الفيتو الروسي الخامس

حسين حمّود

في القرن الثامن عشر وصفت الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية التي لقبت بـ«العظمى»، سورية بأنها غرفة نومها، شارحة هذا الوصف الرمزي بالقول: «سورية مفتاح بيتي، أي روسيا وبوابتها إلى عصر جديد»، مضيفة: «أمن روسيا الامبراطورية آنذاك من أمن سورية». غرفة النوم في القرن الثامن عشر، أي سورية، هي، كما كل غرف النوم، «خط أحمر» حسب توصيف وزير الخارجية الروسي في القرن الواحد والعشرين سيرغي لافروف. ومن أجلها، تصنع «المعجزات» التي اجترح إحداها قيصر الكرملين فلاديمير بوتين، منطلقاً من أرض الواقع التي لم تعد تقبل اجتهادات ووجهات نظر لما يحصل فيها. الإرهاب يصبغ هذه الأرض بالدم. كان هذا ممكناً قبل أن يصل السكين إلى رقبة المولّدين لـ«القاعدة» ومتفرعاتها: «جبهة النصرة» و«تنظيم الدولة الاسلامية» داعش ، لا سيما الأخير الذي هزت تفجيراته الأخيرة ليس القطيف والكويت، وغيرهما من العواصم العربية والغربية، فقط، بل أيضاً، الأهمّ، هزّت العروش في شبه الجزيرة العربية القائم بعضها منذ القرن السابع عشر، حتى باتت تعيش في كابوس مزعج، لا سيما أنّ الهدف الأول لـ«داعش» هو مكة. من هذا المستجدّ، اقترح بوتين إنشاء تحالف رباعي بين «الإخوة الأعداء» لمحاربة الوحش المهدّد للجميع. لكن قبل هذا التمني، حدّد سقف التحالف ومرتكزاته وغايته، مبدّداً كلّ اللغط حول سياسة روسيا تجاه سورية، مكرّراً عدم التخلي عن سورية والرئيس بشّار الأسد، مهما كانت المغريات، السياسية والاقتصادية التي حاول أعداء سورية، استمالة موسكو بها، إلى صفهم. فجاء موقف موسكو، من أعلى سلطة فيها، بمثابة الفيتو الروسي الخامس ضدّ مشروع إسقاط الأسد ومن خلفه سورية، المستمرّ منذ أكثر من أربع سنوات. وبعد ذلك بدأت تصل دمشق إشارات ايجابية، بإيعاز سعودي جاءت أولاها من الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي قبيل صعوده سلم الطائرة متوجهاً إلى موسكو. فهل بدأ العدّ العكسي لإعلان هزيمة الحرب على سورية وإعادة تشكيل قوة عربية جديدة لمواجهة تفتيت الأمة وتقسيمها، كما حلمت بها رومانسية جمال عبد الناصر الثورية؟

فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المعسكر المعادي لسورية وحلفائها، بموقف جازم منحاز إلى سورية نظاماً ورئيساً وشعباً. واللافت في موقف بوتين من حيث الشكل، بعد المضمون، انه أطلق في محفل اقتصادي، تنتج منه عادة صفقات اقتصادية، تشمل مجالات تجارية وعسكرية وتنموية وغيرها من شؤون تعتبر مهمة وأساسية للدول المشاركة في المحفل الذي يفوق أهمية مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.

فعلى هامش فاعليات منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي في روسيا، في 18 حزيران الماضي، والذي شاركت فيه 114 دولة من مختلف القارات، عبر ممثلي الشركات وقطاع الأعمال عموماً، وصولاً إلى رؤساء دول وحكومات وأبرزها المملكة العربية السعودية التي قادت الحرب على سورية، كرّر بوتين موقف بلاده تجاه الأحداث في سورية، من دون مواربة او مساومة سياسية واقتصادية ومالية عليه، مسقطاً آخر طموح وآمال لأعدائها في إمكان تغيير أو على الأقلّ تعديل موقف الكرملين الصلب في هذا الملف الشائك.

فأكد بوتين أنّ «روسيا مستعدّة لإجراء حوار مع الرئيس بشار الأسد للقيام بإصلاحات سياسية في البلاد»، وقال: «إننا على استعداد للدخول في حوار مع الرئيس الأسد لجهة أن يقوم وبالتعاون مع المعارضة السلمية بإجراء إصلاح سياسي»، معرباً عن اعتقاده «بأنّ هذا الأمر بنّاء للغاية وقابل للتنفيذ».

وفي ردّه على سؤال حول إمكان طلب روسيا من الرئيس الأسد التخلي عن منصبه، قال الرئيس الروسي «إنّ هذا الموضوع لا يمكن لأحد أن يطرحه سوى الشعب السوري بذاته»، لافتاً في المقابل إلى «أننا مستعدّون للاستمرار بالعمل مع الرئيس الأسد لضمان الطريق إلى التحوّلات السياسية كي يشعر جميع المواطنين في سورية بإمكان الوصول إلى آليات الحكم والابتعاد عن المواجهة المسلحة، ولكن ذلك لا يمكن تحقيقه من طريق استخدام القوة»، جازماً بـ«أننا لا نريد أن تقع سورية في المصير الذي وقعت فيه ليبيا والعراق».

وقال: «هذا هو موقفنا، من هنا ننطلق فيه لدعم الحكومة السورية الشرعية ودعم الرئيس بشار الأسد، ويجب ألاّ يتوقع أحد منا موقفاً آخر، ونحن مقتنعون بهذا الموقف، وسنستمرّ عليه ومستعدّون لمساعدة ودعم الرئيس بشار الأسد لإجراء إصلاحات سياسية في البلاد».

ما قاله بوتين ليس موقفاً سياسياً فحسب او تصريحاً للإعلام، بل هو بحسب أوساط سياسية، بمثابة فيتو جديد على ما يُبذل من محاولات حثيثة لإسقاط النظام في سورية، مع تأكيد بوتين على شرعية هذا النظام وحكومته».

ولاحظت الأوساط أنّ كلام الرئيس الروسي جاء أثناء وجود وفد سعودي رفيع المستوى، وهو الأول الذي يزور موسكو في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، وترأسه نجل الأخير ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع محمد بن سلمان وضمّ وزراء عدة يشغلون وزارات اقتصادية، إضافة إلى وزير الخارجية عادل الجبير الذي خلف سعود الفيصل الذي كانت له مواقف حادّة جداً من روسيا بسبب موقفها الداعم لسورية ورئيسها.

كما لاحظت الأوساط أنّ زيارة الوفد السعودي، وعلى رغم موقف بوتين من الملف السوري، بتوقيع اتفاقات، من شأنها أن تبقي جسور التواصل واللقاءات الروسية – السعودية مفتوحة، إذ تشمل تلك الاتفاقات شؤوناً تتعلق بالتعاون في مجال استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية وتفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري. ليس هذا فحسب، بل كان لرئيس الوفد السعودي تصريح ودّي معلناً أنّ الملك سلمان سيلبّي دعوة الرئيس بوتين لزيارة موسكو قريباً.

وكرّر بوتين مضمون مواقفه في سان بطرسبورغ أمام وزير الخارجية السوري وليد المعلم خلال زيارة الأخير على رأس وفد رسمي موسكو نهاية الشهر الماضي، فيما ركز وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على ضرورة تطبيق مقرّرات «مؤتمر جنيف – 1» الذي انعقد عام 2012 بحضور ما سُمّي «مجموعة العمل حول سورية»، التي تضمّ الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى تركيا ودول تمثل الجامعة العربية. ودعا المؤتمر في نهاية أعماله إلى انتخابات مبكرة وتعديلات دستورية لإنهاء الأزمة، غير أنّ المبادرة لم تشر إلى تنحّي الرئيس الأسد.

الخليج ينطق بـ«العربي»

وفيما لم تصدر أيّ تعليقات عربية وخليجية تحديداً، على تصريحات بوتين، أطلق الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي مفاجأة أخرى، وهو المعروف بأنه كان رأس الحربة الخليجية في الحرب السياسية على سورية لدرجة تعليق مشاركة سورية النظام في اجتماعات الجامعة واحتضانه بصفته الرسمية المعارضة السورية.

فأكد العربي «أنّ أفضل حلّ للأزمة القائمة في سورية هو تشكيل حكومة وحدة وطنية»، مجدّداً دعمه البيان الصادر عن اجتماع «جنيف-1». وشدّد على «أنّ الحلّ في سورية يجب أن يكون سورياً، أيّ أنّ السوريين يجب أن يتفقوا على مستقبل بلادهم».

وأعلن العربي استعداده للقاء مسؤولين سوريين، لا سيما الوزير المعلم.

وكشفت الأوساط السياسية انّ تصريحات العربي هي بإيعاز خليجي، بعد أن وعد الأمير محمد بن سلمان انّ الرياض ستطلق اشارات ايجابية تجاه سورية والرئيس الأسد وما موقف العربي إلا بداية الغيث، كما انّ العربي يعكس أيضاً الموقف المصري وإنْ بصورة غير مباشرة.

نار «داعش» تشعل الخليج

لم تكتف روسيا بالرسائل التي وجهتها إلى سورية وخصومها من خلال مواقف بوتين، بل أتبع الأخير «الفيتو» الذي رفعه في وجه المطالبين بتنحّي الأسد أو البحث عن حلّ للأزمة السورية من دونه، بمقترح شبّهه الوزير المعلم بـ«المعجزة»، لكن الرئيس الروسي أكد أنّ ما يطرحه هو نتيجة إشارات ومعطيات تلقاها من دول عدة.

فتمنّى بوتين أثناء وجود المعلم في موسكو، إنشاء تحالف دولي- إقليمي يضمّ سورية وتركيا والسعودية والأردن من أجل مكافحة الإرهاب.

وكشف الرئيس الروسي أنّ موسكو «تتلقى خلال اتصالاتها مع دول المنطقة التي تربطها بها علاقات طيبة جداً، إشارات تدلّ على استعداد تلك الدول للإسهام بقسطها في مواجهة الشرّ الذي يمثله «داعش». وأوضح أنّ ذلك «يتعلق بتركيا والأردن والسعودية».

لكن المعلّم شكك بإمكان قيام هذا الائتلاف. وسأل: «كيف تتحوّل هذه الدول التي تآمرت على سورية وشجعت الإرهاب وموّلته وسلحته … إلى حليف لمكافحة الإرهاب؟».

وعلى رغم ذلك، أعلن مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف، أن «في الأفق القريب ليس مستبعداً إجراء اتصالات بين ممثلي القيادة السورية ودول لها دور في الصراع، بما فيها السعودية. مع الأخذ في الاعتبار الخطورة البالغة للوضع الراهن، ومن المحبّذ ترك الأذى القديم جانباً وتسوية الخلافات القائمة وتوحيد الجهود للتصدي لداعش».

لكن قاعدة «عفا الله عما مضى» لا تستسيغها القيادة السورية بالمطلق، ويقول مراقبون في هذا الصدد، إنّ سورية ترفض فتح أبوابها راهناً لمن «آذى الشعب السوري طيلة أربع سنوات ونصف من دون رحمة، وإنْ كان من إمكان للجلوس مع هؤلاء في قاعة واحدة، فيمكن من خلال مؤتمر موسع جداً يضمّ أكثر من ستين دولة إذا قدّر لهذا الحلف ان يبصر النور».

أما في الجانب السعودي، فترى أوساط مطلعة أنّ الرياض وصلت إلى جملة مآزق لا تستطيع الخروج منها إلاّ بمساعدة روسيا حفاظاً على وحدة السعودية ونظامها. ومنها المأزق في اليمن وانسداد الأفق أمام الحرب التي شنتها عليه. وبالفعل أوكلت بهذا الملف إلى روسيا خلال زيارة الوفد السعودي الأخير إلى موسكو.

وكذلك في سورية وقد بدأت ترسل إشارات إيجابية إلى قيادتها، وتصريح العربي يندرج في هذا الإطار. ويُضاف إلى ذلك عامل أهمّ وهو وصول نار «داعش» إلى عقر الدار السعودية.

ففي الثالث والعشرين من شهر أيار الماضي أقدم أحد الأشخاص على تفجير نفسه بحزام ناسف بين المصلين في مسجد الإمام علي بن أبي طالب في بلدة القديح في محافظة القطيف، ما أدّى إلى مقتل 21 شخصاً، وإصابة 101 من المصلين. وأعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليته عن هذه الجريمة.

وسبق هذا التفجير إطلاق النار على إحدى دوريات أمن المنشآت أثناء قيامها بمهمات الحراسة في محيط موقع «الخزن» الاستراتيجي جنوب الرياض في 8 أيار الفائت، ما ادّى إلى مقتل قائدها الجندي ماجد عائض الغامدي، والتمثيل بجثته بإشعال النار فيها. وأظهرت التحقيقات أنّ تنظيم «داعش» هو المسؤول عن الاعتداء.

وفي التاسع والعشرين من الشهر نفسه وأثناء أداء المصلين صلاة الجمعة في جامع الإمام الحسين في حي العنود بمدينة الدمام قام أحد الأشخاص من «داعش» متنكراً في زيّ نسائي الدخول إلى قسم النساء وعندما علم أنه مغلق قام بمحاولة الدخول إلى مصلى الرجال ما أثار حوله الريبة والشك فقام عدد من المصلين المتطوّعين لحماية المسجد باستيقافه ومحاولة تفتيشه، وبعد اكتشاف أمره قام بتفجير نفسه خارج المسجد ما أسفر عن مقتله وثلاثة آخرين من المصلين وجرح 4 آخرين. وقد أعلن تنظيم «داعش» مسؤوليته عن الهجوم.

ومن السعودية انتقلت التفجيرات إلى الكويت، حيث استهدف تفجير انتحاري مسجد الإمام الصادق في حي الصوابر في 26 حزيران الفائت، وذلك أثناء أداء صلاة الجمعة، ونتج منه مقتل ما لا يقلّ عن 27 شخصاً وجرح 227 شخصاً آخرين على الأقلّ. وتبنى «داعش» الهجوم. وبالتزامن حدثت تفجيرات في تونس وفرنسا أوقعت عشرات القتلى والجرحى.

هذه التفجيرات أقلقت القيادة السعودية خصوصاً، والخليجية عموماً بسبب حرية حركة الانتحاريين في دولهم وتكثيف عملياتهم فيها في ما يمكن ان تشكل مجتمعاتهم بيئة حاضنة للإرهابيين كونهم من الشرائح الدينية نفسها، مع العلم أنّ هدف «داعش» المعلن في الخليج هو احتلال مكة.

لكلّ ذلك تبدو السعودية قريبة جداً من طرح بوتين فكرة التحالف الواسع ضد «داعش».

القوة والمال

ومع ذلك يبدو المقترح الروسي حتى الآن حلماً رومانسياً، يشبه إلى حدّ ما رومانسية الحلم الناصري في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

فبعد «ثورة يوليو» عام 1952 وخلع الملك فاروق عن عرش مصر، ألهم «الضباط الأحرار» على قلة عددهم، العديد من الضباط في الدول العربية لحذو حذوهم، فقامت ثورات مشابهة في عدد من الدول، لا سيما في اليمن وسورية، كما صعدت الحركات التحرّرية في دول أخرى وباتت تهدّد انظمتها. هذا المدّ الثوري ألهم بدوره الناصريين الذين تابعوا نضالهم ضدّ مشاريع الاستعمار الهادفة الى تفتيت الأمة من أجل أمن «إسرائيل». ووجدوا أنّ هذا الأمر يحتاج إلى قوة مضاعفة عمادها مصر والسعودية، أيّ جمع القوة والثروة. وبالفعل شهدت العلاقات بين الجانبين، أيام عبد الناصر تقارباً لافتاً لهذه الغاية، لا سيما في عام 1955 حيث وقعت اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، لكنَّ الحال لم يدم طويلاً حتى نشبت خلافات عميقة أثرت في العلاقات بين البلدين لا سيما بعد تدخل الجيش المصري في اليمن، لمساندة الثورة الوليدة التي قادها المشير عبدالله السلال ضدّ النظام الملكي وعلى رأسه الإمام محمد البدر حميد الدين. وبعد إعلان السلال قيام الجمهورية في اليمن، هرب الإمام إلى السعودية وبدأ بالثورة المضادّة من هناك وتلقى الإمام البدر الدعم من السعودية والأردن وبريطانيا، فيما تلقى الجمهوريون الدعم من مصر جمال عبد الناصر الذي أرسل آلاف الجنود لمساندتهم.

لكن، هل يمكن عودة هذا الطموح بصورة أخرى بعد مقترح بوتين لمكافحة القوة التقسيمية الجديدة «داعش» الذي يقدّم خدمات جليلة لـ«إسرائيل»؟

البلدان المعنية بالاقتراح لم يصدر عنها أيّ جواب، سوى من سورية التي تراه «معجزة» لكن ليس على حساب الدم السوري، وبعض الإشارات من السعودية التي وصفت بـ«الإيجابية»… حتى الآن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى