طريقه إلى الإنجاز ما دام هذا التناقض إلى ازدياد. وما انهيار الدولة القطرية سوى الدليل القاطع على هذا الازدياد.

إنّ إشكالية الدولة القطرية التي طالما فهمت إشكالية نظام أو حاكم باتت في واقعها الراهن إشكالية بنيوية ليس فقط في طبيعة النظام السياسي-الأمني-البوليسي الفاسد أو في مزاجية الحاكم المستبدّ المستتبع بل إشكالية بنيوية في طبيعة المجتمعات العربية وطبيعة مكوّناته الدينية والمذهبية والإتنية. وهذا هو الأساس في إشكالية الوحدة العربية. فالوحدة تبقى افتراضية ما دامت مشدودة إلى «المتخيّل السياسي» المتفلّت من أحكام الزمان والمكان ومن المعطى الملموس المتحوّل فيهما وتصبح ممكنة التحقّق أو غير ممكنة متى فهمت في ضوء «المعقول السياسي» الذي لا يخرج عن الحيّز الواقعي المتحوّل في الزمان والمكان. واقع الدولة القطرية المتحوّل يفرض نفسه على «المخيال السياسي» الذي طالما نادى بوحدة عربية تبنى على «معنويات الأمّة» أو الثابت فيها الدين، التراث، اللغة، الهويّة العامة فبدّل المعادلة في اتّجاه بنائها على «ماديات الأمّة» أو المتحوّل فيها تعدّديات مكوّنات المجتمع والهويات الخاصّة، شبكات المصالح، مستويات التنمية، منظومات القيم والمعارف والأفكار أو الإيديولوجيات، الفوارق الطبقية، الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

هذه الماديات ليست واحدة وليست ثابتة لا في المستوى القطري ولا في المستوى القومي. فالأقطار التي تعرّضت لتداعيات « الربيع العربي» برزت فيها «التناقضات المادية والمعنوية» وخرجت من الكمون إلى العلن بصورة واقعية يبدو معها إيجاد «تسويات تاريخية وطنية» أمراً غير متيسّر في المدى المنظور.

القسم الثالث: التسوية التاريخية على الدولة الوطنية ومنها إلى الوحدة العربية

صيرورة الأحداث الجارية تحمل على الاعتقاد بأنّ سايكس- بيكو جديداً نتيجة «الفوضى الخلاّقة» التي أحدثها «الربيع العربي» سيلغي بعض الدول القطرية القائمة لينشئ مكانها دولاً أخرى تتّسع للتكتّلات الطائفية والمذهبية والإتنية.

إن صحّ ذلك فالسؤال المطروح ماذا تبقّى من مرتكزات موضوعية لمشروع الوحدة العربية؟

الوحدة العربية لا تقوم بين دول طائفية ومذهبية وإتنية أو سلالية بل بين دول وطنية متماسكة تتكامل فيها المكوّنات وفق آليات تنظيم المجال العام الدستور، القوانين، مؤسسات الحكم والتشريع والقضاء، المؤسسات العسكرية والأمنية، المؤسسات والإدارات العامة.. فضلاً عن وجود منظّمات مجتمع مدني وقيادات وأحزاب ونقابات ذات أفكار وبرامج وممارسات وطنية وحركة شعبية تواكب وتحاسب.

تنظيم المجال العام وفق هذه الآليات يحفظ للدولة قوّتها وتماسكها وقدرتها على إقناع مواطنيها، مهما تباينت انتماءاتهم، بجعل الولاء لها فوق أيّ ولاء آخر.

هنا الدولة لم تعد قوّة إكراه بل صارت قوّة إقناع، لم تعد قوّة تهميش وإقصاء بل قوّة جذب واستيعاب، لم تعد قويّة بالتفرّد والتسلّط بل بالتعدّد والمشاركة.

التعدّدية الاجتماعية والثقافية حالة قائمة في المجتمعات العربية. تنظيم المجال العام يحوّلها إلى تعدّدية سياسية فيستقيم أمر الدولة والمجتمع وتستوي العلاقة بينهما.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى